وجهة نظر

بقلم
سعيد السلماني
التّعليم الدّيني في المغرب وتحديات العولمة التّعليم العتيق نموذجا
 يضرب التّعليم الدّيني في المغرب بجذوره في أعماق التّاريخ المغربي، إذ يرجع ظهوره إلى بدايات استقرار المسلمين في البلدان المغاربيّة. فالدّين والتّعليم في الحضارة العربيّة الإسلاميّة مترابطان ترابطاً وثيقًا. «فالتعليم كان يتم تاريخيا في أماكن العبادة التي يسيطر عليها رجال الدّين الذين اضطلعوا بدور المعلّمين والإداريّين. في نظام «الكتّاب» التّقليدي، تعلّم الطّلاب المسلمون القرآن الكريم والأحاديث النّبويّة من علماء الدّين، وتلقّوا التّعليم الأساسي في اللّغة العربيّة والرّياضيّات. ووفّر نظام «الكتّاب» وظيفة اجتماعيّة حيويّة باعتباره وسيلة للتّعليم العامّ الرّسمي للأطفال وشباب المسلمين حتّى ظهور النّماذج الغربيّة للتّعليم»(1) .  
وكون هذا التّعليم يتّخذ أنماطا متعدّدة قديما، فإنّه أصبح اليوم شبه مهيكل تحت مسمّى «التّعليم العتيق»، ويسعى القائمون عليه لتوحيد هذا النّمط ليتماشى وتحدّيات العصر المعولم. ومن ثمّ مقاومته للعصرنة والتّشبّث بالتّقاليد العريقة للمغاربة، واعتبارها مكسبا يجب الحفاظ عليه. سواء ما تعلّق منها بطرق التّدريس التي تعتمد أساسا على الحفظ والاستظهار والمشيخة...الخ، أو في علاقتها بالمحيط الاجتماعي التّاريخي المغربي. 
إنّ التّعليم الدّيني مفهوم عامّ يندرج تحته كلّ تعليم يكون منطلقه ديني، وعليه فالمغرب لم يَخْلُ من أنماط تعليميّة دينيّة غير إسلاميّة كاليهوديّة والمسيحيّة...الخ، وتركيزنا في هذا المقال سيكون على التّعليم الدّيني الإسلامي. فالدّين الإسلامي بصم هذا البلد وأصبح هو الوجهة الرّسميّة لسياسة الدّولة منذ قيام الدّولة المغربيّة الإسلاميّة.
من هذا المنطلق يمكن القول: لفهم الخطاب الدّيني في المغرب وقضيّة التّجديد والإصلاح، ينبغي تتبّع مسار تشكّل هذا الخطاب في ينابيعه الرّسميّة، وهي الآن «مؤسّسة التّعليم العتيق» وما يدور في فلكها. لهذا ينبغي الوقوف على حقيقة هذه المؤسّسة من خلال تتبّع مراحل ظهورها وتطوّرها، ومناهجها والاشكالات والتّحديات التي تواجهها، والدّور الذي لعبته في تاريخ المغرب ولا زالت، ثمّ المنجزات والإصلاحات التي رافقتها في السّنوات الأخيرة، والتّصوّر المستقبلي لهذه المؤسّسة، من خلال الوقوف ميدانيّا (البحوث الميدانيّة) على مساهمتها في تنمية المجتمع ومده بالكوادر والأطر الدّينيّة وغيرها. ورغم اهتمام الدّارسين بموضوع المؤسّسات العتيقة بالمغرب خاصّة ما يتعلّق بتاريخها وتوزيعها الجغرافي ومناهجها التّعليميّة وإشعاعها العلمي والأدبي، فإنّ الموضوع لا زال يطرح العديد من الإشكالات لم يوليها البحث العلمي ما تستحقّ من الاهتمام بعد.
إنّ الباحث لا يمكنه أن يعي ويدرك الإشكالات الإبستمولوجيّة والامبريقيّة للمعرفة المتعلّقة بـ«التعليم الديني»، أو بناء البرامج والتّخطيط التّربوي والرّؤية الاستراتيجيّة ذات البعد الحضاري...الخ، إلاّ إذا تناوله من زاويتين: 
- أولا، من حيث هو موضوع ذو بعد نظري تاريخي، تشكّل ونما وتطوّر في ظلّ تجارب ومناهج علميّة، ممّا يستدعي معرفته كموضوع له أهمّية تاريخيّة استشرافيّة. 
- ثانياً، من حيث هو معرفة علميّة، ذو بعد ابستمولوجي ثقافي خاصّ، حيث نما وتطوّر في ظروف ثقافيّة واجتماعيّة مختلفة وذات خصوصيّة(2).
نقول خصوصيّة لأنّ هذا النّمط من التّعليم الذي نتحدّث عنه، (التّعليم العتيق) ينتمي الى الثّقافة الإسلاميّة المتمركزة حول الدّين الإسلامي، ومن ثمّ، فإنّ كلّ حديث يحاول أن يفصل التّعليم الدّيني عن هذا السّياق سيسقط في تناقضات بالجملة، وأهمّها: ربطه بالعنف والإرهاب. وعليه، فالنّتيجة الحتميّة ستكون الدّين يساوي الإرهاب. 
من هذا المنطلق يصبح الحديث عن التّعليم الدّيني وإصلاحه من القضايا الجوهريّة، وهذا ما أشار إليه الدّكتور مصطفى بن حمزة بقوله: «إذا كان هناك من قضيّة هي في حاجة إلى المقاربة الجادّة التي يمكن أن يقدمها الخبراء والعارفون، فإنّ قضيّة إصلاح التّعليم الدّيني تأتي في طليعة القضايا ذات الأولويّة، والمطلوب أن يقدّم من يتحدّث في إصلاح التّربية الدّينيّة تصوّرا مسنودا بأدلّته من الواقع ليسهل الاتفاق والالتقاء عليه»(3)، ورغم التّأكيد على أهمّية هذا الإصلاح الذي انخرط فيه المغرب بجدّية وفاعليّة لورش التّعليم الدّيني، فإنّ غياب الدّراسات الميدانيّة في هذا المجال قد تعيق مسيرة الإصلاح. وعليه يمكن القول بأنّ موضوع التّعليم الدّيني راهني بامتياز، فالعديد من اللّقاءات تعقد لمناقشة الأسئلة المتعلّقة بالعنف والجريمة والإرهاب في علاقتها بالتّعليم الدّيني كمدخل لظاهرة العنف في العالم. في إحدى النّدوات التي عقدت في تونس تحت عنوان: «التّعليم الدّيني.. آفاق التّطوير والنّهوض»، أشار المتدخّلون إلى أنّ «حالة التّعليم الدّيني في المنطقة العربيّة كارثيّة، إذ باتت منذ النّصف الثّاني من القرن الماضي من قبيل اللاّمفكَّر فيه، ويكفي دليلا على ذلك تضخّم معدّلات الإدمان والجريمة من جهة، وإقبال مئات الآلاف من الشّباب المسلم على الجماعات المتطرّفة والعنيفة من جهةٍ أخرى، هذا بالإضافة إلى ضياع البوصلة والتخلّف العلميّ الواضح، وغيرها من النّتائج السّلبيّة التي تنبئ بفشل مناهج وأساليب التّعليم الدّيني في صياغة الشّخصيّة الإسلاميّة المتوازنة»(4). وفي نفس السّياق يشرح الدّكتور سمير بودينار، سبب غياب التّفكير في هذا الموضوع الهام، إذ «ليس باعتبار هذا التّعليم من المسلَّمات التي لا تحتمل النّقاش كما وصف محمد أركون موضوعاته في كتابه الذي حمل نفس الاسم، بل لأنَّ الفكر العربي المعاصر تجاهل التّفكير فيه؛ إمَّا بسبب يأسه من إمكانيّة الرّهان على التّعليم الدّيني، وعدم اقتناعه بوظيفته في راهن المجتمعات العربيَّة، ولا في دوره المتوقّع في ظلّ النّماذج المجتمعيَّة السائدة، أو لأنَّ هذا الفكر العربي المعاصر ظلَّ عالة على المحاولات الفكريّة التي أنتجها التّراث الإصلاحيّ خلال القرن التّاسع عشر إلى النّصف الأوّل من القرن العشرين»(5). 
وبالرّجوع إلى التّاريخ التّعليمي للمغرب، فإنّ المصادر تذكر بأنّ «التّعليم العتيق» من أقدم أنواع التّعليم الذي انتشر في بلاد المغرب. فمنذ أن عرف الإسلام طريقه إلى شمال إفريقيا، بدأت تنتشر المدارس الدّينيّة في شتّى أنحاء المغرب، حيث ظهرت مدارس عريقة في مختلف الدّول التي تعاقبت على حكم المغرب. وعليه، فإنّ الحديث عن التّفكير الدّيني/الخطاب الدّيني في المغرب يجب تتبعه ضمن «مؤسّسة التّعليم العتيق» فهي الحاضن الرّسمي لهذا الخطاب وإعادة انتاجه. 
وبما أن عصرنا عصر العولمة بامتياز، وهي ولا شكّ تحدٍّ كبير للمجتمعات الإسلاميّة النّامية. وهذا الوضع جعلها مرتبكة حول هويّتها وقيمها، نظرا لكون العولمة قوّة «تسليعيّة» كبرى حسب العديد من الباحثين. والمجتمع المغربي بين فكّي هذه الطّاحونة العالميّة التي تعمل بوتيرة متسارعة للإجهاز على ما تبقّى من قيم الأصالة واستبدالها بقيم المعاصرة (قيم العولمة)، والتّعليم في قلب هذه المعادلة. 
ومن المؤكّد أنّ الإيقاع السّريع الذي تتحرّك به العولمة بفضل تقنية الإعلام والاتصال والإيقاع، الذي يتحرّك به نظامنا التّعليمي يطرح أكثر من سؤال. فالثّورة الحديثة في حقل «الاتصال والتّقانة المرتبطة به، قد فتحت المجال واسعا لتسويق «ثقافة العولمة» بما تحمله من معرفة وقيم وتكوين اتجاهات وأذواق استهلاكيّة. لقد أدى غزو العولمة لهذا المجال إلى إحداث خلخلة في الأنظمة والقنوات التي تساهم في بناء الشّخصيّة والهويّة الثّقافيّة، وهي الأنظمة التّعليميّة والتّربويّة، ومؤسّسات التّنشئة الاجتماعيّة والثّقافيّة للأجيال الجديدة. وإذا كان لدينا حاليا بعض التّراكم فيما يخصّ الدّراسات التي تناولت العولمة في إطارها الشّمولي، والدّراسات التي تناولت أبعادها الاقتصاديّة والتّجاريّة، فإنّنا نفتقر، سواء على المستوى الوطني أو القومي، للمقاربات التي تتناول اكتساح العولمة لقطاع التّعليم والتّربية الوطنيّة؛ ومآل بعض أشكال المقاومة التي أفرزها النّظام التّربوي في إطار تفاعله مع محيطه الدولي»(6).
ومن بين التّحديات التي فرضها الواقع المعاصر المعولم ظهور تيارين في المجتمع المغربي:
- تيار المعاصرة الذي يدعو إلى مواكبة العصر بكلّ حمولاته والسّير في طريق التّقدم دون الرّجوع الى الوراء أو البحث عن أسبابه في التّراث. ودعوته الصّريحة الى فصل الدّين عن مؤسّسات الدّولة المدنيّة بما فيها المنظومة التّربويّة الحديثة وإلحاق المنظومة التّربويّة التّقليديّة (التّعليم العتيق) بالقطاع الدّيني كما فعلت أوروبا مع الكنيسة، وهذا الفصل حسب هذا التّيار تفرضه ضرورة العصر. و«يتزعّم هذا الرّأي ثلّة من المثقّفين العرب مسلمين ومسيحيّين، كعبد المجيد الشّرفي، والمنصف بن عبد الجليل، ومحمد شريف فرجاني، وعفيف الأخضر، والأب ميلاد حنا...وغيرهم»(7).
- وتيار الأصالة الذي يدعو إلى الحفاظ على الهويّة والقيم المغربيّة ذات الطّابع الإسلامي. وهو تيّار يؤمن بالأزمة التي يعيشها التّعليم الدّيني، لكنّه في نفس الوقت يعتبره صمّام أمان في وجه العولمة. فهذا «النّوع من التّعليم كان على مرّ التّاريخ معبئاً للطّاقات الفكريّة والعلميّة بل وحتّى السّياسيّة في العالم الإسلامي إبان الاستعمار، وأنّ أزمته لا تنفصل عن الأزمة العامّة التي يعيشها نظام التّعليم برمته في العالم العربي والإسلامي، وأنّه في سياق ذلك في حاجة اليوم إلى نوع من التّجديد في برامجه ومناهجه وطرق تدريسه ووسائله، ممّا يضمن استمرار قيامه بالمهام نفسها التي كان يقوم بها؛ بل ويعتبر أصحاب هذا الرّأي أنّ زمن العولمة بما يعرفه من هجوم كاسح على تعدّد الهويّات، يجعل من تطوير التّعليم الدّيني وتجديده أمراً ملحّاً من أجل حماية الخصوصيّات الثّقافيّة والحضاريّة للعالم الإسلامي»(8). ويناصر هذا الرّأي فريق عريض من المفكّرين والباحثين فضلا عن أقطاب التّعليم الدّيني بالمغرب والعالم الإسلامي، ونعتقد بأنّ محاضن هذا التّيار في المغرب هي مؤسّسات التّعليم العتيق أساساً لأنّ عطاءها ما زال مستمرا ولم ينقطع. 
 فما هي إذن، الخطط والاستراتيجيّات الفكريّة والعلميّة التي تنتهجها هذه المؤسّسات لمواجهة تحديّات العولمة؟ ومن هم خريجوا هذه المؤسّسات؟ هل هم رجال دين بالمعنى الكنسي؟ أم رجال علم متبصّرين بدينهم وقضاياهم الاجتماعيّة...؟ وفي ظلّ الإصلاحات الأخيرة للحقل الدّيني في المغرب حضي إصلاح «مؤسّسة التّعليم العتيق» بأهمّية خاصّة من طرف الدّولة، فما هي كرونولوجيّة هذا الإصلاح وأهمّيته على المستوى السّياسي والاجتماعي والاقتصادي والثّقافي والتّنموي بشكل عام؟ هذه أسئلة عميقة تحتاج إلى بحث عميق يمكن الرّجوع إليها في مقالات لاحقة. 
نختم بالقول بأنّ مؤسّسة التّعليم العتيق تتّسع مجالاتها وتعطى لها أهمّية خاصّة من طرف الدّولة، لهذا فأيّ حديث عن الدّولة المدنيّة والخوض في غمار الحداثة والانفتاح قد يجابه بالرّفض من طرف هذه المؤسّسة إن كان يمسّ بالهويّة والأصالة المغربيّة. ما يؤكّد هذه الأهميّة هو إحصاء وزارة الأوقاف والشؤون الاسلاميّة (الوزارة الوصيّة) لمؤسّسات التّعليم العتيق للموسم الدّراسي 2017/2018 . نقرأ الآتي:
«تتناول إحصائيّات مؤسّسات التّعليم العتيق للموسم الدّراسي 2017/2018، بتوسّع، الإحصائيّات الخاصّة بفضاءات التّعليم الأوّلي العتيق ومدارس التّعليم العتيق والكتاتيب القرآنيّة فضلا عن مراكز تحفيظ القرآن الكريم التي تشتغل طوال السّنة وتشرف عليها المجالس العلميّة المحليّة. 
وتتلخّص مجمل هذه الإحصائيّات في: 55 فضاءً للتّعليم الأوّلي العتيق يدرس بها 2269 طفلة وطفلا (تتراوح أعمارهم ما بين 4 و5 سنوات)، و286 مدرسة للتّعليم العتيق يدرس بها 35004 متمدرسين من الإناث والذّكور، و11749  كتّابا قرآنيّا يدرس بها 341085 متمدرسا، من الإناث والذّكور، من جميع الفئات العمريّة، و2079  مركزا لتحفيظ القرآن الكريم يدرس بها 105547 متمدرسا إناثا وذكورا»(9).
 من خلال المقارنة الإحصائيّة لسنة 2017/2018 والسّنوات السّابقة نلحظ ارتفاعا متزايدا لهذه المؤسّسات وإقبالا متزايدا على هذا النّوع من التّعليم رغم أنّنا نعيش عصر المدرسة الحديثة والمعاصرة. فما الذي يدفع أبناء المغاربة للإقبال على التّعليم الدّيني؟ ثمّ ما دور الفضائيّات الدّينيّة والاعلام البديل في التّشجيع على التّعليم الدّيني؟ وهل فشلت المدرسة العموميّة في القيام بدورها؟ أم أنّ الأمر مخطّط له من طرف الدّولة؟
الهوامش
(1) فاعور محمد، التعليم الديني والتعددية في مصر وتونس، مركز كـارنيغي للشرق الأوسط، 2012، ص، 4.
(2) فرحاني العربي، تاريخ الفكر التربوي، منشورات عالم التربية، ط، النجاح الجديدة – الدار البيضاء، 2004. ص، 9.
(3) بنحمزة مصطفى، رؤية في التعليم الديني بالمدرسة المغربية، مجلة الفرقان عدد 78 ، 2016.
(4) تقرير حول ندوة: التعليم الديني.. آفاق التطوير والنهوض، موقع: https://altanweeri.net/?p=2434
(5) نفسه.   التعليم الديني.. آفاق التطوير والنهوض
 (6) الخياري عبد الله ، التعليم وتحديات العولمة مقال منشور على موقع أنفاس، http://www.anfasse.org
 (7) الصمدي خالد، وحللي عبد الرحمان، أزمة التعليم الديني في العالم الإسلامي، دار الفكر ، دمشق، 2007، ط، 1. ص، 16.
(8) الصمدي خالد، وحللي عبد الرحمان، نفس المرجع، ص، 17.
(9) وزار الأوقاف والشؤون الإسلامية، إحصائيات مؤسسات التعليم العتيق للموسم الدراسي 2018/2017، ص، 9.