بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
من التّفسير إلى التّفكير - سورة الفيل أنموذجا الحلقة 8 : قصّة الفيل في ضوء التّفكير 2/3
 قبل التّبسّط في عرض هذه المحاولات يتوجّب على الدّارس، في مستهلّ هذا الفصل، إبداء بعض الملاحظات الّتي تبدو أساسيّة ومنها أنّ  العقل التّفسيري ظلّ ينتهج من الأدوات المعرفيّة ما أنتجه أوائل المفسّرين. فكلّ مفسّر كان يتجشّم مهمّة الكشف عن المعاني القرآنيّة من خلال الشّرح المعجمي للألفاظ والوقوف على مختلف القراءات المتعلّقة بالآية المفسَّرة وما قيل حوْلها من أخبار وآثار عليقة بسبب النّزول وظاهرة النّسخ والإحكام أو التّشابه أو التّعميم أو التّخصيص وصولا إلى المعنى المستفاد. وكلّ ذلك يتكرّر مع كلّ آية من الفاتحة إلى سورة النّاس. والنّتيجة الحاصلة من هذا التّمشي التفسّيري هو ضياع المعنى الكلّي النّاظم للأفكار من جهة والسّقوط في التّكرار من جهة أخرى حتّى أنّ عبارة: «وقد مرّ بنا توضيح هذا المعنى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع»(1)، بالإضافة إلى أنّ هذا التّفسير الخطّي إنْ كان ينسجم مع رؤية ثقافيّة تقول بالموسوعيّة، والأخذ من كلّ شيء بطرف، فإنّه ما عاد منسجما مع ثقافة تنهض على مقولة التّخصص. وعليه فإنّ القرآن بمواضيعه التي تكاد لا تُحصى لا يستطيع المجهود الفردي أن يحيط بها كلّها. والمُزعج، في هذا الإطار، هو الانزياح الّذي شهدته الثّقافة الإسلاميّة والمتمثّل في أنّ القرآن الّذي أراده اللّه مهيمنا على الكتب التي سبقته ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾(2)، قد اُستبدل بالتّفسير الذي استلّ هذه الهيمنة ونُسبت إليه خطأ من المسلمين، فأضحى التّفسير في أغلب الأحيان حجابا حائلا دون الكتاب.
 ولقد ظلّت السّنن التّفسيرية، المشار إليها آنفا، متحكّمة في الفعل التّفسيري قرونا طويلة إلى أن انبرت ثلّة من المفكّرين المعاصرين لإعادة النّظر في الدّراسات القرآنيّة عبر البحث عن أدوات جديدة في إنتاج المعرفة، ولقد تسلّحت هذه الثّلة بمناهج جديدة تخوّل الغوص في أعماق النّصّ شكلا ومضمونا وصولا إلى بلورة رؤى ومفاهيم لم تُطرق من قبل تبعا لسقف المعرفة الّتي كانت سائدة.
ومن هذه الملاحظات، أيضا، ضرورة الفصل بين الآيات وتفسيرها، إذ الآية من اللّه والتّفسير من البشر. ولقد مرّت بنا بعض الإشارات النّقديّة من بعض المفسّرين إزاء المغالاة الّتي تتخلّل قصّة الفيل أحيانا ومن ذلك ما سجلّه فخر الدّين الرّازي ومحمّد عبده ومحمّد الطّاهر ابن عاشور، ذلك أنّ هذه المغالاة تضفي على الأحداث مسحة خياليّة. ولكنّ المزيد من التّأمل يُحيل على ذكر أنّ هذه الحادثة لم ترد في غير المصادر الإسلامية من كتب التّاريخ ولم يُسجّلها الكُتاب الأحباش علما بأنّ القائد أبرهة قد تُوفي قبل ميلاد النّبي بعشرين سنة، وأغلب الرّوايات تعتبر أنّ ميلاد النّبي كان سنة وقوع حادثة الفيل، بالإضافة إلى أنّ قطع المسافة الفاصلة بين اليمن والحجاز  يتطلّب ما يزيد عن شهر، وهو ما يقارب ألف كيلومتر تستوجب علفا وماء لغذاء الفيلة خاصّة أنّ بعض الرّوايات تجعل عددها يتراوح بين ثمانية وألف. إلى جانب أنّ حجّ المسيحيّين إلى كنيسة الأحباش أمر غريب بالنّسبة إلى تاريخ المسيحيّة. ثمّ إنّ نصرة اللّه لأهل الوثنيّة والانتقام من أهل الكتاب الموحّدين تدعو إلى التّعجب من قبول هذه الفكرة من المفسّرين. وقد أحسّ ابن كثير بهذا التّناقض فأشار  إلى مخرج مفاده أنّ دين الأحباش كان أشبه ما يكون بالوثنيّة، وكان الأحباش «قوما نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا ممّا كانت عليه قريش من عبادة الأوثان»(3). ومع ذلك فإنّنا نشير إلى أنّ الإشكال يظلّ قائما في نصرة اللّه للوثنيين على أشباههم من الوثنيين.
وليس خافيا على الدّارس أنّ الكعبة قد شهدت ضروبا من الاعتداء عبر تاريخها من قبيل احتراق ستورها وأكثر أخشابها، ونزل بمكّة سيل أوهى بناءها وصدع جدرانها، فأجمعت قريش أمرها على هدمها وتجديد بنائها. كان ذلك كلّه قبل البعثة بخمس سنوات. وفي سنة أربع وستّين للهجرة وهنت جدران الكعبة وانقض بنيانها من حجارة المنجنيق الّتي أصابتها حين حوصر عبد اللّه بن الزبير بمكّة، وأصابها حريق أتلف كسوتها وما فيها من خشب السّاج، فلما فُكّ الحصار عن ابن الزبير وارتحل الحصين بن نمير عن مكّة بعد أن نعى له يزيد بن معاوية، رأى ابن الزّبير أن يهدم الكعبة ويجدّد بناءها، ففعل ذلك في السّنة ذاتها(4). وفي السّنة التّاسعة عشر ومائتيْن للهجرة اقتلع أبو طاهر القرمطي الحجر الأسود وذهب به إلى بلاده هجر وبقي موضعه خاليا ثمّ أعيد إلى مكانه بعد سنوات عديدة. وفي السّنة الثّالثة عشر وأربعمائة للهجرة ضربه رجل ثلاث ضربات بدبّوس، فانخدش وتساقطت منه شظايا وتشقّق(5). كلّ ذلك تمّ ولم ير الرّائي طيرا أبابيل ولا حجارة من سجّيل.
 إنّ الجدير بالملاحظة هو أنّ كتب التّاريخ والآثار خالية من الإشارات إلى موقع هذا الكنيس المسمّى بالقُلّيْس وإلى بقايا آثاره. وهي خالية أيضا من كلّ إشارة إلى قبور جماعيّة تذكّر بفناء الجيش المهزوم. والملاحظ أيضا في هذا الإطار هو أنّ المصادر غير العربيّة التي اهتمت بتلك الفترة لا تتطابق مع التّأريخ الإسلامي التّقليدي. فقد وصف بروكوبيوس(6)القيصري المساعدة البحريّة الّتي قدّمتها بيزنطة للحملة الأثيوبيّة ضدّ ذي نواس، الحاكم اليهودي الحميري لليمن. فقد روى الانتصار الأثيوبي البيزنطي الّذي نتج عنه صعود أبرهة إلى الحكم. فلو أنّ الأحباش كانوا قد استخدموا فِيَلة الحرب في هذه الأحداث لأثار ذلك فضول هذا المؤرِّخ. لكنّ الفِيلة كانت غائبة تماما في روايته. 
ولمّا كان الأسلوب الّذي يعتمده القرآن عامّا ينهض على الإشارة  غير المفصّلة فهو ليس بكتاب تاريخ يعنى بذكر أسباب الظّواهر ومظاهرها ونتائجها، وإنّما يكتفي بالتّلميح لأنّ غايته من القصّة هي تلقّف العبرة وبيان صيرورة الحضارة الإنسانية. وهذا الفراغ الدّلالي صلب الخطاب، هو الّذي فتح الأبواب أمام القصّاص والإخباريين والمفسّرين لنسج ضروب من الحوادث والأحداث لإخراج قيل تفسيري يملأ الفراغ ويضفي التّماسك على أطراف المعنى.  
يقول محمّد عجينة في هذا الصّدد: «إنّ بعض الآيات المجملة في أخبار الماضين من الأمم والأنبياء أحوجت بعض المفسّرين والقصّاص إلى تفصيل القول فيها واعتماد ما كان متداولا في البيئة الثّقافية الكتابيّة ولدى الإخباريين عامّة من روايات تروى عن الماضين فإذا هي حافلة بالعجائب والغرائب والأساطير مثل ناقة صالح عند المفسّرين لسورة الفجر ثمّ عند أصحاب كتب قصص الأنبياء وكيف تولّدت من الصّخر ثمّ كيف عاد سقبها إلى الصّخرة بعد عقرها ممّا لا نجد له أيّ تفصيل في القرآن الكريم»(7). والمهمّ في كلّ هذا هو أنّ القصّة لم تولد كاملة مع أوائل المفسّرين، وإنّما تدرجت حبكتها من مفسّر إلى آخر بحسب تقدّم الأزمنة. والدّليل الواضح على هذا الأمر هو تأخّر علم أسباب النّزول عن النّزول نفسه.
إنّ المحتوى الخبري المفصّل ليس من أهداف الخطاب القرآني الأساسية لذلك أعرض عنها لفائدة العبارة المثيرة والصّورة العميقة والمَثل المُعبّر، والفكرة اللاّفتة للذّهن والقصّة المختزلة وهو الأمر الّذي دعا المفسّرين إلى إضافة اسم أبرهة واسم الفيل «محمود» لسورة الفيل. وللدّارس أن يتساءل عن علاقة هذا الاسم بالنّبي قبل ولادته وعن ذكر البيت الحرام الّذي خلت السّورة من الإشارة إليه. ولعلّ ذلك ما حدا ببعض المفسّرين إلى اعتبار أنّ سورة قريش الّتي تذكر البيت صراحة  جزء مكمّل لسورة الفيل، علما بأنّ «هُبل» كان ثاويا داخل البيت، ويلقب في الجاهلية بربّ الكعبة.
وأمّا فيما يتعلّق بالطّيور البحريّة، فإنّ المرء يعجب من الحديث عن البحر في وسط بعيد عن السّواحل قدْر عجبه من الحكمة الثّاوية وراء الإلحاح على أنّها طيور ذات ألوان متنوّعة، وأشكال عجيبة. وإلى هذا الحدّ تحسن الإطلالة على المحاولات الفكريّة الّتي تروم ربط جسور متجدّدة مع النّصّ القرآني بشقّيْها النّظري والتّطبيقي. (للحديث بقيّة)
الهوامش
(1)  تتكرّر هذه الجملة في أغلب التّفاسير التّقليدية بصيغ متعدّدة. انظر على سبيل المثال الطّبري، جامع البيان، مج7، م ن، ص5219.
(2) سورة المائدة 5، الآية 48.
(3) ابن كثير، التّفسير، م ن، ص 657. 
(4) ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، مكتبة المعارف، بيروت، 1412ه، 1991م، ص225.
(5) ابن كثير، البداية والنهاية، ج12، م ن، ص ص14،13.
(6) هو من مواليد قيصرية من أعمال فلسطين سنة 500م. وتوفي سنة565م. وهو مؤرخ مسيحي بيزنطي. درس القانون وانتقل إلى القسطنطينية صحبة القائد العسكري بليزاريوس في حروبه بسوريا وإفريقية وايطاليا. نشر سنة 550 كتابه في الحروب. وفي سنة 560 أصدر كتابه «الصّروح» وفيه أشاد بإنجازات الامبراطور «جيستينيان» في البناء. استفاد من كتابات «هيرودوت» وكتب عن مشاهداته وتجاربه المعيشة. تُرجم تاريخه إلى عدّة لغات بالإضافة إلى الوثائق المكتوبة، من كتبه: «التّاريخ السّري. انظر مقال الكتروني بعنوان «بروكوبيوس من قيصرية» بمجلة المعرفة، السنة 13، الموقع الخاصّ بالهيئة العامة السّورية. 
(7) محمّد عجينة، موسوعة أساطير العرب عن الجاهليّة ودلالاتها، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط1، 1994، ص ص89،88.