بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
النّهضة العربيّة: من الإنقاذ إلى تفعيل الذّات
 جاء الوعي بالنّهضة في البلاد العربيّة متأخّرا عن انطلاقها وتاليا للحظاتها الحاسمة. كان الواقع العربيّ أسرع في الانخراط ضمن سياق نهضوي معيش من الحركة الفكريّة في ضرورة ضبط مفهوم للنّهضة ومعالجة لأهمّ المسائل المعرفيّة والقيميّة التي ترتبط بها. لذلك ظلّ المفهوم غامضا وكأنّ الحركة التّغييريّة كانت الأَهَمَّ مقارنةً بسؤال: ما هي النّهضة أو ماهي طبيعتها الأساسيّة؟ 
لا غرابة إن استمر غموض المفهوم ممتدّا، فالمفكر عابد الجابري، المهتمّ بالمسألة والصّارم في تحديداته المصطلحيّة، لا يولي أمر ضبط المفهوم عناية خاصّة. إنّه يكتفي بالقول «إنّ النّهضة من المصطلحات الجديدة التي صيغت لتنقل إلى لغة الضّاد مضمون الكلمة الفرنسيّة Renaissance منظورا إليه كمشروع مستقبل عربيّ».
إذا تأمّلنا خطاب النّهضة وتجاربها منذ البداية أمكننا أن نعلّل غياب الوضوح المفهومي بطبيعة خطابها الإيديولوجي: أي الهادف إلى إحداث تغيير ما. لذلك لم يكن ليُعْنَى بتحليل الواقع الفكري والاجتماعي كما لم يكن مهتمّا بالتوصّل إلى قوانين تحدّد ثوابته. كانت حركةَ إنقاذ الأَهمُّ في سلّم أولوياتها إحداث وعي بالتخلّف للخروج من حالة التردّي الاجتماعي والتخلّف السياسي لذلك كان ضبط المفاهيم الأساسيّة للمشروع وتحليل قواعده أمرا مؤَجَّلا. كانت تجارب النّهضة موزّعةَ الاهتمامات تسعى من خلال التنوّع إلى التحرّر بأسرع ما يمكن من أسر الجمود الذي أصاب المجتمع واللّغة والدّين والدّولة. تلك الطّبيعة الإيديولوجيّة وذلك التّعدّد في الأبعاد جعلا توجّهَ النّهضة مطروحا في إطار رفض التفكّك. ثم إن مقارنة النهضة العربيّة بحركة الإحياء الأوروبية Renaissance في القرن السادس عشر لا تساعد الدارس على تحديد مفهومها وظروف نشأتها الخاصة.
يتضّح جانب الاختلاف بين «النّهضة العربيّة» و«الإحياء الأوروبي» في الطّابع الردّ - فعليّ للأولى وهو طابع يختزنه الأصل اللّغويّ لمادّة «ن.هـ.ض» التي تدلّ على البَراح من المكان والقيام عنه. هذا البراح من الموضع في المجال المادّي وقع الاجتياز به إلى المجال الزّماني- الحضاري لتكون النّهضة من هذه الزّاوية الاشتقاقيّة رفضَ الواقع والخروج عنه إلى سياق مغاير. من ثَمّ تصبح الحركة والتّغيير والاستعداد لهما البعدَ الأوّل في هذا المفهوم ويكون المسوّغ الأساسي للنّهضة هو الردّ على التحدّي الذي فرضه الغرب الأوروبي في كلّ المستويات.
الإحياء الأوروبي، من جهته، لم يكن استجابة إلى حافز خارجي بقدر ما كان مواصلة في تطوير مرحلة تاريخيّة سابقة هي مرحلة الإصلاح الدّيني في القرن الخامس عشر الميلادي. في ذلك الطّور تمّ التّأسيس لسلط جديدة هي الحرّية والعقل والإنسان بقصد إسقاط الأنماط النّظريّة للواقع السّائدة في القرون الوسطى وذلك عن طريق التوجّه نحو مصادر قديمة يُعاد بناؤها طبقا لروح العصر الجديد.
في النّهضة كما صيغت في القرن 19 لم يبق تواصل مباشر مع المرحلة السّلفيّة التي عرفتها جهات مختلفة من العالم الإسلامي، كما لم يكن هناك سعي لتأسيس نظريّة جديدة لفهم الواقع والتّاريخ وتجاوزهما. من ثَمّ فالنّهضة في منطلقها كانت استجابة قهريّة اقتضتها - داخليا - حالة «الانفجار» واختلال التّوازن في العالم الإسلامي وكان الغرب محدِّدها الخارجيّ . أمّا مجال فعلها فقد كان مضاعفا، على المستويين النّفسي من جهة والمستوى الاجتماعي- السياسي من جهة ثانية. في حين كانت حركة الإحياء الأوروبي مشروعًا حضاريًا ينطلق من مصادر الثّقافة الأوروبيّة وقيمها القديمة للخروج على العالم برؤية ومعرفة ونظام وسّع حدود أوروبا السّياسيّة والاقتصاديّة وقلب النّظام الدوليّ كلّه.
ظهرت النّهضة في الأوّل اضطرارًا حضاريًا انساقت فيها عدّة بلدان، بدأت في مصر مع حملة «نابوليون» (1798-1801) ثمّ مع حكم «محمد علي» (1805-1848). توطّدت بعد ذلك في الشّام وتونس. استمرّ المسعى النّهضوي في تلك الرّبوع حتّى قيام الحرب العالميّة الأولى لكنّه ظلّ شبه غائب في جهات أخرى من البلاد العربيّة التي حافظت على نظمها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة من الاختراق والتّغيير.
فيما بين الحربين العالميتين عرفت النّهضة العربيّة طورا جديدا ثانيا، وقعت فيه سيطرة مباشرة للغرب الأوروبي على جلِّ البلاد العربيّة. عندئذ تحوّل الحسّ النّهضوي ببعديه الاجتماعي والسّياسي إلى سياسات محليّة اهتمّت بقضايا التحرّر الوطني ومتطلبات التّحديث. تواصل بذلك في عموم البلاد العربيّة الاختيار الاضطراريّ للنّهضة وتفاوتت فيه نسبة التحوّلات الاجتماعيّة من جهة إلى أخرى.
في هذا الطّور الثّاني تواصلت المحدوديّة الفكريّة والحضاريّة التي عرفتها النّهضة في فترة الانطلاق والتّأسيس مع انحسار للمشروع التّغييري ضمن خطط خاصّة بكلّ قطر عربي ذات اهتمام تنموي محليّ . لكنّ هذا المآل لا ينبغي أن يُخفي عنّا أهمّ مكسب لهذين الطّورين، إنّه استنبات قيم جديدة ضمن نسيج ثقافي عربي بدا متشظّيا. كانت قيمة التّقدم أبرز هذه القيم إذ تمّت بها مواجهة مفهوم أنّ «التقدّم لا يكون إلاّ نحو الأسوأ» وهو المفهوم الذي رسخته مدارس مختلفة اعتبرت أنّ ما تلا العصر النّبوي والخلافة الرّاشدة لم يكن سوى ابتعاد مستمر عن الحقّ والعدل. 
مع نهاية ستينات القرن العشرين برزت ملامح مرحلة ثالثة من عمر النّهضة أبرز ما فيها حركة تصحيح لما وقع التّفويت فيه من قبل. لقد ظهرت توجّهات فكرية تأسيسيّة تعيد النّظر في التّراث المعرفي الإسلامي ومناهج إنتاجه وركائزه النّظريّة وفلسفته الأخلاقيّة. 
هذا الطّور الذي يتواصل إلى اليوم رفضٌ للرّوح العَدَميّة التي تصرّ على مماهاة الآخر في مستويي السّلوك والوعي. 
هو إقرار بأنّ مشروع النّهضة العربيّة قائمٌ إلى اليوم أدرك الحاجة إلى تَلَمُّّس طريقه لعقلنة تاريخه باعتماد مناهج مختلفة هي على تنوّعها وتباين نتائجها أساسيّة من أجل تعديل النّظرة إلى الذّات وصياغة جديدة للعلاقة بالعالم. 
في هذا الطّور الثّالث برز وعي جديد تراجع معه الطّابع الردّ فعلي للتّوجه النّهضوي، ونمت مقولة تضامن الحضارات وتبادل الثّقافات كما تأكّد السّعي الفكري لإقامة علاقة نقديّة ونديّة مع الآخر. إنّه طورٌ جديد تُفعِّلُ الذاتُ العربيّةُ نفسَها وتؤهِّل ثقافتَها لتفاعل مبدع مع الحضارة الصّاعدة.