تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
الهجرة ... الانتقال من الإنسان الطبيعي إلى الإنسان الروحي
 على عكس الاستقرار الذي يميل إليه البحر بعد الاضطراب، وحين يستعيد سطح الماء استواءه على اثر انتهاء العاصفة وهدوء الرّياح، فإنّ الصّحراء الفضاء الوحيد الذي تتغير تضاريسه بعد كلّ عاصفة ولا تستقر في كلّ مرّة إلاّ على لوحة فنّيّة جديدة ترسمها الرّياح بمعاولها الضّخمة والعتيدة وأدواتها الصّغيرة والدّقيقة. ولا يكون الإبداع إبداعا دون حبّات الرّمال حين تشغل كلّ حبّة مكانها ليمتلئ الفضاء وتنسجم الكثبان بالسّهول والظّهران بالبطون، وتتشكّل للمكان روح يرتاح إليها كلّ تائه ومثقل مهموم.   
إلى أن تهب رياح جديدة، تحافظ الصّحراء على شكلها الفنّي الذي تركت عليه بعد هدوء الرّياح الأخيرة والذي ينبئ كلّ من يزور الصّحراء أنّ وراء هذا الإبداع روح وذات خفيّة أو ربّما أرواح متعدّدة. قد لا يهم من الفنّان المبدع، هل هي الصّحراء بحبّات رمالها أم الرّياح بقوّتها وشدّة انحناءاتها؟ سؤال يعيدنا إلى ازدواجيّة البيضة والدّجاجة. 
الصّحراء الفضاء الوحيد الذي يستوعب كلّ أطياف التّأمّل حتّى تصبح الرّوح شفّافة لا شكل لها ولا لون، وهي المكان الذي تنساب فيه الأمسيات متناغمة مع الحكاوي والسّرديّات وهي المحراب الذي منه تعرج كلّ صلاة. على شاطئ هذا البحر بكثبانه العالية وسهوله الغائرة اغتسلت وغسلت ما علق بثوبي الرّمادي المائل كلّ يوم إلى أكثر بياض ونصاعة  حتى اعتقدت أنّني تخلّصت من أدران هذا الزّمان. 
من خيوط الأنوار الصّباحيّة الهاربة من الشّمس الخجولة وهي تطلّ وتختفي وراء تلك الكثبان العالية، مسكت برأس هذه السّنة الهجرية 1444. ومنذ الصّباح الباكر تبادلت عبر «الواتساب» و«الميسنجر» أجمل التّهاني وأطيب الأمنيات كما تمليه العادة والطّقوس الدّينيّة. كلّ ذلك قمت به من شرفة بيتي بالمنتجع السّياحي بواحة من واحات الجنوب التّونسي، اخترت أن أقضي فيها بضعة أيام للاستراحة والاستجمام، وعلى مرمى البصر سياج طويل يحيط بالمكان ويحجب عنّا الرّؤية أبعد من حدوده جُعل ليحمي المنتجع من زحف الرّمال. ثمّ وأنا على طاولة الفطور مبكّرا واصلت اتصالاتي الهاتفيّة للأقارب والأصدقاء الذين لا ترضيهم الارساليّات. 
وبدأ السّواح يتوافدون ويقبلون على فطور الصّباح ممّا طاب من الكعك والحلويّات والملبّسات والمشروبات عصائر خضر وغلال وقهاوي وشاي. وسرعان ما أصبحت القاعة كأنّها خليّة نحل قد اختلّ هدوؤُها بوصول عدد من الدّبابير بطنينها المزعج. اختلطت الأصوات بين أمّهات غُلٍبْن من شقاوة أبنائهن وكهول متحاملين كلّ في الدّفاع عن رأيه. ومنذ الصّباح، لا نقاش خارج ما تعيشه البلاد من أزمات اجتماعيّة وسياسيّة وصعوبات اقتصاديّة ومن ورائها الأحزاب والجمعيّات. وتصدّر الدّستور والفصل الأول منه وهويّة الدّولة الاهتمام. 
بالتأكيد كانت هذه المواضيع الأشدّ تجاذبا منذ سنوات، ممّا جعل القنوات التّلفزيّة استبشرت بمناسبة الاحتفالات برأس السّنة وتخلّصت منها في البرمجة والتفتت لتأثيث السّهرة بالأناشيد والدّروس التّثقيفيّة حول السّيرة النبويّة بصفة عامّة وهجرة الرّسول ﷺ بصفة خاصّة تتلاءم مع المناسبة. وقدّمت أفلاما مشهورة أُعيد بثها مثل «الرّسالة» و«خالد ابن الوليد» وأخرى عديدة تصوّر صبر النّبيّ على ما أصابه من قريش منذ بداية الوحي وما تحمّله أتباعه من تعذيب وتنكيل في سبيل نشر تعاليم الإسلام. وأفلام أخرى تمجّد التّاريخ الإسلامي عبر الفتوحات الإسلاميّة ساهمت في تقوية الحسّ بالانتماء عند عامّة المسلمين واعتزازهم بتاريخهم.
اليوم وبعد أيام قليلة مرّ رأس السّنة مسرعا خارج الواحة وخارج البلاد كلّها. ونسي جميع من بالواحة وخارجها الحدث وانشغل كلّ بما يشغله. و ككلّ السّنوات تمرّ الأخيرة أسرع من أخواتها وينغمس النّاس في أعمالهم العلنيّة والسّريّة ونزواتهم وصلواتهم، فتمتلئ الجوامع والمساجد وكذلك الحانات ودكاكين القمار والميسر. تبدو الحياة عاديّة من سنة إلى أخرى ولا شيء يتغيّر. فبقي القوم يحتفلون كلّ عام بعيد الفطر بعد صيام شهر رمضان وبعيد الأضحى وبالمولد النّبوي الشّريف وبالعاشوراء وبرأس السّنة الهجريّة ورأس السّنة الميلاديّة. وفي نفس السّنة وككلّ السّنوات تتضخّم نسب البطالة وتتزايد ظواهر الفساد المالي والأخلاقي وترتفع أعداد الحراقة المفقودين غرقا ويتواصل احتلال الأراضي الفلسطينيّة وكذلك الاعتداءات على السّكان الأصليين وحرمان المهجّرين أصحاب المفاتيح من العودة إلى ديارهم المنتزعة منهم. 
في نفس السّنة وككلّ السّنوات تسجّل دولنا العربيّة الاسلاميّة تراجعا في منسوب الحريّات والدّيمقراطية، وفي نفس البلدان يتمّ في كلّ سنة إخماد الثّورات والمظاهرات، وفي كلّ الحالات لا شيء ينمو سوى الشّك والفتنة باعتبار أنّ الكلّ يعتقد أنّه على حقّ وأنّ الآخر على باطل. الكلّ محبّ لوطنه والآخر هو الخائن الذي يبيع وطنه للعدو. مرّ رأس السّنة الهجريّة وانتهى الاحتفال، وبقيت على عطشي إذ فقدت حواسي وضاع الحدس منّي فكيف لي أن أتحسّس رائحة السّنة القادمة؟
منذ أن أسدل اللّيل سترته انجذبت بضوء ألسنة اللّهب المتصاعدة واتجهت نحو موقدها في بهو خيمة انضممت إلى اصحابها وشاركتهم مسامرتهم واكتشفت من خلال ما دار بيننا أن لا أحد  يعرف الآخر وأنّ الخيمة لا صاحب لها وأنّ المكان والزّمان جمعانا فالتقينا حول ميل روحاني مشترك للصّحراء يثبت الذّات الإنسانيّة للحاضرين ممّن هجروا المدينة وتركوها بضجيجها نساء ورجالا من جنسيّات مختلطة عربيّة اسلاميّة ومن أوروبا وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاّتينية وبلدان أخرى. إن اختلفت اللّغات واللّهجات لم نختلف في المفاهيم باعتبار أنّ كل الأحاديث دارت بغرض التّعرّف على الآخر دون اعتبار انتماءه العرقي أو الإيديولوجي.
ومكثت وآنست النّار. لم التمس قبسا منها ولكنّني وجدت على هذه النّار هدى. لقد حصلت على الشّرارة التي ولدت منها الشّعلة وتأكّدت أنّ رقصة ألسنة النّار لا تحرّكها إلاّ أرواحها وأن لا أحد بقي بعيدا ولم يصبه لهيب صلاته الرّوحانيّة المتصاعدة وهمسات أغنية تلهب الأنفس. وعلى وهج أوهج من ألسنتها تلهب أرواح النّار العقول وتُقْلى على سعيرها الكلمات مفردات وجمل منظومة ومبعثرة، فكانت تنفجر من حرارة الرّوح مثل حبّة الذرة. فتندفع إلى الأعلى وتنطلق أخرى وأخرى من مدافعها فتعلو من قعر التّنور كلمتي مفردة شعرا أو نثرا وتستقرّ سحابة بيضاء ثلجيّة تتوّج الغيوم الرّكاميّة الدّاكنة..
لا أعتقد أن أحدا بقي في محراب هذه الصّحراء الغنيّة بالأساطير ولم يصلّ صلاة الإنسانيّة بعد أن سكر الجميع بلهيب أرواح النّار. ذلك الشّراب لم يذق أحد طعمه ولا ريحه قبل يومه هذا. 
ومن بين الحاضرين المرافق دليل الوفد السّياحي هو أدرى بزوّار الواحة وما جاورها، وهو الذي يمكنه أن يؤكّد لي أنّ الصّحراء مسكن الدّين والخلاص. كان من حين لآخر يسرد على المهتمين من متابعيه جغرافيّة المكان وتاريخه، ولم يفته أن ينقل للسّياح مخاوف سكّان الواحة التي خرجنا منها للسّمر على مشارفها. واستحضرت خلال المسامرة صورة الدّكتور ابراهيم الكوني وما قيل على لسانه بأنّ التّغيير هو المنعطف الذي يتوجّب أن نتحمّم في سعيره. ولا أعتقد أنّ أحدا من الحاضرين رجع كما قدم ولم يحمل مثلي هواجس الواحة التي تشكو زحف الرّمال وتهديد كثبانها المسلّطة عليها من كلّ جانب، ولم يكتشف كذلك مثلي كم هي متحوّلة ومتحرّكة تلك الصّحراء.