همسة

بقلم
شكري سلطاني
ربوة الإمعان في ذروة الإمكان
 إنّ الّنظر ودراسة الوجود البشري لن يكتمل بمعالجة جميع أبعاد الإنسان الشّعوريّة والسّلوكيّة دون التطرّق إلى حقيقة وجوده وعلاقته بربّه، فإن صلحت وتوثّق حبل الودّ معه سبحانه صٓلُح سائر أعماله وأمره وعاقبته.
إنّ الإنكسارات المعنويّة البشريّة نتاج الجهل بحقيقة الخالق عزّ وجل وحقيقة النّفس البشريّة وكذلك ظلم البشر لنفوسهم ولبعضهم بعض. والتّقابل بين الذّات الالهيّة والكينونة البشريّة توافقا أو تنافرا يتمثّل في الفرق والبون الشّاسع بين فيض علم اللّه سبحانه وتعالى إذ أنّ كلماته لامتناهية لا تنفد وقدرته المطلقة التّي لا تُحٓدّ ولا تُعٓدُّ، وبين علم العبد المحدود وقدرته النسبيّة الظّرفيّة الآنيّة المناسبتيّة.إذ أنّ هذا الفارق يحدّد طبيعة ونوعيّة العلاقة  بين الربّ وعبده وبين العبد وربًه؛ فالربّ الصّمد في علوّ تام ولا نقصان لتعاليه الكبير المتعالي وبين العبد وإنخفاض مستواه وحدود حاله ومحدوديّة مقامه ومكانته وحالاته مهما إرتفع وعلا وتقلّد المناصب ونال من الدنيا لذائذها وشهواتها.
لا وجه للمقارنة ولكن  لا بدّ لزاوية النّظر أن تتّضح وتتراءى لكي يقف الإنسان دون حقّه كادحا مجاهدا متواضعا مستنيرا من قبس نور مولاه سالكا سبيل الهدى.فبين علم اللّه عزّ وجل وتجلياته وردود أفعال البشر في مختلف حالاتهم يتّخذ كلّ إنسان موقعه من مشيئة وإرادة مولاه خالقه وسيّده موقفا وقرارا وإتجاها ومسارا.
ففي دنيا الفناء يجد الإنسان نفسه محاطا بعلاقات عديدة وسياقات شتّى ومسارات متنوّعة، حيث يستعمل حوله وقوّته وذكاؤه وفطنته، فيشتغل بأدواته الحسيّة والمعنويّة مستغلاّ كلّ الوسائل المتاحة لمواجهة الوجود بشقّيه الذّاتي والموضوعي.
غالبا ما يفلت منه تناول وجوده الذّاتي ومعالجته والتدبّر في كينونته وسياقها ومساقها نظرا لإنغماسه وإنشغاله وإنهماكه بوجوده الموضوعي وذلك لإنعكاس قدراته الذّاتية وحواسه وإدراكه في محيطه وبيئته ومجريات حياته التي لن تمهله طبعا لكي يفكّر في اللاّمفكّر فيه ويُمعن في وجوده الذّاتي كينونة وصيرورة على ما هي عليه وكيفما كانت وما هو فيه من إرتباط ورباط وشدّ لوثاقه وإنتماء وعلاقات  وتعلّقات.
إنّ غرور الإنسان ووهمه متأتّيان من جهله وعدم إلمامه بكلّ ما يحيط به علما ودراية وخبرة وبصيرة ليظلّ يستهلك وجوده في مستواه المنخفض الحسّي المعنوي. وما شقاوته وآلامه وعذاباته وشتّى إبتلاءاته إلاّ نتاج لكلّ ذلك.
فالغفلة شائبة وجوده والنّسيان آفته؛ ولو وعى يقينا بحدود فهمه وقدراته وقلّة علمه، وسعى لتطوير خبراته وإنارة بصيرته بإمكانيّات روحيّة متعالية متجاوزة لحدود ماديّته مستلهما من وحيّ ربّه وتعاليمه وجهة ومسارا جديدا لصحوة ذاته وإيقاظا لهمّته.
فلن يستقيم هذا الإنسان على الطريقة حتّى يُغيّر ما بنفسه ويستند إلى توجيهات ربّه وتحذيراته وشريعته، ويستبدل إنشغاله وإنصرافه عن أمر ربّه إلى الإلتفات والإهتمام بما ينفعه ويفيده لحاضره وميعاده عملا صالحا نافعا له، فلقد طغت صورة الوجود على حسّه ومعناه ففقد صوابه وغشيته الحُجُب والظلمات، فتنحّى معناه جانبا وساد مبناه مجذوبا منجذبا بأحواله محاطا بلحظاته وخطراته وشهواته ولذّاته، غير واعٍ بحقيقته.
فمتى يستيقظ الإنسان من نوم الغفلة وسُبات حاله قبل موته وكشف حجابه وحسابه؟
إنكسارات معنويّة تجتاحه وترهقه وتنهكه في حياته قبل رحيله وفراقه قد يتحسّسها باطنيّا ووجدانيّا بإطلاق صراخاته وتشكّياته ولكن لا يفقه ولا يعي غالبا أسبابها ومسبّباتها لغياب حقيقته في خضمّ معمعة الحياة وتعدّد سياقاته وتنوّع مساراته وإنغماس نفسيّته في ماديّة وجوده وتشابك وتداخل أحاسيسه وشعوره مع إنفعالاته وردود افعاله.
«قد أحيا قلبه من ذكر ربّه وسعى لمرضاته، من دان نفسه وعمل  لما بعد الموت».