الأولى

بقلم
فيصل العش
في إلزاميّة الإصلاح الثّقافي (2) القوى المضادّة للتّغيير ودورها في عرقلة الإصلاح الثّقافي
 يواجه المثقّفون المتصدّون للإصلاح الثّقافي مخاطر الاستباحة الخارجيّة نتيجة العولمة التي استفادت من الثّورة الرّقميّة الهائلة التي شهدها العالم، والتي كشفت عن هشاشة القدرة الدّفاعيّة -الثّقافيّة والعلميّة - لمجتمعاتنا. فوسائل الإعلام العصريّة كالفضائيّات والإنترنيت وشبكات التّواصل الاجتماعي هي بصدد فعل فعلها في عقل الجمهور العربي، وإعادة صياغة تفكيره، وبالتّالي الهيمنة عليه ثقافيّا مساهمة منها في إضعاف مقاوماته، باتجاه التبعيّة والتّطبيع مع الكيان الصّهيوني ومع منظومة القيم التي تتعارض بشكل صارخ مع تقاليد ومورثات وعقيدة الأمّة. لكنّهم يواجهون أيضا تحدّي القوى المضادّة للتّغيير. فمن تكون هذه القوى؟ وكيف تشتغل؟ 
القوى المضادّة للتّغيير
هي مجموع القوى التي ترفض التّغيير باعتبار بقاء الأوضاع كما هي دون تغيير يخدم مصالحها.لذا فهي تسعى بكلّ الوسائل إلى تعطيل أيّة محاولة لتحريك منظومة القيم أوإعادة ترتيب أولويّاتها، فتسعى بما لديها، بوعي أو بدون وعي، إلى تلبيس المفاهيم وتضييع الحقائق والتّمويه وإلباس الحقّ بالباطل، بالإضافة إلى محاولات تجميل القبيح باستخدام زخرف القول ومحاولات صناعة الصّورة زيفاً وتزويراً. 
والقوى المضادّة للتّغيير متنوّعة، فمنها ما هو سياسي ومنها ما هو ثقافي ومنها ما هو اجتماعي، فأمّا السّياسي فيتمثّل في الطّبقة التي لديها السّلطة، التي ماكانت لتصل للموقع التي هي فيه لولا الواقع الثّقافي الذي يعيشه المجتمع، وبالتّالي فإنّ أيّة محاولة لتغيير هذا الواقع أو إصلاحه ستصطدم بالعراقيل التي تضعها هذه الطّبقة السّياسيّة الحاكمة. وهو ما حدث ويحدث في المجتمعات العربيّة بصفة عامّة. ولهذا تعمل السّلطة للحيلولة بين المثقّفين والاستقلال عنها، وربطهم بقيود تحدُّ من تفكيرهم وتُوجِّهُ مسار أفكارهم. وهي كلّما شعرت باستقلاليّة بعض المثقّفين ودعوتهم للإصلاح إلاّ وأوصدت في وجوههم كلّ الأبواب بداعي الأمن والنّظام. إنّ السّلطة التي تسعى للحفاظ على مكتسباتها وهيمنتها تعمل على تكريس واقع ثقافيّ يساعدها على ذلك، ومن هذا المنطلق تقوم باستقطاب المثقّفين وأدلجتهم وفق ما تريد. وطالما أنّ السّلطة في العالم العربي تعتبر نفسها المنتج الأول والوحيد للثّقافة التي تريد، فإنّها ستكون بلاشكّ معارضة شرسة لكلّ تغيير ثقافي يطرحه المصلحون.
وأمّا الثّقافي فيتمثّل أساسا في طبقة المثقّفين الموالين للسّلطة، المسبّحين بحمدها، المكلّفين بمهمّة تبرير مواقفها مهما كانت هذه المواقف. انصرف هؤلاء عن وظيفة الإبداع والنّقد والتّنوير إلى وظيفة التّبرير، يشتغلون تحت مظلّة السّلطة من خلال مواقع عمل رسميّة أو مراكز دراسات وأبحاث تنشئها الدّولة، ويوظّفون إمكاناتهم المعرفيّة والثّقافيّة لتحسين صورة الحاكم والدّفاع عن مواقفه وتبرير ممارساته حتّى وإن كانت مخالفة لتطلّعات المجتمع. لا يدّخرون جهدا في مسايرة الفئة الحاكمة والعمل على تخفيف مستوى سخط الجماهير وغضبها بتزويق الواقع والتّخويف من مغبّة الخروج عن ولي الأمر  حفاظا على الاستقرار والأمن المزعوم. هؤلاء مجرّد «بوق» وأداة لتزييف الوعي وهم دائما مجنّدون وراء الحكّام ينتظرون كلمة تخرج من أفواههم للنّفخ فيها، حتّى تتحوّل إلى حكمة بالغة وفكرة خارقة لا تصدر إلاّ عن حكيم.
ولا يكتفي هذا النّوع من المثقفين بإنتاج وترويج أفكار الولاء والطّاعة للحكام، وتبرير أكثر الممارسات استبداداً ووحشيّة، مناصرين الاستعباد على الحرّية، والاستبداد على الدّيمقراطية، والتّبعية على الاستقلال، بل يعملون جاهدين على تحريض السّلطان على بقيّة  المثقّفين الذين يختلفون معهم ولا يشاطرونهم الرّأي.
ومّما يميّز هؤلاء أنّهم يصلون إلى مرحلة يعتقدون فيها أنّهم القابضون على زمام أمور الثّقافة وشؤونها، وهم وحدهم من يحقّ لهم إدارة العمليّة الثّقافيّة ووضع البرامج والخطط المناسبة لها. لهذا فإنّ شراستهم في مقاومة الإصلاح الثّقافي لا توصف.
يشاركهم في ذلك فصيلان من المثقّفين، الأول له إيمان راسخ وقناعة ثابتة بما يحمله من منظومة فكريّة (إيديولوجيا) هي بالنّسبة إليه «الحقيقة المطلقة» التي لا يرتقي إليها ظنّ ولاشكّ، فهي لا تخضع للفحص أوالنّقد أوالمراجعة. ينطلق منها في رؤيته للمجتمع وطبيعة العلاقات السّائدة فيه ومن خلالها يرى الحلّ الكامل لكلّ المشكلات. إنّ إنتاج الفكرة واتخاذ الموقف لدى هذا النّوع من المثقّفين سواء كان ماركسيّا أو قوميّا أو علمانيّا أو إسلاميّا «يجري من خلال علاقة شاذّة من الاستتباع النصّي تملأ عليهم عالمهم وتمنعهم من قراءة الواقع قراءة موضوعيّة متحرّرة من السّلطة المرجعيّة المطلقة للنّص. فالغالب على أكثر هؤلاء التّشرنق على حقائق نصوص السّلف (الدّيني، والقومي والماركسي ....) والتّفكير من داخل معطياتها وحدودها الجغرافيّة-المعرفيّة. أمّا الواقع (المستجدّات) فهو يعدّ من باب «النوازل» التي يمكن الإفتاء فيها بالعودة إلى «الأصول» حيث الإجابات جاهزة»(1).
يعتبر هذا المثقف نفسه صاحب رسالة تجاه مجتمعه، لكنّ انغلاقه الإيديولوجي يجعله ينحاز إلى فئة ضدّ أخرى ويتسبّب في تقسيم المجتمع إلى كتل وطبقات متصارعة تكنّ لبعضها العداء ولا ترى طريق خلاصها إلاّ عبر القضاء المبرم على خصومها.  
في ظل الانسداد الثقافي وهذه العلاقات المتأزّمة بين من يعتقدون أنفسهم ملاّك الحقيقة من مثقفين إسلاميين أو علمانيين،أصواليين أو حداثيين «تنصرف الثّقافة عن مهام الاشتباك المعرفي مع قضايا الواقع إلى إنتاج حالات من الاشتباك الإيديولوجي داخلها وبين مكوناتها. يتحوّل إلى حرب أهليّة عنوانها الإرهاب الفكري. ولايجد المثقفون الإيديولوجيون في هذه الحرب حيلة إلاّ باستجداء دعم غير ثقافي من السّلطة أو من الجمهور»(2). لهذا لا غرابة في وقوف فئة من هؤلاء ضدّ أيّة عمليّة إصلاحيّة تقف على أرضيّة فكريّة غير الأرضيّة التي يقفون عليها. إنّ الأنساق الفكريّة المغلقة التي تدّعي امتلاك الحقيقة لا تنجب إلاّ  «كربلاء ثقافيّة» على حدّ تعبير عبد الإله بلقزيز ويستوي في ذلك دعاة الأصالة ودعاة الحداثة بمختلف مدارسهم(3). 
أمّا الفصيل الثّاني فيتكوّن من المتيّمين بالغرب، المقلّدين له في كلّ صغيرة وكبيرة. ولأنّ المفاهيم تعدّ من أهمّ مكونات البنية الفكريّة للمجتمع، والحاكمة لمنظومته المعرفيّة والتّطبيقيّة، بما تقوم به من دور محوري وحيوي في البناء العقدي والمعرفي والفكري، وبما تستبطن من ذاكرة حضاريّة تاريخيّة وثقافيّة، فإنّ «معركة المفاهيم» هي إحدى المعارك الكبرى التي يخوضها هذا الفصيل بالاستعانة بالأعداء الخارجيّين، حيث تحاول هذه الفئة العبث بالمفاهيم، وتمرير مصطلحات ومفاهيم مغلوطة في الوعي الجمعي، تؤثّر في عالم المعاني، فتوهن الإرادة الحضاريّة، وتشكّل حالة من حالات الالتباس الجماعيّة وقابليّات التّلبيس؛ التي تثور مع كلّ حادث أو حديث يبرز فيه، فيؤدّي إلى حالات من الخضوع أو الخنوع أو من الخذلان أو التّخذيل أو من التّهوين أو التّهويل أو من التّطويع أو التّطبيع. كلّ ذلك يؤدّي إلى هزيمة الإرادة المعنويّة قبل الهزيمة المادّية، ويكوّن عائقا أمام المصلحين في تنفيذ مشروعهم الثّقافي(4).
وأمّا الاجتماعي، فيتمثّل في فئتين، الأولى القوى التّقليديّة التي تتبنّى ثقافة قائمة على العادات والتّقاليد التي تميل دائما إلى الثّبات وتقاوم كلّ تغيير. هي قوى تخاف من الجديد، وتنزع إلى العكوف على القديم المألوف، حيث  تُرجع التخلّف وانتشار الفساد إلى ترك العادات والتقاليد والقيم التي كان يعيش عليها المجتمع من قبل. وتتشبّث بكل الأفكار والسّلوكيات القديمة، التي ألفها وعايشها الآباء والأجداد، فلا تستطيع التخلّى عنها حتّى وإن فقدت صلاحيتها، ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾(5) لذلك نجدها تقاوم من أجل بقاء تلك الثقافة بكلّ ما تملك من قوّة، وقد تتّهم من يريد تغييرها أو إصلاحها بالميوعة والانحلال من قيود الدّين والأخلاق. 
وأمّا الثّانية فتتمثّل في الرّموز الاجتماعيّة المؤثّرة في المجتمع، والقيادات التي تتولّى تحريك عجلته؛ سواء كانوا رجال أعمال أو أعيان القبائل أو رجال دين. تسعى هذه الفئة إلى بقاء الصّورة الاجتماعيّة التي تحافظ على مكانتها، وتقوم بعمليّة التّنميط الاجتماعي والتّصنيف الطّبقي لمكونات المجتمع الذي يكرّس وجاهتها ورمزيتها الاجتماعيّة. هؤلاء يعتقدون أنّ عملية التّغيير الثّقافي حين تحدث ستؤدّي إلى خلخلة مكانة الرّموز في المجتمع وإلى تغيير للأدوار والمواقع الاجتماعيّة فيه، وذلك يؤدّي إلى الإطاحة بهم، وخسرانهم مناصبهم ووجاهتهم، لهذا يتجنّدون لمقاومة الإصلاحيّين ويسعون إلى تشويههم ومنعهم بكلّ الطرق من الاحتكاك بالنّاس والتّفاعل معهم. 
ودائما ما تتّحد الرّموز الاجتماعيّة المؤثّرة في المجتمع مع القوى المضادّة للتّغيير من سياسيين ومثقّفين لمقاومة أيّة محاولة للإصلاح الثّقافي ويتعاونون فيما بينهم (وإن اختلفوا) للإبقاء على ثقافة المجتمع القديمة جامدة لا تقبل التّغيير أو الإصلاح، بنفس الطّريقة التي اتحد بها فرعون(السّياسي) وهامان والسحرة (الثّقافي) وقارون (الاجتماعي) ضدّ دعوة النّبي موسى وأخيه هارون (الدّاعيان إلى الإصلاح). وهي الطريقة التي تكرّرت مع جميع المصلحين سواء كانوا أنبياء أو رسلا أو فلاسفة أو مفكرين.
إنّ الأخذ بعين الاعتبار أهمّية دور القوى المضادّة للتّغيير وتحديد حجمها وتفكيك استراتيجيّاتها الخبيثة والكشف عن عمليّات التّلبيس المفاهيمي ومسالكها؛ وأدواتها وأهدافها؛ وتوضيح الأضرار والمفاسد التي يمكن أن تلحق بالمجتمع وبكرامة الإنسان من جرّائها، لهي من أوكد المهام المناطة بعهدة المصلحين المطالبين أيضا بوضع استراتيجيّات بديلة لبناء وعي جديد يسهّل عمليّة الإصلاح.
ولأنّ المخزون الثّقافي (التّراث)، وخاصّة المخزون الدّيني لمجتمعاتنا يحتلّ موقعا إستراتيجيّا ضمن خريطة المؤثّرات السّلبيّة والإيجابيّة الممكنة لعمليّة الإصلاح الثّقافي، فإنّ المصلحين مطالبون بالتعامل الحكيم مع هذا المخزون. فكيف يكون هذا التعامل ؟ وما هو السّبيل لجعل هذا المخزون معينا للمصلحين في مهمّتهم وليس عائقا وسلاحا في يد القوى المضادّة للتغيير؟ سؤال سنحاول الإجابة عليه في مقال قادم.
الهوامش
(1) عبد الإله بلقزيز - نهاية الدّاعية -الممكن والممتنع في أدوار المثقفين - الشبكة العربية للأبحاث والنشر - بيروت 2010 - صفحة 77 
(2) عبد الإله بلقزيز -  المصدر السابق صفحة 80 بتصرّف. 
(3) لا عجب في قيام بعضهم بدعم ما ذهب إليه السّيسي في مصر من انقلاب على الشرعيّة بتعلّة قطع الطريق على حكم الإسلاميين، ومازال عدد منهم يؤيّد النظام السّوري بما أوتي من قوّة وقدرة على الكتابة والخطابة رغم بشاعة جرائمه في حقّ شعبه. ومنهم من يقف مع التحجّر والتّعصب ويفتي بسفك دماء مثقّفين أمثاله بتعلّة زندقتهم أو كفرهم ومعاداتهم للدّين. ومنهم من تعاون ولا يزال مع الأجهزة الأمنية لملاحقة وقمع معارضيه.
(4) نأخذ على سبيل المثال كيف تمّ استغلال مصطلح «أولي الأمر» لتثبيت نظم الحكم الشّموليّة وتبرير قمع الحريّات، وكيف تمّ تكريس مفهوم خاطئ للقضاء والقدر لتكريس واقع التواكل، الخ ... وفي التّاريخ نذكر فرعون كيف استبدّ بمفاهيم قومه، فجعل من موسى عليه السلام مفسداً، وجعل من نفسه هادياً إلى سبيل الرّشاد، «.. قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ: (غافر: 29)
(5) سورة الزخرف - الآية 11