تحت المجهر

بقلم
د. محمد البشير رازقي
الاستشراق المُحبَّبُ في البلاد التونسيّة: إعادة الإنتاج الأهليّة للسرديّات الاستشراقيّة خلال القرن 1
 ورد في إحدى مقالات الرائد التونسي عبارة مُوحية متشابكة معرفيّا مع إشكاليّتنا في هذا العمل وهي تبيّن تمثّلات غير الأوروبي لأسباب تقدّم أوروبا والخُطاطة الذهنيّة لتبنّي أحكام الاستشراق الكلاسيكي (سرديّات القرن 19 وبداية القرن 20) أو ما أطلقنا عليه اسم «الاستشراق المُحَبَّبُ»، أي الاستشراق غير العدواني معرفيّا والذي لاقى قبولا لدى أهل الشرق. تقول القولة: «من تلاطم الأفكار ينبع النّور»(1). بالمقابل نُقل على لسان أحد السياسيين البريطانيين أثناء إقامة المعرض الكبير في قصر الكريستال سنة 1851: «إنّ دولاب الغزل والسكك الحديدية وكذلك بواخر لاينر والتلغراف الكهربائي، هي بالنسبة لي آيات توحي أننا وفي بعض النواحي في أقل تقدير على انسجام مع الكون، وأن وراءنا روحا جبّارة تعمل فيما بيننا. إنه الربّ الخالق والمشرد»(2). وتُبيّن لنا هاتان الإحالتان علاقة المصلحة والمنفعة بإنتاج شبكات المعارف. وهذا ما نُحاول فهمه في هذا المقال، أي تبيّن علاقة مصالح جزء من أهالي البلاد التّونسيّة ونخبها بإعادة إنتاج السّرديّات الاستشراقيّة، المحقّرة أصلا للحضارة العربيّة/الإسلاميّة.
اعتمدنا في هذا العمل مدوّنة مصدريّة أولى خصّصناها للجزء الأوّل من المقال وهي جريدة الرّائد التونسي التي تأسّست سنة 1860. واعتمدنا في الجزء الثّاني من المقال (العدد 185 و العدد 186 من مجلّة الإصلاح)على كتاب مهمّ صدر في طبعة واحدة سنة 1933 بعنوان «الرّحلة الباريسيّة» كتبه معلّم بالمدارس التّونسيّة اسمه عبد الرحمان سومر. ونطرح في هذا المقال إشكاليّة أساسيّة: ما هي علاقة الأزمة والمصالح بإعادة إنتاج السّرديّات الاستشراقيّة، بما تضمّنته من صور نمطيّة ووصم تحقيريّ، من طرف جزء من نخبة البلاد التّونسيّة خلال القرن 19 والفترة الاستعماريّة؟ هل سياق القرن التّاسع عشر ما قبل العصر الامبربالي متشابه مع سياق الاستعمار الفرنسي؟
القرن التاسع عشر: النخبة التونسيّة وزمن التمهيد للاستشراق المُحبَّبِ
تضمّن الرائد التونسي، وهو الجريدة الرسمية للدولة التونسيّة ولسان حال النّخبة، منذ تأسيسه سنة 1860 مقالات وآراء مهمّة مرتبطة بعلاقة أوروبا بالبلاد التّونسيّة، والعالم العربي والإسلامي عموما. وقد مثّلت هذه الجريدة وسيلة مهمّة لتشكيل مناخ ثقافيّ حديث ومُبتكر ومتأثّر بالثّقافة الغربيّة. ورد في مقال مُهمّ حُرّر بالرائد التونسي يهتمّ بأهمية العلم تضمّن أنّ «السبب الوحيد في تقدّم أهالي أوروبا في الصنائع والاختراعات إنّما كان بحسن المجازاة والتمييز، إذ أن من قوانينهم أنّ المخترع لشيء يستحقّ عليه من الحكومة علامة ومنحة، وبعد ذلك فلا يسوغ لغيره عمل مثل ذلك الأمر الذي اخترعه إلى أمد، بحيث أنّ ذلك يقصر عليه، فلا يلبث صاحب الاختراع أن يكون ذلك سبب غناه، وهذا القانون جار في جميع المخترعات أيّا كانت»(3). يتحدّث المقال هنا عن براءات الاختراع وبداياتها الأولى في أوروبا أواسط القون التاسع عشر. ويُكمل المقال تحليله لأسباب تفوّق أوروبا العلمي. فلا يكفي الاعتراف بنسبة الاختراع لصاحبه ومأسسة ذلك، بل يجب منحه مُكافأة معتبرة تشجيعا له، و«هكذا القول في إتقان الصنائع والفلاحة، فإنّ البارعين في أيّ صناعة أو فلاحة يستحقّون المُجازاة في كلّ سنة عند امتحان الصنائع والفلاحة، حتّى أن الخيل العموميّة يُعقد لها سباق ومهما كان الفرس على ما يلزم فإنّ صاحبه يأخذ على ذلك جزاءً. وبهذا السبب تجد جميع تلك الصنائع تتقدّم يوميّا، وكيف لا تتقدّم وأصحابها يعملون للمجازاة والذكر الحسن زيادة على احترافهم بها، وهذا هو السبب الوحيد الذي تقدّموا به في المعارف أيضا، وانتقلوا به من غلغلة (أغلال) بربرتهم (بربريّتهم) إلى استنارتهم بأنوار التبصّر في أمور دنياهم»(4). يُقدّم لنا هذا المقال إذا السبب الأساسي لتقدّم أوروبا عن بقيّة العالم: الاعتراف بأصحاب الفضل والاختراعات، ومن ثمّة المُكافأة.
كما تضمّن مقال آخر في الرائد التونسي تحدّث عن أهمية الصراع والتنافس في إنماء الدولة الأوروبيّة والمحافظة على قوّتها، حيث ورد في احدى المقالات خبر رهانات وسياقات الاختراعات التي ارتبطت بصناعة الكاغذ في أوروبا: «فشرعوا آنذاك في تجريب بعض النباتات الليفيّة التي تصلح لصنعتهم ليروا أيّ نوع منها أنسب  لعمل الورق من جهة الشغل والكلفة، ففي أيّامنا هذه من حاول شيئا في أوروبا يشتهر خبره بطرفة عين وتأخذ الصحايف في التكلّم عليه ويُباشر النّاس في تجربة ذلك الشيء حتّى يبلغ في أقرب زمن إلى إحدى غايتيه إمّا الإهمال أو الإكمال»(5). كما قدّم مقال آخر سببا سياسيّا لتفوّق أوروبا وهو «توحّدها» عكس العرب، حيث طرح المقال إشكاليّة «اتّحاد الدول الإسلامية بعضها مع بعض، وأنّ السياسة السديدة تقتضي ذلك»، وبدون هذا الاتّحاد لا يمكن «مُجاراة الدولة الافرنجيّة في القدرة والانتظام»(6).
اعتمدت النُخب في المدن العربية خلال النصف الثاني من القرن 19 على الأمثال والأقوال الأوروبية لشرعنة السلوكيات والممارسات الجديدة في المجتمعات العربيّة. ورد في أحد مقالات الرائد التونسي: «قال أحد الأمثال الافرنجيّة: الضرورة أمّ الاختراعات...الاختراعات تزداد مع ازدياد التمدّن»(7). وقد حاولت هذه النخبة أن تُؤقلم كلّ ما هو جديد ومُستحدث مع المناخات الثقافية المحليّة. ورد في الرائد خبر مهمّ عن احتفال جديد شُرع فيه بعد أن أعلن محمد الصادق باي عن دستور 1861. فقد احتفل أهل مدينة تونس بـ «المحرقات الطيّارة (أي الشماريخ)»، وهذا الأمر «لم نسمع بوقوع مثله في حاضرتنا منذ أسّست على كثرة وقوع الزينات  فيها في القديم»، وقد برّر كاتب المقال هذا الاستحداث بـ «فرط سرور أهل البلاد وارتياحهم بعهد الأمان»(8).
ساهمت نظريّات العلماء الأوروبيين في «نزع السّحر من العالم» في جزء مهمّ من العالم العربي. وكان الرائد التونسي (لسان حال النخبة) محملا مهمّا للحداثة. فقد عرّف ظاهرة الكسوف مثلا بكونه «لا يحدث كلّ يوم، بل ولا كلّ سنة...الكسوف يقع من توسّط القمر بين الشمس وكرتنا، فإن كانت الكرات الثلاث على خطّ مستقيم للناظر كان الكسوف كاملا»، وهذا التعريف الذي قدّمه يُصحّح آراء كلّ من «كانوا يعتقدون أنّ للكسوف تأثيرا في العالم الأرضي بحدوث حروب وأمراض وما شاكلها كما يعتقد الأغبياء في أيّامنا هذه من أمم المشارقة والمغاربة»(9).
لم تكن نخب المدن العربية خلال النصف الثاني من القرن 19 رافضة للاختراعات الأوربيّة، بل مُرحّبة وفرحة بها. فقد ورد خبر في صحيفة الرائد التونسي عن البدايات الأولى لاختراع آلة التصوير الفوتوغرافي، فقد «اشتهر أنّ علماء الافرنج قد اطّلعوا في هذا العهد الحديث على خاصيّة غريبة في انطباع الصور في الكثيف الصقيل انطباعا ثارّا غير زايل بزوال المحاذاة ناتجة عن عقاقير كيميائية...فسمّوها فوتوغرافية وهو مركّب يوناني معناه الرّسم بالنّور»(10). وكان هذا المقال تمهيدا ضروريّا قبل وصول مُصوّر فوتوغرافي محترف لمدينة تونس، فقد ورد في مقال آخر للرائد بعد ستّة أشهر من المقال التعريفي بآلة التصوير الفوتوغرافي إعلان إشهاريّ تضمّن: «فوتوغرافيا- اختراع جديد. فرصة وحيدة لمدّة شهر فقط. إنّ المعلّم دوسه (Dussee) المقيم الآن في دار أبي ناعورة المعروفة ببيت عزريا بقرب قنصلية هولندا يصنع التصاوير بالفوتوغرافية بسعر ثلاثة ريالات الصورة فأكثر، ويتكفّل لمن يريد أخذ صورته بأنّه تكون مشابهة له تماما. ولصاحب الصورة الاختيار بقبول الصورة أو عدم قبولها أن لم تعجبه. ومن شاء أن تؤخذ له صورته في داره فالمعلّم دوسه (Dussee) يتوجّه إليه بآلته الفوتوغرافية، وتؤخذ الصورة بدقائق قليلة»(11). كما تضمّن الرائد إعلانات كثيرة لاختراعات أوروبيّة أخرى مثل الأسنان الاصطناعيّة وهي «أسنان استعاريّة: اختراع جديد- المعلّم دوسه (Dussee) يضع في الفم أسنانا استعاريّة بخمسة ريالات السنّ فأكثر، ويتكفّل لمن توضع له بأنها تستمرّ صحيحة مدّة عشر سنين. ويبيع أدوية لحفظ نظافة الفم والأسنان ويصلح أيضا الأسنان المعطوبة ولا يأخذ إلا أجرة يسيرة»(12). كما عرّف الرائد التونسي باختراع جديد وهو العربات البخاريّة، فقد ورد في أحد المقالات خبر عن «اختراع جديد: قد قرأنا في إحدى صحايف لندره أنّ لورد كاثنيس أحد أعيان انجلترا صنع كرّوصه (Carrosse عربة) ناريّة على نسق الكرارص التي تسحبها الخيل...سيرها وقتئذ بحساب ثمانية عشر ميلا في الساعة...فلا شكّ الآن أنّ الجميع في أوروبا سوف يستعملون الكرارص البخاريّة عوض العربات المسحوبة بالخيل والبغال لأنّها أقل كلفة من هذه وأسرع سيرا منها. والكاروصة المذكورة هي صنع مستر ريكيت في مدينة بكينغهام»(13). لعب الرائد التونسي إذا، ومن ورائه النخبة التونسيّة، دور المُلطّف والممهّد لكلّ ما هو أوروبي مُستحدث. كما اشتمل الرائد التونسي على صور نمطيّة عديدة أنتجها الاستشراق قُبيل الحملات الاستعمارية وخلالها. فقد تحدّث عدد من الرحّالة الأوروبيين على «آكلي لحم البشر» أي «الكنبال» cannibals، وهذه «العادة الشنيعة» قد انقطع أثرها في بقاع كثيرة من العالم، و»مع هذا فعددهم لم يزل كثيرا» خاصة في القارّة الافريقيّة(14).
يتبيّن لنا في آخر هذا الفصل أنّ النخبة التونسيّة، عبر لسانها النّاطق وهو جريدة الرّائد التّونسيّ، مهّدت وأسّست لأهلنة وأقلمة لعدد من الأفكار الأوروبيّة عبر طرحها للنّقاش أو ترجمتها وترويجها في الرّائد. وعدد كبير من هذه الأفكار أنتجته مؤسّسة الاستشراق سواء للإعلاء من مكانة أوروبا أو للحطّ من الثّقافة الشّرقيّة. فهل وفّرت فترة القرن التّاسع عشر المناخ الكافي لتبنّي جزء من نخبة البلاد التّونسيّة لأفكار المستشرقين خلال الفترة الاستعماريّة؟
الهوامش
 (1) الرائد التونسي، العدد 10، 23 شوّال 1286/ 26 جانفي 1870، ص.4
 (2) بول كينيدي، نشوء وسقوط القوى العظمى، ترجمة: مالك البديري، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، 1994، ص.237
  (3) الرائد التونسي، العدد 2، 9 محرّم 1294/24 جانفي 1877، ص.1
(4) الرائد التونسي، العدد 2، 9 محرّم 1294/24 جانفي 1877، ص.1
(5) الرّائد التونسي، العدد 3، 7 صفر 1277/ 24 أوت 1860، ص.2
(6) الرائد التونسي، العدد 44، 7 ذي القعدة 1288،1288/ 18 جانفي 1872، ص.1
(7) الرائد التونسي، العدد 38، 28 ذي الحجّة 1277/ 7 جويلية 1861. ص.5
(8) الرائد التونسي، العدد 29، 14 شوّال 1277/ 25 أفريل 1861، ص.2- 3.
(9) الرّائد التونسي، العدد 3، 7 صفر 1277/ 24 أوت 1860، ص.2
(10) الرائد التونسي، العدد 1، 24 محرّم 1277/ 12 أوت 1860، ص.3
(11) الرائد التونسي، العدد 26، 19 رمضان 1277/ 31 مارس 1861، ص.4
(12) الرائد التونسي، العدد 26، 19 رمضان 1277/ 31 مارس 1861، ص.4
(13) الرائد التونسي، العدد 5، 23 صفر 1277/ 10 سبتمبر 1860، ص.3
(14)  الرائد التونسي، العدد 17، 23 ربيع الثاني 1288/ 12 جويلية 1871، ص.3