الأولى

بقلم
فيصل العش
في الذّكرى 12 للثّورة التّونسيّة ... «الحوار صورة للعقل»
 في الذّكرى الثّانية عشرة لانتصار التّونسيين على الطّاغية «بن علي» بعد ثورة شعبيّة عارمة، قدّم فيها عدد كبير من الأمّهات فلذات أكبادهن شهداء وجرحى، قربانا للقطع مع الاستبداد وتحقيقا للحرّية والكرامة، نقف مصدومين أمام ماآلت إليه الأمور على جميع المستويات في أيقونة الثّورات العربيّة، نقف وأيدينا على قلوبنا خوفا من الانزلاق إلى نقطة اللاّعودة، نبحث في الآفاق عن قبس من نور يضيء لنا الطّريق من جديد بعد أن ساده الظّلام وعن بصيص من الأمل يخرج البلاد من غَيَابَاتِ الْجُبِّ الذي ألقتها فيه نخبها السّياسيّة. نتساءل ونحن  نلمس بوضوح الاحتقان السّياسي والاجتماعي الذي لا يبشّر بخير وفشل النّخب المتسبّبة في الوضع في إيجاد أرضيّة مشتركة للالتقاء من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. نتساءل كيف يمكن أن نبني وطنا للجميع ونحن لا نعرف معنى الحوار ولا نمارسه؟ كيف السّبيل إلى الوصول إلى حلول لمشاغلنا المتراكمة ونحن نعيش ثقافة «الأنا»؟ نمجّد الذّات ولو كانت على خطأ ونقبر «الآخر» ولو كان على صواب؟ كيف يمكن أن نتعايش فيما بيننا ونحن نتخبّط في التّلفيقيّة ونكرّر نفس أخطاء الماضي ونعمل على ترقيع الخطأ بالخطأ؟ نسدّ آذاننا ونمارس الحصار حول كلام الآخرين وآرائهم، ولا نستمع إلاّ إلى صدى كلامنا وآرائنا، ونُقنع «الأنا» فينا بأنّ الصّواب منّا وإلينا؟. ليس هناك طوق نجاة غير الحوار ولا طريق غير طريقه لهذا ارتأيت أن أكتب في هذه المناسبة عن الحوار وأذكّر به فالذكرى تنفع المؤمنين، فلعلّ في بعض النّخبة مؤمنين بحقّ هذا الشّعب المسكين في حياة كريمة يتوفّر فيها الماء والحليب كما تتوفّر فيها الحريّة والكرامة، ويشعر فيها التّونسيّ بالفخر بانتمائه إلى هذا الوطن. فماذا نقصد بالحوار؟ وكيف السّبيل إليه؟
(2) 
الأصل اللّغوي لكلمة الحوار هي «الحَوْرُ» وهو الرّجوع عن الشّيء وإلى الشّيء، وهم يتحاورون أي يتراجعون الكلام، والمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة(1). والمحاورة والحوار المراددة في الكلام ومنه التّحاور(2). قال الراغب: «الحور: التردد، إمّا بالذّات وإمّا بالفكر»(3)، والمراجعة في الكلام تكون عادة بين طرفين، وقد ورد مصطلح الحوار في القرآن الكريم في عدّة مواقع منها قوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرهُ..﴾(4)، وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾(5). أمّا اصطلاحا فيعرّف الحوار بكونه: «مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين. وعرّفه بعضهم بأنّه نوع في الحديث بين شخصين، أو فريقين يتمّ فيه تداول الكلام بينهما بطريقة متكافئة، فلا يستأثر أحدهما دون الآخر، ويغلب عليه الهدوء والبعد عن الخصومة والتّعصب، وهو ضرب من الأدب الرّفيع وأسلوب من أساليبه(5).
والفرق بين الحوار والجدال هو أنّ الجدال شدّة في الكلام، مع التّمسك بالرّأي والتّعصب له، وأمّا الحوار فهو مجرد مراجعة الكلام بين الطّرفين دون وجود خصومة بالضّرورة، بل الغالب عليه الهدوء والبعد عن التّعصب(7). وقد ورد مصطلحي الحوار والجدال في سياق واحد، قال تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ (8). 
ويمكن تعريف الحوار أيضاً بأنّه تَعاونٌ بين الأطراف المُتحاورة بِهدف مَعرفة الحقيقة والوصول إليها، وفيه يكشِف كلّ طرف عن كلّ ما خَفِيَ عن الطّرف الآخر، يَقول الحافظ الذّهبي: «إنّما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ»(9)، وفي القرآن الكريم جاء الحِوار بِمعنى المُجادلة بالحُسنى. قال تعالى: ﴿أُدْعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ (10)
(3)
ليس هدف الحوار إلغاء الآخر، ونجاح «الأنا» ليس مرهونا بفشل «الآخر» لأنّ الذّاتيّة والغيريّة لا يتناقضان بالضّرورة، فالحوار اختزال للمسافات بين «الأنا» و«الآخر» وردم للهوّة السّحيقة التي تفصل بين طرفي الحوار وجسر تواصل وتفاعل خصب، يساعد على تكامل الآراء واتساع الأفق الفكري الذي يستوعب الحقيقة مهما كان مصدرها .
والحوار مواجهة لموضوع ما نبحث عن جذوره لنستجلي الحقيقة بنيّة الاستفادة قبل الإفادة وليس مواجهة للطّرف المتحاور معنا. الحوار كما قال أحدهم «معرفة بها نتطلّع للحقيقة بالسّؤال والبحث لا إيديولوجيا تجنح نحو الانكماش والتّقوقع». فحين يعتنق أحدنا أيديولوجيا ما، أو ينحاز إليها، فإنّ هذه الأيديولوجيا تغدو النظّارة التي يرى من خلالها العالم. وليس هذا فحسب؛ بل ويُخطِّئ المختلفين معه بالمطلق. فتغدو المعرفة، إذ ذاك، أسيرة الأيديولوجيا وليست عمليّة كشف وفهم وتفسير وموضوعيّة، وهذا هو معنى العائق الأيديولوجي للمعرفة.
ويتطلّب نجاح الحوار الإنطلاق فيه بدون خلفيّات مسبقة ولا قدسيّة لفكرة على حساب أخرى وهو ما عبّر عنه الشّافعي بقولته: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصّواب»وقول فولتير: «قد أختلف معك في الرّأي، ولكنّي مستعدّ أن أموت كي تقول رأيك». 
تقوم ثقافة الحوار على التّسامح والتّعايش، وهي مفتاح للتخلّص من الخلافات، وركيزة أساسيّة لأيّ مشروع مجتمعي ديمقراطي وشرط ضروري للسّلام والتّقدم الاجتماعي، وبواسطتها نستطيع القضاء على التّعصب والتّمييز والكراهيّة ونقطع بذلك الطّريق أمام الاستبداد والدّكتاتوريّة، لأنّهما لا ينبتان في مجتمع شعاره الحوار والتّسامح. لهذا عمل الاستبداد طيلة فترة هيمنته على تدمير ثقافة الحوار وبثّ ثقافة الاستبداد وغرسها في العقول منذ الصّغر عبر جميع الوسائل المتاحة، فلم يترك مجالا من المجالات إلاّ وصبغه بهذه الثّقافة، فأفسد بذلك صفاء النّفوس وعطّل آداء العقول وشوّش أجهزة السّمع والبصر، فأصبح النّاس يعيشون في حالة من الفوضى والتّناحر والضّعف والتبعيّة للمستبد.
(4) 
إنّ غياب الحوار عن المجتمع يعني غياب الحرّية، وحقّ التّعبير عن الأفكار والآراء، وهو دليل على هيمنة ثقافة الاستبداد ومصادرة حرّية الفكر والثّقافة، كما أنّ غياب الحوار دليل على طغيان «الفرديّة» ونبذ الآخر وإقصائه. وعندما يشوه الحوار أو تتمّ مصادرته، فإنّ قدرة المجتمع على البناء والإصلاح تغدو هشّة لا رجاء منها.
ما أحوجنا إلى حوار بناء يعترف فيه المخطِئُ ويتواضع من خلاله المصيب، الغاية منه ترتيب فوضى الأفكار والبحث عن حلول للمشكلات . إنّه يتطلّب صدرا رحبا و انفتاحا مستمرّا وعقلا متفتّحا وخروجا دائما عن الذّات للإنغماس في رحاب موضوع الحوار قصد التّعرف على خباياه واكتشاف رموزه والوصول إلى إجابات للتّساؤلات العميقة المتعلّقة به والتي لا يمكن أن تكون إلاّ ثمرة جهد المتحاورين جميعا. 
الحوار ثقافة مفقودة في وطننا نتيجة سنوات طويلة من الكبت والاستبداد والإقصاء، ولا خيار لدى من يحلم بمستقبل أفضل ووطن يحترم فيه النّاس بعضهم بعضا، سوى أن يجتهد في وضع أسس هذه الثّقافة والقطع مع ثقافة الصّراع والعراك لأنّ البناء لا يتمّ بالمعاول، فالمعاول مجعولة للهدم لا للبناء.
 (5) 
إنّ غياب ثقافة الحوار هو إحدى ثمرات الاستبداد المرّة، ويتجلّى غياب هذه الثّقافة في ما رأيناه بعد الثّورة ومازلنا نراه من محاولات فرض كلّ طرف لرأيه على الآخر. فمنهم من يحاول فرض موقفه بحجّة «الشّرعية الانتخابيّة» وآخر بحجّة «الشّرعية الدّينيّة» وثالث بحجّة «حداثته وفكره التّنويري» وهو ما نراه بالعين المجرّدة على شاشات التّلفاز وفي الطّريق العام وفي المساجد والصّحف والإذاعات وصفحات التّواصل الاجتماعي... الجميع يعتمد سلاح التخوين والتّشويش ومحاولة طمس الحقائق وتحريف الكلم عن مواضعه ورفع الأصوات بكافة أنواع اللّغو حتّى تضيع الحقيقة. 
غدا غياب «ثقافة الحوار» في أوساط العمل السّياسي والثّقافي والدّيني في تونس، ظاهرة سلبيّة حيث بات إلغاء الآخر ومحاربته عنوان التّعامل بين مكوّنات المجتمع. وقد تفنّنت أطراف عديدة في استغلال وسائل التّواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام لشنّ الحملات على «الأعداء» والتّنكيل بهم كأنّهم لا ينتمون إلى نفس الوطن. حتّى أنّ العاقل منّا لم يعد قادرا على متابعة الحوارات التّلفزيّة ولا حتّى تصفّح صفحات الفايس بوك. 
إنّ سعي البعض إلى تخويف النّاس من خطورة الاستماع الى الرّأي الآخر بتعلّة عدائه للثّورة تارة أو معاداته للدّين تارة أخرى أو بتعلّة رجعيّته ورفضه للحداثة والتّقدم، أو لأنّه فاسد معاد لإرادة الشعب، مستعملين بدون خجل، ما جادت عليهم قريحتهم من عبارات الاستخفاف والتّهكم وهتك الأعراض، لن يزيد الوضع إلاّ تأزّما ولن يساعد على إيجاد الحلول العميقة لمشاكل البلاد.
فلا يمكن البحث عن مخرج للأزمة التي تعيشها البلاد ولا تحقيق أي خطوة نحو الانفراج دون تحقيق استقرار سياسي وخلق مناخ اجتماعي يساعد على العمل والاستثمار، ولن يحدث ذلك إلاّ عبر الحوار والتّفاوض، فهما السبيل الوحيد للخروج من الأزمة.
إنّنا لسنا في حاجة إلى الحماسة والصّراخ ورفع الشّعارات الرّنانة ولسنا في حاجة إلى أن يتّهم بعضنا بعضا وإنّما نحن في حاجة ملحّة إلى حكماء وعقلاء يجيدون فنون إدارة الإختلاف من أجل خلق توافق واتّفاق يصبّ في مصلحة الشّعب ويحقّق له آماله وأحلامه في عيش كريم وحرّية لا غشّ فيها ومستقبل أفضل من الحاضر.