فواصل

بقلم
د.مصدق الجليدي
المفكـر والفقيه وحاجة المجتمع إليهما
هل نحن بحاجة في مجتمعاتنا إلى فتاوى الفقيه أم إلى اجتهادات المفكّر؟
هذا السّؤال الذي هو من طبيعة سوسيولوجيّة يفرض علينا طرح سؤال آخر معرفي (ابستمولوجي) يشتقّ منه وهو : أيهما «يأتي أوّلا» في ترتيب تمشّي الصّياغة النّظريّة لرؤى واختيارات المجتمع والدّولة: الفقيه أم المفكّر؟وتأتي مشروعيّة طرح السّؤال الأخير ممّا نلاحظه من تزايد للأعمال الفكريّة والعلميّة التي تتصدّى في البلدان العربيّة لمسائل تعدّ تقليديّا من اختصاص الفقيه وعالم الدّين. فمثلا نجد في كتاب «الإسلام بين الرّسالة والتّاريخ» لعبد المجيد الشّرفي عدّة «فتاوى» (مركّبة بمنهج شبه علمي) حول الصّلاة والصّوم والحجّ والعلاقة بين الجنسين، كما نقرأ له أفكارا حول طبيعة الوحي، وهو موضوع كان يتبع تقليديّا الاختصاص المعروف بعلوم القرآن. وهذا الموضوع الأخير نفسه تعرّض له محمد أركون في كتابه «القرآن من التّفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدّيني» وتعرّض له هشام جعيط في كتابه «تاريخية الدعوة المحمدية في مكة». وكما هو معلوم فإنّ هؤلاء جميعا ليسوا بفقهاء أو علماء دين.في القديم، كان الفقيه هو المستولي على كامل المجال الرّمزي والأخلاقي العملي في حياة المجتمعات الإسلاميّة، واليوم يأتي المفكّر والمثقّف والعالم والباحث لينافسوه في هذه الوظيفة الرّمزيّة: ليتقاسموا معه مهمّة مراكمة الرّأسمال الرّمزي للمجتمع ومدّ السّياسي (الدّولة) بخلفيّات نظريّة لسنّ قوانين وتشريعات جديدة.وظيفة الفقيه هي إيجاد حلول عمليّة لمشكلات المجتمع. هذه الحلول تأخذ صيغة تشريعات تُلزم جهاز القضاء وتُلزم الدّولة (السّياسة الشّرعيّة).ولكنّ المشكلة هو أنّ اجتهادات الفقيه لا تتمّ في فراغ، وإنّما انطلاقا من رؤية معينة ومن «فلسفة معينة» للإنسان ولعلاقته بأخيه الإنسان الآخر، رجلا كان أو امرأة، عبدا أو جارية (في القديم)، حاكما أو محكوما. وتصدر هذه الاجتهادات عن تصوّر لمكانة الإنسان في العالم ومدى قدرته على التّشريع لنفسه بنفسه. هذه الرّؤية رؤية ماهويّة ستاتيكيّة تأبيديّة للوضع الإنساني في نمطيّة ممتدّة قرونيّا.وهذه الرّؤية وهذه الفلسفة قد طرأ عليهما اليوم تغيّر كبير، بل إنّ العقل البشري قد شهد ثورات عميقة هزّت مسلّماته اللاّهوتيّة وموروثاته الثّقافيّة من الجذور، فتقدّم الفيلسوف والمفكّر والعالم المختصّ في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة والقانونيّة والطّبيب والخبير، ليزاحموا الفقيه والإمام وينافسوهما في الفضاء العمومي، فبتنا في مجتمعاتنا العربيّة المتردّدة في شخصيّتها القاعديّة، نحتكم في نفس الوقت لمرجعتيين: مرجعيّة تقليديّة تراثيّة ومرجعيّة حداثيّة معاصرة.النّتيجة: ازدواجيّة في الشّخصيّة القاعديّة للفرد. فبما هو مواطن فإنّه يحتكم إلى المرجعيّة القانونيّة السّائدة، وبما هو عربي مسلم بالدّيانة أو بالثّقافة، فإنّه يهب ولاءه الوجداني إلى ثقافته العربيّة الإسلاميّة التي هي مجال السّلطة الرّمزيّة للفقيه ولرجل الدّين بامتياز.سبب الولاء الأول (الولاء المدني) هو عدم التّفريط في منافع مادّية حقيقيّة توفّرها له القوانين المعمول  بها (أو على الأقل تجنّب العقاب المترتّب على مخالفة تلك القوانين). أمّا سبب الولاء الثّاني فهو من طبيعة وجدانيّة عقائديّة أو مذهبيّة أو ثقافيّة.والأمثلة على ذلك كثيرة، وتبدأ من شكل اللّباس ونوعه والمظهر الخارجي بصفة عامّة، إلى طرق التّعامل مع الآخرين المختلفين عنّا في القناعات مرورا بطريقة معاملة الزّوجة والأطفال، ووصولا إلى مدى القبول بقواعد اللّعبة الدّيمقراطيّة…الخ.وما نشاهده اليوم في المجتمعات العربيّة من صراعات معلنة أو خفيّة، يعود في جانب كبير منه إلى هذا التّذبذب في المرجعيّات الجماعيّة والفرديّة. فهنالك مجتمع الفقيه أو الدّاعية الإسلامي الذي يعيش جنبا إلى جنب مع مجتمع القوى والحساسيّات المدنيّة الحديثة. ويحصل احتكاك، تارة سلمي استقطابي أو تحاوري، وتارة عدائي وصدامي، حتّى داخل نفس الأسرة. وليست القضيّة في الغالب قضيّة من هو ضال ومن هو مهتد، بل قضيّة اختلاف في الولاءات: الولاء عن قناعة ووعي للفكر الحديث للدّولة ولقوانينها الحديثة أم تبعيّة لا مشروطة للتّراث الفقهي وللمشائخ والأئمّة.من هنا نعود لنطرح قضيّة المشروعية المرجعيّة في التّصورات وفي أنماط السّلوك الجماعيّة: هل هي للفقه ورجاله أم هي للفكر الحديث والعلم المعاصر والقوانين الجاري بها العمل؟ ما مكانة المفكر والباحث في مجمعاتنا ذات الولاء المزدوج: المدني والدّيني؟ هل يسبق المفكر الفقيه أم يليه في ترتيب إنتاج صيغ التّفكير وأنماط الأخلاق والسّلوك؟ وبعبارة أخرى ما الحاجة إلى المفكّر إذا كان الفقيه ورجل الدّين هو من يقرّر مصير الأفراد الدّنيوي والأخروي معا، من خلال منظومته التّحليليّة/التّحريميّة؟ (إصدار فتاوى بالتّكفير وبفصل الزّوجة عن زوجها «المارق» عن الدّين الرّسمي…الخ.)، أو ما الحاجة إلى الفقيه إذا كان المفكّر والفيلسوف وعالم التّربية وعالم الاجتماع وعالم النّفس وعالم الاقتصاد هم من يفهمون أكثر أين تكمن حاجات المجتمع والفرد الحقيقيّة، وبأيّ الصّيغ نحقّق القدر الأعظم من الاستقرار والعدالة والتّنمية والرّفاهيّة؟لنضرب مثلا: إذا برهن عالم البيولوجيا وعالم النّفس والفيلسوف وعالم الاقتصاد أنّ المرأة والرّجل ينتميان إلى نفس الجنس البشري وأنّهما يتكاملان وظيفيّا ويتساويان إنسانيّا ويتعاونان اقتصاديّا وبإمكانهما أداء أدوار اجتماعيّة بنفس القيمة، كتربية الأطفال والعمل خارج المنزل، والنّشاط الجمعياتي …الخ، فهل يُحتاج بعد ذلك إلى الفقيه ليفصِّل لكلّ واحد منهما حقوقا وواجبات تختلف باختلاف جنسيهما؟في تاريخنا الوسيط شوهد كذلك صراع بين الفقيه والمفكر أو المشتغل على العلوم العقليّة: الفيلسوف. فقد كتب الغزالي مثلا «إحياء علوم الدّين» و«تهافت الفلاسفة» للحدّ من انتشار الفكر الفلسفي والفكر الاعتزالي. وكتب ابن رشد «تهافت التّهافت» للانتصار من جديد للفلسفة، ولكنّه خشي على نفسه وعلى الحكمة العقليّة أن تضيع، على إثر ثمانين عاما من كتابة الغزالي لرسالته «فيصل التّفرقة بين الإسلام والزّندقة» فكتب «فصل المقال في ما بين الحكمة والشّريعة من الاتصال».تراث ابن رشد تلقفه العلماء والفلاسفة المسيحيّون بكلّ إعجاب وأدرجوه في جامعاتهم، بينما أحرقت كتبه في قرطبة واستبعد فكره من العالم الإسلامي طوال قرون عديدة. وليس المهمّ محتوى هذا الفكر(الذي قد يكون غير مفيد من النّاحية العلميّة وغير معاصر من النّاحية الفلسفيّة) بل المهمّ فيه هو نزعته نحو إيلاء العقل مكانة مرموقة في بناء المعارف.وفي إفريقيّة العصر الوسيط (على ما يذكره محمد الطالبي) كان تصدّي فقهاء المالكيّة (الإمام سحنون وأسد ابن فرات) لعلماء الكلام العقليين (المعتزلة) عنيفا. فكان يؤتى بمن ثبتت عليه تهمة العقل (الزندقة في عرف المتشددين من فقهاء المالكية) إلى جامع القيروان ويستتاب تحت التهديد بالعقاب الشّديد. وانتصر مجتمع الفقهاء المتشدّدين والأنساق الفكريّة الدّينيّة المغلقة على مجتمع الفلاسفة والعلماء العقليّين وأصحابِ الرّؤى المفتوحة. وهو ما أورثنا اليوم عقليّة الإقصاء والرّأي الواحد واللّون الطّاغي الواحد...الخ. وإلى اليوم كذلك ما زال الفكر الحرّ والعلوم العقليّة مستبعدة من مجال الفضاء التّداولي العمومي، وتلاقي استهجانا وهجوما من العامّة خاصّة أو من أشباه العلماء.هذه المشكلة لا توجد في العالم الأوروبي والغربي على نحو عام، لأنّه قد تمّ التّحوّل في هذه المجتمعات إلى النّمط الحديث بالكامل. وماذا نتج عن ذلك؟ نتج تراكم كبير في الخيرات والخبرات و تنعّم كبير بالحقوق الفرديّة والحرّيات. في مقابل الفقر والتّخلّف والاستعمار والاستبداد في العالم العربي والإسلامي. فما هي خصائص النّمط الحديث في العيش والتّفكير والسّلوكات بوجه عام؟ولادة مفهوم الفرد واعتماد نمط التّفكير العقلاني. الفرد: كائن نام متطوّر، خلاّق، واثق بنفسه، يفكّر باستقلاليّة: لا يحتاج إلى من يفكّر مكانه. ينتخب (لينوبه، أو يحكمه) من يثق في إمكانية تحقيقه  لطموحاته وحاجاته وقناعاته، ويحاسبه إذا ما أخلف وعوده وأخلّ بقوانين البلاد. بينما يغيب الفرد في المجتمع الذي يطغى فيه الفقهاء. بحيث يلعب الفقيه عادة دور المفتي والمضفي للشّرعيّة على اختيارات قد تتمّ بمعزل عن الفرد وقناعاته، أو توكل له مهمّة القيام بمجرد دور طقوسي احتفالي أو جنائزي تأبيني.قول الكاتب البحريني علي الديري ناقدا مؤسّسة الفقهاء المتزمتين: «الفقيه يؤسّس لمجتمع الموالين المؤمنين الذين تجمعهم رابطة الولاء العقائديّة [...] لذلك فأمر الفقيه لا يمكن أن يتجاوز جماعته [...] ولا يمكنه أن يتعامل مع الجماعات المتعدّدة والمتنوّعة في المجتمع الواحد على قدر المساواة[...] مع المفكّر، أنت مع الإنسان، في تعدّده واختلافه وتنوعه[...] مع المفكّر، نحن في مجتمع الأصدقاء لا الأخوة، أي مع الأصدقاء المتعدّدين في كلّ شيء لا مع الأخوة المتماهين في كلّ شيء.  الاختلاف في مجتمع الفقهاء يفتح باب القتل وفي مجتمع المفكّرين يفتح باب الحياة، لذلك ما قتل مفكّر إلاّ بفتوى فقيه، وما قتل فقيه إلاّ بفتوى فقيه آخر. وما أحرق كتاب إلاّ بفتوى فقيه أيضا، لكن لم يقتل فقيه برأي مفكر ولا أحرق كتاب برأي مفكر. السّهروردي والحلاّج وابن رشد وكتبهم شهداء على الفقهاء. الفقيه باب على الموت وما بعد الموت، والمفكّر باب على الحياة». المفكّر إذن يعمل بالتّوافق مع روح القرآن الذي دعا إلى الأخذ بأسباب الحياة الحقّة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: 24). والفقيه لا يعمل وفق هذه الرّوح إلّا إذا كان مفكّرا، أي مجتهدا في الاجتهاد نفسه. نذكر منهم الشّاطبي الذي اجتهد في ما كتبه قبله من الأصوليّين كالغزالي وابن شهاب والقرافي، والطّاهر بن عاشور الذي اجتهد في ما كتبه الشّاطبي وغيره من الأصوليّين .