في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
القصص القرآني من منظور جديد (13) إبراهيم عليه السّلام وقومه قبل النّبوة
 بعد قوم ثمود سكت القرآن عن أمم كثيرة أشار إليها بإجمال فقال: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ، ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا، وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ، فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾(1)، حتّى إذا اقتربت مرحلة الأمم الهالكة من نهايتها عاد القرآن إلى تسمية بعض الأمم وأنبيائها، وجعل في مقدمتهم قوم إبراهيم، ثمّ ثنى بقوم لوط، ثمّ ختم بقوم شعيب.
فما العبر المستفادة من قصّة إبراهيم وقصّة قومه؟ وما الذي انطوت عليه من إرهاص بمرحلة جديدة من تاريخ الاختلاف؟
جغرافيّة قوم إبراهيم
قوم إبراهيم إرَمِيّون، وقد زعم أهل الكتاب أنّ الإسرائيليَّ القديم أُمر أن يقول في صلواته: «أَرَامِيًّا تَائِهًا كَانَ أَبِي، فَانْحَدَرَ إِلَى مِصْرَ، وَتَغَرَّبَ هُنَاكَ فِي نَفَرٍ قَلِيل، فَصَارَ هُنَاكَ أُمَّةً كَبِيرَةً وَعَظِيمَةً وَكَثِيرَةً»(2).
جاء في مجلة لغة العرب العراقيّة التي كان يصدرها الأب أَنِسْتاس الكَرْمِلي: «إرَم (كعِنَب)، أو ‌أَرَام (كسَحَاب)، لكنْ لا (‌آرام) بمدّ الهمزة كما جاءت في بعض نسخ التّوراة المترجمة حديثةِ النّقل، أمّا في القديمة فقد جاءت إرَم أو ‌أرام. ومنه: إرَم ذات العماد» (3) .
والإشارة إلى (إرم) وقعت في نصوص أثريّة اكتشفت حديثا في شمال الجزيرة العربيّة وفي جنوبها، وخلاصة ما يستنبط من استعمالاتها الدّلالةُ على المرتفعات الشّرقيّة لجزيرة العرب، وهي التي عُرفت في اللّسان العربي المدوّن باسم (نجد)، يقول الدّكتور محمد منصور: «استعملت كلمة إرم بالتّوراة لتعني الأرض العالية(4)، وهو معنى نَجْدٍ نفسُه»(5)، «فآرام هي نَجْدٌ، واللّغة الإرميّة أو الآراميّة هي اللّغة العربيّة بلهجة شرق الجزيرة»(6).
وقد اشتهرت نسبة إبراهيم إلى (أور) المدينة العراقيّة القديمة، وهي نسبة ترتّبت على الإسقاط الخاطئ لجغرافيّة التّوراة على الهلال الخصيب وأرض النّيل، لكنّ الدّراسات الحديثة التي راجعت تلك الجغرافيّة تؤكّد أن إبراهيم وذريّته استوطنوا في الوسط من غرب جزيرة العرب، ثمّ انتشروا جنوبا حيث قامت مملكة داوود وسليمان بين مكّة واليمن.
أما الموطن الأصلي لإبراهيم عليه السّلام فقد ذهب صاحب التّوراة الحجازيّة إلى أنّه أرض اليمامة، وهي منطقة الرّياض حاليّا، والجغرافيّة المرتبطة بقصّة إبراهيم وبنيه سنعود إليها في مقال لاحق لأهمّيتها، حيث سنعالجها من مدخل قرآني.
ديانة قوم إبراهيم
الأصنام التي عبدها قوم نوح وعاد وثمود كانت شعارات حزبيّة ترمز لآباء أو حيوانات، ولم تظهر عبادة النّجوم والكواكب إلاّ بعد ذلك، وكان قوم إبراهيم عليه السّلام ممّن اتخذوها آلهة، قال ابن القيم (ت: 751 هـ): «والأصنام التي كانوا يعبدونها كانت صُورًا وتماثيل للكواكب، وكانوا يتَّخذون لها هياكل، وهي بيوتُ العبادات»(7). 
وقصّة إبراهيم المذكورة في سورة الأنعام تدلّ على أنّهم كانوا يعبدون الثّالوث النّجمي المكوّن من الشّمس والقمر والزُّهرة، وقد دلّت الآثار المكتشفة حديثا على أنّ هذه العقيدة كانت منتشرة في عموم جزيرة العرب، ومنها انتقلت إلى غيرها من الأقطار.
والشّرك كما أشرنا في الحلقات السّابقة هو صناعة المتنافسين على الثّروة والحكم، يقتطعون به من عباد اللّه المستضعفين نصيبا مفروضا، يوجبون عليهم باسم الآلهة تبعيّة عمياء، فيولد الإنسان وهو مثقل بالتزامات قبليّة أو حزبيّة ليس له فيها اختيار، ويحرم عليه مراجعتها، وهكذا قطعت الأرحام المشتركة بين النّاس، ونسي البشر إنسانيتهم المتعالية.
«والمُشكلةُ الأساسيةُ في تاريخ الإنسان تَكْمُن في عدم قُدرة الإنسان على تكوين صُورة واضحة عن ذاته خارج أنساق المجتمع وإفرازاته الفكريّة، كما أنَّ هُوِيَّة الإنسان ظَلَّتْ سجينةَ الفِعل الاجتماعي المُنعكس عن سُلطة المُجتمع، والمُتماهي معَ العلاقات الاجتماعيّة المَفروضة وَفْق سِيَاسة الأمر الواقع»(8).
وهذا العجز على التّحرر العقلي للفرد، والذي شهد عليه التّاريخ، هو الذي أوجب بعثة الأنبياء، لكن قصة إبراهيم سجّلت استثناء من هذه القاعدة.
إبراهيم الحنيف
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا ‌إِبْرَاهِيمَ ‌رُشْدهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: مَا هَذهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ قَالُوا: وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾(9). الرّشد الذي آتاه اللّه إبراهيم لم يكن عن نبوّة، بل هو رشدٌ يقع فيه الاشتراك بين العقلاء الذين تحرّروا من الآبائيّة، وقليل ما هم، والغالب أنّه لا يُدرك إلاّ بعد سنين طويلة من التّجارب، وبعد بلوغ الأشُدّ، لكنّ إبراهيم أوتي رشده في صغره، ولهذا حين قال لبعض قومه: ﴿لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ! قَالُوا: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؟﴾ (10)لأنّه كان صغيرا فلم يحملوا كلامه على محمل الجدّ، ولهذا لم يبطشوا به حينها.
وأوّل مشهد من السّيرة القرآنيّة لإبراهيم هو الذي ذكره اللّه في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ ‌آزَرَ: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً؟ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ؟ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾(11) فهاهنا نرى إبراهيم يخاطب أباه، والأب هو ممثّل سلطة المجتمع في عين الطّفل، ويتكلّم إبراهيم عن القوم بصيغة الغائب، بل يضيفهم إلى أبيه لا إلى نفسه، ويستند في خطابه على رأيه الشّخصي لا على وحي سماويّ تلقّاه، حيث توصل بالنّظر العقلي إلى بطلان عبادة الأصنام، لكنّه بقي شاكّا في المعبودات السّماويّة، لهذا استمر في ترديد النّظر إليها، واختبار إلهيّتها المزعومة بميزان العقل.
﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ: هَذَا رَبِّي. فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ! فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ: هَذَا رَبِّي. فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ: هَذَا رَبِّي، هَذَا أَكْبَرُ! فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(12) قول إبراهيم: (هذا ربي) كان قولا بمقتضى الموروث الثّقافي الذي نُشّئ فيه، وكان أيضا على وجه الاختبار، وأوّل مبدأ حَكَّمَه هو أنّ الشّراكة يلزم عنها نقص الشّركاء، والنّقص لا يليق بالإله، فلهذا قرّر أن يمتحنها ليختار أولاها بالرّبوبيّة، فاكتشف أنّ قومه ينتقلون بين ثلاث معبودات سماويّة متفاوتة الأحجام، كلّما غاب أحدها رغبوا عنه إلى الظّاهر بعده، وهي جميعا يعتريها الأفول المنافي للكمال الإلهي، فكيف لإله أن يغيب عن عابديه فيحوجهم إلى بديل عنه، مرّة على سبيل التّرقّي، ومرّة على سبيل التّدليّ.
لكن كيف عرف إبراهيم اسم اللّه تعالى، وأنّه هو فاطر السّماوات والأرض؟
الجواب أنّ ذلك من تراث الفطرة الذي تلقّته الأمم قبل أن تستعجم عن أمّة بني آدم الأولى، وبقي حيّا في ذاكرة مشركي العرب، لكنّه كان يسجن في هامش الحياة الاجتماعيّة إلى أن تحرّره دعوة الأنبياء، فبقي مستمرّ الوجود بين مدّ وجزر، لذا نرى إبراهيم يذكر اللّه باسمه العربي، ولهذا قال اللّه: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: ‌مَنْ ‌خَلَقَ ‌السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ﴾(13)، والمسؤولون المفترضون هنا هم مشركو العرب، أمّا أمم العجم المشركون فقد ضاع منهم اسم اللّه، وإن كانوا يعلمون أنّ هناك إلها أعلى هو خالق السّماوات والأرض.
وقد زعم بعض الأنثربولوجيّين والفلاسفة الغربيّين أنّ فكرة الخالق الواحد ظهرت متأخّرة في تاريخ الثّقافات، وهذا ما رفضه أندرو لانج (ت: 1912م) Andrew Lang، وهو أنثربولوجي اسكتلندي، لأنّه وجد في كتابات علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الأعراق والرَّحّالة دليلاً على الإيمان بكائن أسمى حتّى في الثّقافات التي اعتُبرت عريقة في البدائيّة. 
ثمّ تبنّى هذا الموقف وعمَّقه الأنثروبولوجي فيلهلم شميدت (ت: 1954م)، الذي عكس النّظريّة التّطوريّة فقال بأسبقيّة الاعتقاد في كائن أسمى، ثمّ تدهورت فكرة التّوحيد في المراحل الثّقافيّة اللاّحقة، وهذا التّصوّر يشهد له القرآن، إذ قال اللّه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ ‌أَسْفَلَ ‌سَافِلِينَ﴾ (14). 
وقد تواترت شهادات محقّقين من ثقافات عديدة على وجود اعتقاد في كائن أسمى بين الشّعوب التي نعتت بالبدائيّة في كلّ من إفريقيا، وجزر الأينو شمال الأرخبيل الياباني، وفي الأمريكتين، وأستراليا، وفي جميع أنحاء العالم تقريبًا (15).
إنّ اتفاق هذه الشّعوب يَدينُ لماض ثقافي مشترك، وهو الذي سمّيناه مرحلة الفطرة، وهذا المشترك الثّقافي هو الذي استند عليه الأنبياء في إقامة الحجّة على النّاس، فهو إذن مستمرّ الوجود، وإن تفاوتت حظوظ الأمم منه.
فالحجّة التي آتاها اللّه إبراهيم على قومه هي الحجّة الفطريّة، التي كان يحييها الأنبياء كلّما أماتها شياطين الإنس والجنّ، وإبراهيم لم يكن في دعوته الأولى نبيّا: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ، قَالَ: أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ، وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا، وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ، وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ، نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾(16). 
ومن هذا السّياق يتبين أنّ محاجّة القوم لإبراهيم لم تقم على براهين العقل، بل كانت مجرّد تخويف من عاقبة الكفر بآلهتهم، لهذا ردّ عليهم بالتّخويف من عاقبة الشّرك باللّه، فصارت له حجّتان: حجّة التّأسيس العقلي، وحجّة المصير الذي هو بيد اللّه لا بيد غيره.
الحجّة الصّاعقة
ضاق إبراهيم ذرعا بلامبالاة النّاس رغم الحجج الجدليّة التي أفحمهم بها، فلا أحد منهم تزحزح ولو قيد أنملة عن عقيدته الآبائيّة، صحيح أنّه لم يخاطب كلّ القوم، إذ لم تُجاوز دعوته محيطَه الضّيق، ومن سواهم سيهتم لفتىً مشاغبٍ جريء يُحرض على الخيانة القوميّة، والثّورة على الوثنيّة المحروسة بالحديد والنّار، وقد دفعته غيرته على الحقّ وكراهية الأوثان إلى التّخطيط لحيلة يفضح بها عبادة الأصنام فضيحة مدوّية، قال: ﴿وَتَاللَّهِ ‌لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾(17)، فاختار مناسبة يخلو فيها الهيكل من خدّامه ورواده، وتنقطع الحركة في محيطه كي لا يشعر بفعلته أحد، ولهذا قدّر المفسرون أنّها احتفال ديني كبير يقام خارج المدينة، ويبدو أنّ معارف إبراهيم أصرّوا على اصطحابه معهم خشية أن يُحدث في غيابهم ما لا تحمد عقباه، لكنّه تظاهر بأنّه قد ترك اعتقاده السّابق، وعاد إلى عبادة قومه، ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً ‌فِي ‌النُّجُومِ، فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ!﴾(18) فاطمأنّوا إلى هذا العذر الخادع، ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ، فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ: أَلَا تَأْكُلُونَ؟ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ؟ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾(19)، ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قَالُوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، قَالُوا: فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قَالُوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ؟ قَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ! فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ! قَالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ؟ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟﴾(20)
نجاح إبراهيم في إقامة الحجّة البالغة
كانت خطّة إبراهيم في غاية البراعة والإحكام أقام بها الحجّة على سدنة المعبد، وبيّن تهافت العقل الوثني على مسمع ومرأى من النّاس، فلم يجد السّادة مخلصا لهم من هذه الورطة سوى حميّة الجاهليّة: ﴿قَالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ! قُلْنَا: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ! وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ (21)
لعلّ أول واقعة في تاريخ النّبوّات يمكن أن يصدق عليها اسم المعجزة هي عدم احتراق إبراهيم بعد إلقائه في النّار، لكنّها مع ذلك لم تستوف شروط الإعجاز التي وضعها علماء الكلام، لأنّ إبراهيم لم يزعم قَبلها أنّه رسول اللّه، ولأنّه لم يتم أي تحدٍّ سابق بين الطّرفين يتعلّق بالإلقاء في النّار، بل لم يكن عليه السّلام يعلم أنّه سيخرج منها مؤيّدا منصورا، ومثل هذا الحدث يسمّيه المتكلّمون كرامة لا معجزة، وهي مصطلحات غير موفّقة بنيت على مقدّمات فاسدة، وعلى رأسها أنّ الدليل على النّبوة هو المعجزة.
تزلزلت الأرض تحت أقدام المَلِك بسبب واقعة نجاة إبراهيم من النّار، فقرّر أن يناظره بنفسه عسى أن يسترجع شرعيّته الأسطوريّة المتهالكة، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ: ‌أَنَا ‌أُحْيِي وَأُمِيتُ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ؟ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (22)، وهذه المناظرة شاهد على عبقريّة إبراهيم الاستثنائيّة، إذ استطاع أن يتوقّع مناورة الملك، وأن يورّطه في ادعاء النّديّة للّه، ثمّ أجهز عليه في سرعة البرق.
خاتمة
لم يقع في تاريخ الأمم الذي قصّه القرآن مثل هذا الحدث الإبراهيمي، ولم يقع قطعا في أيّ تاريخ، فتىً يستثمر رصيد الفطرة ليوقع هزيمة منكرة بنظام وثنيّ راسخ، فيؤيّده اللّه، ويجعل سيرته قبل النّبوة مدرسة للأنبياء أنفسهم، وهي سيرة شاهدة على الإمكانات الهائلة للفطرة التي فطر اللّه النّاس عليها، وشاهدة أيضا على الجهد العظيم الذي يبذله أعداء الفطرة في كبتها وتعطيل فعاليتها. 
لكن، أليس من العجيب حقّا ألاّ يتأثّر هذا النّظام الوثني المتغطرس بعد الجولات الإبراهيميّة المظفّرة؟ أليس من العجيب أنّه لم يفقد بعد الهزيمة الشّنيعة ولو فردا واحدا من أتباعه؟ بل حتّى أولياء إبراهيم لم يتعاطفوا معه، فناصبه أبوه العداء وتجهّمَه، فيا ليت شعري كيف تحجّرت القلوب إلى هذا الحدّ؟ وهل بقي لإبراهيم الذي لا يلين في وجه الشّرك حلٌّ آخر؟
الهوامش
(1)  سورة المؤمنون من الآية 42 إلى الآية 44
(2)   الكتاب المقدس، سفر التثنية، 26: 5
(3) مجلة لغة العرب العراقية ‌‌العدد 75 - بتاريخ: 01 - 11 – 1929م
(4) انظر مادة (أرام) في قاموس الكتاب المقدس في موقع الأنبا تكلا
(5) التوراة الحجازية تاريخ الجزيرة المكنوز: 82، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى: 2020
(6) التوراة الحجازية: 95
 (7) انظر ابن قيم الجوزية، مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة: 3/ 1380، تحقيق: عبد الرحمن بن حسن بن قائد، دار عطاءات العلم، الرياض، الطبعة: الثالثة، 1440هـ - 2019م
(8) إبراهيم أبو عواد، فلسفة الظواهر الثقافيَّة والهويَّة الوجوديَّة للإنسان، مجلة تنويري، 19 نوفمبر، 2022
(9)  سورة الأنبياء من الآية 51 إلى الآية 53
(10)  سورة الأنبياء، الآيتان 54 و55
(11)  سورة الأنعام، الآيتان 74 و75 
(12)  سورة الأنعام من الآية 76 إلى الآية 79
(13)  سورة الزمر، الآية 38
(14)  سورة التين، الآيتان 4 و5
(15)  Charles Houston Long (1926 –2020), Types of cosmogonic myths. Encyclopedia Britannica
(16)  سورة الأنعام من الآية 80 إلى الآية 83
(17)  سورة الأنبياء، الآية 57
(18)  سورة الصافات، الآيتان 88 و89
(19)  سورة الصافات من الآية 90 إلى الآية 93
(20)  سورة الأنبياء من الآية 58 إلى الآية 67
(21)  سورة الأنبياء من الآية 68 إلى الآية 70
(22)  سورة البقرة، الآية 258