تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
ما لم يقل في الخير
 الخير كلمة مفردة تعني الكثرة ولا تجمع، فنقول مثلا «الخير كثير».  ولا معنى للخير إذا ما اجتثّ من حضن الشّرّ في ازدواجيّة تجعلهما متلازمين متناغمين لا معنى لهذا بمعزل عن الآخر، ولا يحضر شكل كليهما بغياب أحد جوهريهما. تحيلنا هذه الازدواجيّة إلى مفهوم «اليين» و«اليونغ» في الفلسفة الصّينيّة الذي يشير إلى أنّ لكلّ عنصر من عناصر الكون قوّتين أو طاقتين معاكستين، ويجسّم ذلك رسم «التاي تجي» الصّيني، ويعني بدوره وصول الشّيء إلى أقصاه وذروته، وقد أصبح مفهوم «اليين» و«اليونغ» مصدر استلهام لعديد المفكرين لفهم قوى الطّبيعة المبنيّة على التّباين وكذلك القوى الذّاتيّة للإنسان سواء المادّية منها أو المتعلّقة بالبنية البدنيّة والبيولوجيّة أو الحسّية والخاصّة بالمجالات النّفسيّة والرّوحانيّة. 
يشعر كلّ منّا بحاجة في لحظة ما لشيء هو خير له يتجسّد في شعور بضيق من مكروه هو شرّ له. والخير في المطلق هو كلّ ما ينقصك وتطمح إليه ولم تعرفه ولم تحدّد مقاييسه. وإنّه قد لا يصيبك من الخير إلاّ بعضه. يُقال «أنا بخير» أي أنّني أنعم ببعض الخير مثل الذي يقول «أكلت خبزا» فلا يُفهم أنّه أكل كلّ الخبز. 
والخير في خزائن اللّه لا حصر له ولا تعداد. ولا يتمنّى المرء من الخير إلاّ على قدر معاناته من الشّرّ الذي أصابه، أي أنّ الخير فيما يلغي ما لمسه من مكروه.
نادرا ما نقول «فلان أصابه شرّ» وعادة ما نقول «أصابه مكروه» أي أنّ الخير ليس ما يصيبنا من مستحسن ومستحب بل ما نتمنّاه، لأنّ الإنسان بطبعه ضعيف وناقص ويتوق إلى الكمال الذي لا أحد يدركه، ولأنّ كلّ نقص من كمال هو مكروه وكل مكروه قطعة من الشرّ. وطبقا للفلسفة الصّينيّة فإنّ وجود الخير مشروط بوجود الشّرّ والعكس صحيح، ومن المستحيل أن يبقى طرف منهما بمفرده حيث تربطهما علاقة تكامل واعتماد متبادل. فالخير في زوال الشّرّ ولا خير في نقص من الخير.
وأين الخير في تنقلي يوما الى العمل ولمّا أصل أتذكر أنه يوم عطلة؟ فأصبّر نفسي مثل غيري في مثل هذا وأقول «لعلّ فيه خير». فالخير هنا متحرّك ومتغيّر لا يحدّد إلاّ بحسب اللّحظة والحالة النّفسيّة للشّخص المعني بهذا الخير. أمّا لمّا تغنّي فيروز وتشدو : «..يا هم العمر ..يا دمع الزّهر، يا مواسم العصافير»، يصبح الهمّ عنصرا أساسيّا للعمر، فلمن الفضل إذا ؟ ألهذا الأخير العمر الذي استحق أن نعيشه بكثرة همومه، أم الفضل للذي تحمّل وعاش العمر بهمومه، وتصبح هذه الجدليّة محورا لأيّ حياة تستحقّ العيش؟ أو بالأحرى أيّ معنى لحياة دون عناء وهموم؟، ويصبح الهمّ لذّة من لذائذ الحياة ولا معنى لهذه الحياة دونه منذ أن اختار آدم أن يكون حرّا وأن يتحمّل تبعات الخطيئة التي أنزلته إلى الأرض وما نزل إلاّ بنزول الخبيث منه وانكشاف عورته.  ومن حينها اكتشفت الانسانيّة وجهان للخير أحدهما دون قفا شائع ومشترك توفّره الطّبيعة لجميع النّاس، أمّا الوجه الثّاني فهو مميّز بالنّدرة وبأقفية متعدّدة، إذا ما انفرد به من فاز واستحقّه وزعت أقفيته شرّا لكلّ من فشل. 
الخير إذا مثله مثل الشّر، لا أحد يدرك مأتاه. والعمل مع أنّه مصدر للشّقاء والعناء يبدو أنّه الوحيد الذي يوفّر لصاحبه الخير الكثير من كرامة ورفاهيّة وأسباب العيش السّعيد. كما يبدو أنّ العمل أفضل اختراع دُفِع إليه الإنسان وما دفعه إليه إلاّ الشّرّ المتمثّل في معاناة الجوع والعطش والبرد والحرّ التي لم يكتشفها إلاّ بنزوله إلى الأرض مع جملة الأوجاع الأخرى وأعظمها الأمل الذي يعتبر عند الإغريق أفظع المآسي باعتباره رمز الانتظار والخنوع والوهن.
والخير متحرّك ومتغيّر، فما هو خير اليوم قد يصبح غدا غير ذلك. والخير لا يحدّد خارج المكان ولا الزّمان ودون عناصر أخرى مؤثّرة تتعلّق بالوضعيّة التي عليها صاحب الخير. والأهمّ من الخير الذي لا يأتي وحده هو الإنسان الخيّر والحكيم الذي لمّا فهم أسرار الكون والحياة وأصبح لا يتمنّى الخير لأنّه يراه من حوله وفيرا وفي كلّ مكان، تسلّح بفأس ومعول وبمطرقة وقلم وبماء ومكنسة وخفّف وشمّر.