ملفات

بقلم
د.أشواق طالبي المصفار
البيروقراطية: فساد وغياب لقيم العمل (2/2)
 آثار الفساد على الفرد والمجتمع:                                                                                   
تولّد ظاهرة الفساد آثار سلبيّة مدمّرة تلحق الضّرر بكلّ مقوّمات الحياة داخل المجتمع، فتهدر الأموال والثّروات، والوقت والطّاقات، وتعرقل أداء المسؤوليّات وتقلّل من فاعليّة القرارات السّياسيّة، وتضعف الكفاءة المهنيّة وتتسبّب في ازدياد الهوّة بين الطّبقات الاجتماعيّة، وبالتّالي تشكّل منظومة تخريب لكلّ الحقول الاجتماعيّة اقتصاديّا، وسياسيّا وثقافيا، وتتسبّب في حالة شلل لعمليّة البناء والتّنمية كما تتسبّب في زيادة فرص الجريمة المنظّمة، وبالتّالي فشل الدّول في مواجهة تحديات المستقبل. وقد أثبتت مختلف الدّراسات التي أجريت في مختلف دول العالم صحّة فرضياّت المدرسة الوظيفيّة حول الآثار السّلبيّة للفساد الإداري، فضلا عن مساهمته في إضعاف القيم المعنويّة والأخلاقيّــة عند الفـرد والمجتمع.                                       
- آثار الفساد على الفرد:                                                                                              
 تتمثّل هذه الآثار في ظهور انحرافات أخلاقيّة وسلوكيّة لدى الموظف وتصرفاته كالقيام بأعمال مخلّة بالشّرف والميثاق المهني، واستغلال السّلطة لتحقيق مآرب شخصيّة على حساب المصلحة العامّة، فتغيب قيمة حبّ العمل وتقديسه التي تطرّق إليها «ماكس فيبر»(1)حين تحدّث عن الأعضاء البيروقراطيّين النّاجحين في تسيير شؤون الإدارة وفي حياتهم الاجتماعيّة، ويرجع السّبب في هذا النّجاح إلى تحلّي هذه الفئة بالأخلاق والقيم البروتستنتيّة التي تحفز الفرد على المثابرة والإخلاص في العمل، من أجل الخلاص في «الهُنا» أي الدّنيا والخلاص في «الهُناك» أي في الآخرة، في إطار عقلنة العمل التي تكمن في أداء الموظّف لعمله على أحسن وجه لنيل مرضاة اللّه عبر تغليب القيم الثّقافيّة على القيم المادّية.
ومن آثار الفساد على الفرد أيضا تفشّى قيم سلبيّة تتبلور في غياب التّحلّي بالجدّيّة في العمل، وغياب المنافسة الشّريفة وتكافؤ الفرص، وفقدان معايير أداء الواجب الوظيفي. فالفساد يغيّر من المعنى القيميّ لسلوك الفرد وينحدر به من الأخلاق الايجابيّة إلى الأخلاق السّلبيّة حين يدفعه إلى التّعامل مع الآخرين بدافع الماديّة والمصلحة الذّاتيّة والإخلال بكلّ قواعد العمل وقيمه، دون مراعاة لقيم المجتمع الثّقافيّة التي تتطلّب منه تغليب المصلحة العامّة وروح المواطنة. وسنسوق هنا مثال الأخلاق البروتستنتيّة (فيبر،1904) التي تركّز على القيمة الأخلاقيّة للعمل من ضبط النّفس والشّعور بالمسؤوليّة الفرديّة، فالاعتقاد البروتستنتي يرى أنّ الأفراد لايعيشون ويعملون لأنفسهم فحسب، بل إنّ أعمال النّاس أو مقاصدهم إنّما تتأتّى بأمر اللّه. ومن ثمّة يبرهن الأفراد على قيمتهم لأنفسهم، وللمجتمع، وللّه، بمغالبة الشّدائد عن طريق العمل المخلص، وضبط النّفس والسّلوك الأخلاقي.    
والمسؤوليّة الشّخصيّة هي واحدة من أهمّ المثل العليا في الأخلاق البروتستانتيّة، فمثلاً، الإخلاص وبُعْد النّظر والتّدبّر أمور تُعين الإنسان على النّجاح. وصمود الإنسان أمام المغريات يحفظه من تبديد طاقته، ومدخّراته ووقته. والإنسان في نظر الأخلاق البروتستانتيّة طيّب إذا كان دؤوبًا على عمله، وأمينًا ومستقيمًا. فمثل هذا الشّخص أطهر من الكسول، والباحث عن ملذّاته والمبذّر. تحث الأخلاق البروتستنتيّة الأفراد على العمل إيمانا منهم بأنّ العمل خير.                                                                         
-آثار الفساد على المجتمع:                                                                                            
يمكن القول أنّ الفساد آفة تحوّل الوظيفة العموميّة من مؤسّسة اجتماعيّة لإدارة الشّأن العام وتقديم الخدمة العامّة إلى بضاعة يتمّ المتاجرة بها بيعا وشراء، فتغدو بذلك مؤسّسة «أفراد» وتَنْأَى عن كونها إطارا قانونيّا وأمانة وطنيّة، وتتحلّل من شروط العقد الاجتماعي، الشّيء الذي يؤدّى إلى خلخلة القيم الأخلاقيّة وإلى الإحباط وانتشار اللاّمبالاة والسّلبيّة بين أفراد المجتمع، وبروز التّطرّف والتّعصب في الآراء، وشيوع مظاهر العنف والجريمة كردّ فعل لانهيار القيم، بعد أن غابت عواطف الإيثار وحب الخير للآخر، وتعميق الهوّة بين الفئات الاجتماعيّة، فتغيب العدالة الاجتماعيّة. ويطغى الشّعور بالظّلم لدى الغالبيّة وينتشر الفقر، فيؤدّي هذا الوضع إلى اغتصاب القوانين والتّمرّد على الدّولة عن طريق السّرقة واعتماد قانون الغاب، ويصبح «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان»(3)، لكلّ هذا يعتبر  الفساد ظاهرة باثولوجيّة تشوه البناء الاجتماعي وتمزّق نسيجه وتهدّد الجانب السّتاتيكي في المجتمع، لذلك وجب التّصدي لها بالتّركيز على الإعلاء من روح الأخلاق حتّى يقلّ السّلوك الإجرامي داخل المجتمع وتنجح عمليّة الإصلاح الاجتماعي التي لا يمكن أن تتحقّق إلاّ إذا صَلُحت الأخلاق، وهذه الأخيرة لا تستقيم إلّا إذا تحقّق الاتفاق بين العقول-  على حدّ تعبير «أوجيست كونت».                                                                                       
قيمة العمل من منظور فيبري (4)
أوضح ماكس فيبر  في كتابه «الأخلاق البروتستينيّة وروح الرأسماليّة»(1904) ، أنّ العمل الجادّ من أهمّ العوامل التي شجّعت على ظهور الرّأسماليّة الغربيّة.حيث أنَّ المذهب الكالفينيّ المسيحيّ (Calven) جعلَ العمل نوعاً من التّعبّد، وسبيلاً للخلاص الأخرويّ، وليس فقط عملاً دنيويّاً، هدفه الرّبح. ونادتِ البروتستانتيّة بأنَّ العالم إذا كان موجوداً من أجل تمجيد اللّه، فإنّ اللّه يريد أن يرى الفعّاليّة والإنتاجيّة داخل المجتمع. فمفهوم الإله إذن لم يَعُد هو ذلك الإله التقليديّ عند المسيحيّين الكاثوليكيّين القروسطيّين، الذي يمكن إرضاؤه من خلال الإيمان وممارسة الصّلاة فحسب. بل أصبح ابتغاء مرضاة اللّه، مع المذهب الكالفينيّ، يعتمد على آليّات مادّيّة، وشروط تقنو- اقتصاديّة للإنتاج، وخاصّة العمل الجادّ المتقن. والإشكال الذي كان يطرح عند الكالفينيّين هو أنّ الشّخص لا يعرف إذا ما كان سيتعرّض للعذاب، أم أنّه من المختارين للخلاص. شكّل هذا القلق دافعاً من أجل البحث عن خلاصهم حيث جعلوا من النّجاح الزّمنيّ/ الدّنيويّ، -خاصّة الاقتصاديّ- دليلاً على الاختيار الإلهيّ، حيث يجد الفرد نفسه متحمّساً للعمل، وللنّجاح الذي يمثّل خَلاصَهُ الأبديّ، فأصبح العمل عملاً عقلانيّاً منظَّماً متواصلاً، وفي الوقت نفسه طاعة لأوامر إلهيّة. هذا ما دفع فيبر إلى التّأكيد على وجود صلة بين الملامح الثّيولوجيّة الكالفينيّة والرّأسماليّة، فالأخلاق البروتستانيّة دفعت المؤمن إلى تبنّي سلوك دينيّ من جهة، والعمل بشكل عقلانيّ من جهة أخرى، من أجل الرّبح الدّنيويّ، ربحٍ يتوجّب ترشيده، من أجل تحقيق الخلاص الأبديّ، وهذا ما سيجعله يتّخذ مساراً مهمّاً في تطوّر الرّأسماليّة، التي تفترض وجود تنظيم عقلانيّ للعمل، وتنظيمٍ للرّبح الذي يجب ألا يُستهلَك بإفراط، ولكن بحرص على ادّخاره من أجل إعادة استثماره لامتلاك وسائل إنتاج جديدة. 
كما تؤكّد الكالفينيّة في مبادئها الأساسيّة أنّه يمنع على الإنسان أن يأكل، إذا لم يكن يشتغل، حتّى لو لم يكن يحتاج إلى العمل، لأنّ الغنيّ يجب أن يخضع لأوامر اللّه، مثله مثل الفقير، وذلك لأنّ اللّه حدّد لكلّ واحد مهمّته داخل الحياة، التي يجب أن يقوم بها. فالعمل أمر إلهيّ، فرضه على الفرد، من أجل مجد اللّه، بالتّالي فالمؤمن الحقيقيّ هو رجل المهنة والعمل الجيّد، ومن جهة نظر الرّأسماليّة، فرجل الأعمال النّاجح هو رجل الأعمال الجادّ والكفء، وهذا يدخل في إطار تشكيل أهمّ مبادئ الفرد الرأسماليّ العقلانيّ الغربيّ.
الحالة التونسيّة                                                                                                   
من البديهي أنّ لكلّ مجتمع نظامه القيمي والأخلاقي الذي يضبط العلاقات بين الأفراد، هذا النّظام قد يشتدّ ويضعف حسب الفترات والحقبات التي تمرّ بها المجتمعات، والمجتمع التّونسي تعرّض في السّنوات الأخيرة لتحوّلات اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة عديدة أحدثت انقلابا في منظومة القيم الاجتماعيّة حيث انحسرت القيم الإيجابيّة التي طبعت سلوك التّونسي بنموذج فريد من المروءة والطّيبة والأمانة والإتقان وإنكار الذّات واحترام الآخر، وأفسحت المجال لتربّع القيم السّلبيّة هرم السّلم الأخلاقي وفي هذا المشهد إعاقة للسّلوك النّموذج.                                                                                                                       
تأكيدا لهذا نستعرض مسح أراء قامت به الجمعيّة التّونسيّة للمراقبين العموميّين حديثا(4)بينت من خلاله أنّ ظاهرة الفساد والرّشوة مازالت متفاقمة في الهياكل العموميّة  في تونس، مبيّنا أنّه من الطّبيعي أن يعقب الثّورات طفرة  فساد خاصّة بسبب ضعف أجهزة الدّولة، وأنّه عادة ما تبقى هذه الظّاهرة متفاقمة  بين 5 و 6 سنوات في المجتمعات التي عاشت ثورة مثل ما هو الحال في تونس. 
أثبتت الدّراسة أنّ 77 % من التّونسيّين يعتبرون أنّ الرّشوة لم تتراجع بعد الثّورة، وإنّها في تزايد من سنة إلى أخرى. كما يعتبر 70 % منهم أنّ الفساد الصّغير- ورغم انعكاساته السّلبية- فإنّه يسهّل معاملاتهم اليوميّة. وتحتلّ المعاملات مع سلكيّ الأمن والدّيوانة صدارة القطاعات المعنيّة بالرّشوة والفساد، تليها قطاعات العدالة والصّحة والجماعات المحليّة من بلديّات و معتمديّات، كما يشمل الإعلام وقطاعات أخرى مثل البنوك والتّأمين والرّياضة.                                                                                                         
وحسب سبر آراء مع المواطنين، فإنّ أكبر الأسباب التي تؤدّي إلى دفع الرّشوة هي الإجراءات الإداريّة الطّويلة والمحسوبيّة التي تعدّ من أهم أسباب دفع الرّشوة بنسبة 92 %، وتحتل تونس الكبرى صدارة ترتيب الجهات التي تمارس فيها الرّشوة بنسبة 60 % نظرا إلى أنّها المكان الذي ترتكز فيها الإدارات الكبرى ومراكز الخدمات، ومن جهة ثانية تشير الدّراسة إلى أنّ الرّجال هم أكثر من يدفع الرّشوة بنسبة 64 % مقابل 36 % من السّيدات.                                                                                    
 وحسب منظّمة الشّفافيّة المالية، فإنّ نسبة الرّشوة في تونس قويّة ولا بدّ من اتخاذ موقف قويّ للحدّ من الظّاهرة. ووفق تقرير أصدره البنك العالمي حول الفساد في تونس(2014) فإنّ القوانين الموضوعة في تونس قد تكون من أسباب تكاثف الرّشوة والفساد في البلاد.                                                    
ومن منظور سوسيولوجي يمكن تفسير ظاهرة تفاقم الرّشوة والفساد في المجتمع التّونسي بالعودة إلى حالات الفوضى بعد «الثّورة»، فهناك صراع بين الأخلاقيّات وتحقيق المطالب الخاصّة في وضع اجتماعي مترد نتيجة التّراجع الاقتصادي وسيادة القيم المادّيّة وعدم احترام القوانين وغياب سلطة الدّولة. هذا الواقع المتأزّم من شأنه إضعاف سلطة الدّولة وحيادها عن مسارها التّنموي وخاصّة فقدان كلّ ما أنجزته من تنمية عبر عقود. 
كما يؤكّد الملاحظون والمختصّون في موضوع الرّشوة والفساد، أنّ الفترات الانتقاليّة من شأنها أن تشجّع على كل ّما هو غير منظّم، فهي فترات تتّسم بعدم الاستقرار وضعف الدّولة وأجهزة المراقبة لديها. ولا يتسنّى تغيير هذا الوضع إلاّ إذا ما اعتبرت الدّولة عمليّة الرّشوة جريمة وأبدت الرّغبة في محاسبة المقترفين لهذا الجرم.                                                                      
بعض الأفكار والمقترحات لمكافحة ظاهرة الفساد وعلاجها:
 لمّا كانت أسباب الفساد متعدّدة، فإنّ وسائل ومقترحات علاجها متعدّدة هي الأخرى، إذ لابدّ أن تتوافق مع مختلف أسباب الفساد من أجل علاجه، ويمكن أن تتمثّل في المقترحات التّالية:                                   
* زرع ثقافة الوعي لمحاربة هذه الآفة الاجتماعيّة التي تفتك بكلّ المعايير في أذهان الأفراد ليدركوا أنّ الكفاءة والعدل والنّزاهة وتكافؤ الفرص وسيادة القانون هي القيم التي يجب على المجتمع السّعي لتعزيزها، وهنا تلعب التّربية الأخلاقيّة والبرامج التّعليميّة التي توضّح مظاهر الفساد ومضاره دورا هامّا، بحيث يتربّى الفرد منذ الصّغر على هذه المبادئ لتصبح مع مرور الزّمن جزءا من سلوكه الشّخصي السّليم.                       
* التّركيز على وضع العقوبات القانونيّة الصّارمة و الرّادعة، لأنّ ضعف وانعدام الرّقابة والمحاسبة لموظّفي الدّولة يؤدّي حتما إلى تفشّي الفساد وإلى ظاهرة سوء استخدام السّلطات وتجاوز حدود الصّلاحيّات. لذا يتوجّب تشخيص هذا المرض وتحديد الأشخاص المسؤولين عن الفساد وكشف المنظومات الفاسدة داخل الجهاز الإداري من خلال إنشاء الأجهزة الرّقابيّة اللاّزمة القادرة على كشف الانحرافات والممارسات اللاّأخلاقيّة، وفرض العقوبات الصّارمة تجاه المنحرفين إداريّا حتّى يكونوا عبرة لغيرهم.                                                                                                                
* تبسيط إجراءات العمل والتّخلّص من المعوقات الإداريّة، فكثرة المعوقات الإداريّة وطول الإجراءات تعدّ من الأسباب الرّئيسيّة لانتشار الفساد الإداري في الأجهزة الحكوميّة كدفع الرّشاوي من قبل المواطنين للموظّفين لقضاء حاجاتهم. ولتفادي هذه الظاهرة ومعالجتها لابدّ من إعادة النّظر في القوانين والأنظمة الإداريّة وإدخال التّعديلات اللاّزمة بوضع إجراءات بسيطة لتفادي الرّشاوى وتطهير المعاملات من الفساد.                                                                                                                         
* تطبيق المقاربة التّفاعليّة عبر خلق  قنوات اتصال فعّالة بين الإدارة والموظّفين للمشاركة في صنع القرار وتحسين الأداء، فقد بيّنت تجارب مدرسة العلاقات الإنسانيّة أنّ حاجات العامل ليست بالضّرورة مادّية بل إنسانيّة واجتماعيّة، تتجلّى في حاجاته للاهتمام به من طرف المسؤول وحاجاته لعلاقات طيّبة مع مجموعة العمل والاعتراف به وتحقيق ذاته وإشراكه في أخذ القرار، ومن شأن كلّ هذا أن يحفز الموظّفين على تفعيل القيم المهنيّة الأخلاقيّة، ونبذ قيم اللاّمبالاة والمحسوبيّة والابتعاد عن الأساليب غير الشّرعيّة، مع تحفيز الموظّفين مادّيا ومعنويا  إلى جانب إجراء ترقيات على أساس الكفاءة والمهارات.                                                                                                                  
* إدخال تعديلات في الأجور، فكما بيّنا سابقا أن انخفاض الأجور من شأنه أن يدفع بالموظّف إلى البحث عن مصادر أخرى لتحسين ظروف عيشه وعيش عائلته.                                                                
* مكافأة الموظّف الأمين، ففي ظلّ المنظومات الفاسدة يصبح الموظّف الأمين عرضة للسّخرية والاهانات – اللاّمعياريّة- بل قد يصل الأمر في بعض الحالات إلى عقوبته لتحلّيه بالنّزاهة، وهنا لا بدّ من معالجة هذا السّلوك المرضي المختل عبر تقديم الحوافز المادّية المشجّعة على احترام أخلاق العمل واعتباره قدوة لغيره، حتّى يعدل البقيّة عن الانحرافات السّلوكيّة.                                                         
* إتباع سياسة تعمل على حثّ الموظّفين على تقدير قيمة العمل وجني ثمار مجهوداتهم عبر إقرار جملة من الامتيازات المادّية تتمثل في حوافز لمساعدتهم على اقتناء منزل أو سيارة.                     
* التّركيز على وضع قيادات كاريزماتيّة تتمتّع بالنّزاهة والأمانة والاستقامة لتكون القدوة لصغار الموظّفين، وتمثّل مسار إعجابهم وتثير فيهم الإحساس بالولاء،  فتكون  قادرة على وضع قواعد للسّلوك من شأنها أن تمارس سلطة على أتباعها.                                                                                 
* وجود مختصّين اجتماعيّين يقومون بزيارات ميدانيّة لأسر الموظّفين بهدف مساعدتهم على حلّ مشاكلهم اليوميّة كما كان الشّأن في التّجربة الفورديّة.                                                                           
* في الأخير تبقى الرّقابة الذّاتية التي تقوم على جملة من المبادئ الأخلاقيّة هي السّد الواقي من الوقوع في الانحراف مع تقوية الضّمير الجمعي للحفاظ على كيان المجموعة والمصلحة العامّة.                         
خاتمة
نخلُصُ من كلّ ما تقدّم إلى أنّ ظاهرة الفساد الإداري في العديد من دول العالم وخاصّة النّامية منها هي ظاهرة عامّة ومعقّدة، تعود أسباب انتشارها إلى عدّة عوامل متداخلة. تمثّل هذه الظّاهرة في جوهرها حالة تفكّك تعتري المجتمع نتيجة فقدانه لسيادة القيم الجوهريّة، ولعدم احترام القانون وغياب تكريس مفهوم المواطنة وثقافة حقوق الإنسان واحترامها بشكل طبيعي وتلقائي.                                                   
  في ضوء علم الاجتماع يمكن اعتبار الفساد مرضا اجتماعيا استفحل في المجتمع إلى درجة تحوّله إلى  سلوك مقبول اجتماعيّا، وهو داء معد بما أنّ النّاس يتعلّمون طرق الفساد وكيفيّة اختراق القوانين لتحقيق المصلحة الخاصّة عن طريق التّقليد. لذلك يهتمّ علم الاجتماع الإداري في جانب منه بتقديم بعض المقترحات لمعالجة المشاكل الاجتماعيّة النّاجمة عن تصرّف الإداريين بعد سعيه لفهم بنية الإدارة داخليّا وتأثير الظّروف الخارجيّة. وما يلاحظ اليوم هو قلّة الدّراسات السّوسيولوجيّة في المجال الإداري منذ كتابات «أليكسيس توكوفيل» و«ماكس فيبر» ويعود السّبب إلى صعوبة تناول البيروقراطيّة التي تطرح في العصر الرّاهن تحدّيات ثقافيّة، إضافة إلى ما تطرحه الحياة الدّاخليّة للبيروقراطيّين صلب البناء الإداري الدّاخلي من مشاكل وحالات معقّدة، لذلك نرى أنّ علم الاجتماع الإداري هو في أشدّ الحاجة اليوم إلى أدوات منهجيّة ناجعة لمقاربة الظّواهر الإداريّة بشكل دقيق وذلك عن طريق استعمال المناهج الكمّيّة والمناهج الكيفيّة.
الهوامش
 (1)  لمزيد توضيح علم الإجتماع الإداري، يرجى العودة إلى الحلقة الأولى بالعدد 183 - أكتوبر 2022
(2)  ماكس فيبر، ترجمة محمد علي مقلد، «الأخلاق البروتستنتية وروح الرأسمالية»، بيروت، مركز الإنماء القومي، 1990.
(3) المقولة الشهيرة لتوماس هوبز الفيلسوف الإنجليزي (5 أفريل 1588 - 4 ديسمبر 1679) 
(4) نسبة لماكس فيبر Max Weber عالِمَ اجتماعٍ ومؤرخٍ وفقيهٍ واقتصادي سياسي ألماني ويُعتبر من بينِ أهمِّ المُنَظٍّرِين لتطوّر المجتمع الغربي الحديث(21 أفريل 1864 - 14 جوان 1920) 
(5) الجمعة التونسية للمراقبين العموميين: دراسة حول الفساد لصغير في تونس، مارس 2015.