بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
كنوز التراث (4/4) هل إلى « الإحياء» من سبيل؟
 أدرك أبو حامد الغزالي ( تـ 505 هـ/1111م) منذ عشرة قرون أنّ خللا هائلا قد طرأ على علاقة منظومة مجتمعه الثّقافية والفكريّة بمقتضيات اللّحظة التّاريخيّة التي كان يعيشها المجتمع. لذلك ألّف كتابه «إحياء علوم الدين» معالجةً لهذه الفجوة الهائلة التي تتعرّض لها ثقافات الجماعات البشريّة فتصيب أفكارها ورؤاها وفاعليتها بنوع من التّفويت الذي يشبه الخرَف لدى الأفراد. يتمثّل هذا التّفويت في قصور ثقافي ذاتي يُفقد ثقافة المجموعة الوطنيّة المصداقيّة والسّلطة المرجعيّة وذلك نتيجة انزياح تدريجي بين تلك الثّقافة السّائدة وبين الواقع المتجدّد ومتطلباته. 
غاية كتاب «الإحياء» كانت إعادة الفاعليّة والقيمة التّاريخيّة للمنظومة الثّقافيّة والمعرفيّة من أجل التحامها بالواقع الجديد وجعلها قادرة على إنتاج متناسب مع مقتضيات العصر. 
لبلوغ هذه الغاية اعتمد صاحب « الإحياء» منهجا خاصّا يمكن أن نطلق عليه اسم « التّأهيل الذّاتي» الذي يشخّص خلل المجتمع الثّقافي بكونه يرجع في جانب رئيسي منه إلى عوامل داخليّة وأنّ عمليّة الإحياء تتحقّق بتمثّل عبقريّة القدامى وحكمتهم التي واجهوا بها مصاعب زمنهم بنجاح. 
لقد عاصر الغزالي اندحار الخلافة العباسيّة وتزايد الاضطرابات السّياسية والاجتماعيّة وبروز سلطان السّلاجقة، كما شاهد انكسار المسلمين أمام الحملة الصّليبيّة الأولى التي كادت تدمّر المشرق الإسلامي، مع ذلك فقد اعتبر أنّ الهزيمة الحقيقيّة إنّما كانت قد بدأت عندما افتقد الإنسان تحكّمه في توازن قوّاه وقدراته الذّاتيّة. كتب في باب العلم من «الإحياء» عن الإمام الشّافعي يقول: «كان يجلس بين يدي شيبان الرّاعي كما يقعد الصّبي في المكتب ويسأله كذا كذا، فيُقال له: مثلُك يسأل هذا البدوي؟ فيقول: إنّ هذا وُفِّق لما أغفلناه»(1).  
صدور هذا عن الإمام الشّافعي، ذلك العالم الجليل، مدخل لإبانة المعنى الحقيقي للعلم وهو المعنى الذي لا يمكن أن ينكشف إلاّ بتعيّن معنى العقل الذي نشأ حوله التباس وغموض. يقول الغزالي في العقل: «اعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته، وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقا على معان مختلفة، فصار ذلك سببَ اختلافهم »(2).    
ثم يفصّل «الإحياء» القول في تعدّد معاني العقل وتنوع وظائفه التي منها العقل الملمِّ بالضّروريات و«جواز الجائزات واستحالة المستحيلات» ومنها العقل المدرك للعلوم النّظريّة لكنّ الأهم عنده هو ذلك العقل الذي «يعرف عواقب الأمور ويقمع الشّهوة الدّاعية إلى اللّذة العاجلة، فإذا حصلت هذه القوّة سمّي صاحبها عاقلا من حيث إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النّظر في العواقب لا بحكم الشّهوة العاجلة»(3).
في ضوء هذا التّحديد لمعاني العقل وخاصّة ما لا يمكن تحقّقه إلاّ بالاكتساب والمجاهدة، يتحدّد عند الغزالي التّفكير في منهج آخر في التّعليم له دعائم ثلاث: إنهاء الانفصام القائم بين المتعلّم وعصره، وأن يُعامَل المتعلّم على أساس أنّه كائن اجتماعي لا يتحقّق أمر تعليمه إلاّ بالمقوّم الأخلاقي الرّوحي وأن يكون المتعلّم محور العمليّة التّربويّة.
في تراث الغزالي التّربوي وفي تجربته الخاصّة نجد أكثر من شاهد على هذه الدّعائم الثّلاث التي يحيل عليها من أجل تفعيل النّسغ التّربوي القادر على إحياء الأفراد وتجديد طاقات الفعل التّاريخي في المجتمع. يستشهد الغزالي في خصوص الدّعامة الأولى بتجربته التي تمكّن بها من تمثل مكونات عصره المختلفة فيقول: «لم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقتُ البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السّن على الخمسين، أقتحم لجّة هذا البحر العميق، وأخوض غَمرَتهُ خَوْضَ الجَسُور، لا خَوْضَ الجبان الحذور، وأتوغّل في كلّ مظلمة، وأتهجّم على كلّ مشكلة، وأتقحّم كلّ ورطة، وأتفحّص عن عقيدة كلّ فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كلّ طائفة لأميز بين مُحقّ ومبطل، ومتسنّن ومبتدع، لا أغادر باطنيًّا إلاّ وأحبّ أن أطّلع على باطنيته، ولا ظاهريّاً إلاّ وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفيّاً إلاّ وأقصد الوقوف على كُنه فلسفته، ولا متكلّماً إلاّ وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيّاً إلاّ وأحرص على العثور على سرّ صوفيته، ولا متعبّداً إلاّ وأترصّد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقاً معطّلاً إلاّ وأتجسّس وراءه للتّنبّه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته»(4).
فيما يتعلق بالدّعامة الثّانية التي تجعل للنّظام التّربوي أبعادا نفسيّة اجتماعيّة وخلقيّة بالأساس نقرأ في الإحياء عن مهام المعلّم:«أن لا يدع من نُصح المتعلّم شيئا، بأن يمنعه من التّصدّي لرتبة قبل استحقاقها والتّشاغل بعلم خفيّ قبل الفراغ من الجليّ، ثمّ ينبهه أنّ الغرض بطلب العلوم القربُ إلى اللّه تعالى دون الرّياسة والمباهاة والمنافسة، ويقدم تقبيحَ ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن»(5).  
أمّا الدّعامة الثّالثة وهي التي تجعل المتعلّم مركز النّشاط التّربوي، فإنّ الغزالي يقرّر في «الإحياء» في مجال تحديد وظائف المعلم وخطورة خطّته أنّ كلّ من «اشتغل بالتّعليم فقد تقلّد أمرا عظيما وخطرا جسيما فليحفظ آدابه ووظائفه[التي]...منها الشّفقة على المتعلّمين وأن يجريهم مجرى بنيه...وأن يقتدي بصاحب الشرع صلوات اللّه عليه وسلامه...ولا يرى لنفسه مِنَّة عليهم وإن كانت المنة لازمة بل يرى الفضلَ لهم إذ هذّبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى الله تعالى بزراعة العلوم فيها»(6). ثم يضيف في مجال تعزير المتعلّم وعقابه:«ومن دقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلمُ عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن و لا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة ويورث الجرأةَ على الهجوم بالخلاف ويُهيج الحرصَ على الإصرار» (7). 
مثل هذه الدّعائم في تكاملها تقوم دليلا على وعي متطوّر لدى علماء المسلمين بمعنى المؤسّسة التّعليميّة وأنّها من المؤسّسات الكبرى الحاملة لدلالات حضاريّة اجتماعيّة وسياسيّة. ما تكشفه نصوص الغزالي وكذلك نصوص السّابقين له واللاّحقين به ممّن اعتنوا بالشّأن التّعليمي هو تلاحم التّربية بالتّعليم وتكامل وظيفة المدرسة مع وظيفة الأسرة بمواكبة تطوّر المجتمع. من أبرز ما تعنيه نصوص التّراث التّربوي الذي أَثْرته رسائل متخصّصة أو تضمينات علماء أدرجوا فيما ألّفوه في العقيدة والفقه والأدب توجهات تربويّة، هو توصّلهم منذ أزمنة إلى حقائق تربويّة انتهت إليها علوم التّربية في العصر الحديث. ماكتبه الغزالي فيما أسلفناه عن الرّدع الخارجي للمتعلّم وعلاقته بالارتداع الذّاتي وما كتبه بعده ابن خلدون في التّربية التّعسفيّة وما تورثه من خمول وخبث وخداع، يلتقي بصورة أكيدة مع ما انتهى إليه المربّي الغربي الحديث « جون ديوي» ( John Dewey) في ما كتبه عن «التّربية والخبرة» وعلاقة الزّجر في التّعليم بدرجة نموّ ذكاء المتعلّم و توازن شخصيّته.
بمثل هذه الجوانب تزداد خطورة التّراث العربي الإسلامي بما يتيحه لمستقبلنا من فاعليّة الأصالة ودلالاتها الحضاريّة والإنسانيّة. تلك الأصالة التي أجاد الدّكتور عبد الكريم اليافي، أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق في تعريفها حين قال: «إنّ الأصالة ليست تكرارا للأصل وإلاّ غدت نسخا ولا تشويها وإلاّ انقلبت مسخا ولا انحدارا بصوره الرّائعة إلى صور حائلة زائلة وإلاّ آلت فسخا ولا جمودا ساكنا للصّخور الصمّ وإلاّ عادت رسخا بل هي نسغ يتخلّق من الأصل ويندفع بالعشق في الذات ويعلو بالفكر ويسمو بالنضال».
الهوامش
(1) الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار الفكر، المجلّد1 ،ص 37.
(2) المرجع السابق، ص 145. 
(3) المرجع السابق، ص 146. 
(4)  الغزالي، أبو حامد، المنقذ من الضلال، دار الكتب الحديثة، مصر ، ص 109.
(5)  الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار الفكر، ص 77.
(6) المرجع السّابق، ص 79
(7) المرجع السابق، ص 95