نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
ظلامية المفاهيم التي تدّعي تفسير كلّ شيء
 سَأُفْصِحُ بدءا، في هذه المقالة عن أنّني اسْتَعَرْتُ هذا العنوان بالتَّصرُّفِ من أفكار الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي المعاصر «إدغار موران»، في سياق نقده لما سمّاه بالمعرفة المعلولة، ويَقْصِدُ بها؛ تلك المعرفة التي تجزّئُ العُلوم والحياة أوتُقَطّعُها قِطعا قِطعا، حيث تتبدّىَ مَفْصُولة عن بعضها، وممتنعة عن التَّواصل فيما بينها، وكلُّ علم من العلوم، أو نموذج من  نماذج الحياة، يُقَدّمُ ذاته، على أنّه يمتلك الكَفاءة التّفسيرية للكون أو للحياة؛ 
فعلم النَّفس لا يرى من الحياة إلاّ منظومة من الدَّوافع البيولوجيّة اللاّشعوريّة للفرد والمجتمع، وعلم الاجتماع يَرتكز على قوّة السُّلوك الإجتماعي في عَجْنِه للذّوات الفرديّة التي تنتمي إلى فضائه، والعلوم الأخلاقيّة، تُبْصِرُ في السُّلوكات الحيّة، نماذج أخلاقيّة تُوجّهُها قيم الفضيلة نحو الخير، أو تأخذ بها قيم الرَّذيلة نحو الشّر؛ والعلوم البيولوجيّة تقرأ في الإنسان كائنا حيَّا، يمتلك شَبَكَة وِراثية ذاتيّة، وخاضِعُ لحتميّة بيولوجيّة ميكانيكيّة لا تعرف بالتّلقائيّة أو العفويّة.
ونفس السّياق الوصفي، ينطبق كذلك على المعارف الإنسانيّة برمّتها، التي يمكن أن نُشبّهها بالطُّيور الجارحة(العلوم والمعارف)، التي تَحُطُّ على فريستهـا(الإنسان أو الطّبيعة)، فتأخـذ في تقطيعها جزءاَ جزءاَ، وكلُّ طير لا يهتـم إلاّ بما يَظْفَرُ به من جزء من الفريسة، كي يلتهمه ويفرح بهذا الإنجاز المؤقّت، ليُفَكّرَ بعدها في جزء آخر من فريسة في مكان آخر ووقت آخر أيضا.
وهكذا الحال مع منظومة العلوم والمعارف السَّائدة، التي باتت تغزو موضوعاتها، انطلاقا من  نموذجها في الفهم والتّفسير، وهذا الاستناد إلى نموذج علمي واحد كعلم النّفس أو الاجتماع أو الأخلاق أو البيولوجيا مثلا، في فهم وتفسير الظَّاهرة الإنسانيّة أوالطبيعية، هو قَصْدُنا بالظَّلاميّة المتوارية في قلب المفاهيم التي تفسّر كلّ شيء، وهذا التّفسير لكلّ شيء، لا يعكس قوّة في منظومات العلوم الجزئيّة، بل ضَعْفا وَوَهَنا، إذ لا يعي ولا يُدْركُ المفهوم الواحد، الخصوصيّة الموجودة في المفاهيم الأخرى التي تختلف عنه، وعندما لا يعي هذه الخصوصية، فإنّه يستنتج مباشرة عدم وجودها، أو يختزلها في مبادئه التّفسيريّة البسيطة، لتَكون النّتيجة الأضخم بعد هذا، تقطيع موضوعات التَّفكير والبحث، وتجزئتها في صورة جُزُر مُنْفَصِلةُ، لا تتواصل فيما بينها، ولا تَتَكامل من أجل الحقيقة الكلّية، التي ليست العلوم إلاّ جزءا منها.
وافتضحت العلوم اليوم، حينما أضحت غير قادرة على استيعاب التَّعقيد في الحياة، وأضحت عاجزة عن الرَّبط بين المنفصلات أو الإحاطة بالظّواهر الشُّموليّة الكوكبيّة؛ ومردّ هذا العجز في التّفسير والمواصلة في هذا العجز، المبدآن اللّذان قام عليهما العلم الحديث، وهما : مبدأ الانفصال ومبدأ الاختزال، الانفصال الذي يَقْضي  بفصل العلوم وعزل بعضها عن بعض، والاختزال، الذي بدوره يقضي باختزال المركّب إلى البَسيط، مثل اختزال الحركة الاجتماعيّة الإنسانيّة المُرَكَّبة، إلى مَبادئ الحركة الفيزيائيّة البسيطة. وهذا النّمط من التّفكير الاختزالي والأحادي البُعد، يشبه الشّخص المصاب بالدُّلتونيا أو عَمَى الألوان، لا يرى من الأشياء إلاّ لونا واحدا، في حين أن الظّواهر متعدّدة الألوان، مركبة العناصر والعلائق.
  إنّ عقلانيّة الانفصال والاختزال للعالم والإنسان، ليْسَتْ مُنْحَصرة في دائرة المعرفة العلميّة فقط، وإنّما تتحكّم في أفكار أكثر النّاس في الواقع، وبيان ذلك، أنّ العقليّة الأُحاديّة ذات المفهوم الظّلامي الواحد، في مجال التَّواصل الإنساني، لا ترى في خطأ البعض من النّاس، إلاَّ إنسانا مُذنبا وإلى الأبد، ولا تُدْرُك الأبعاد المرُكّبة في الإنسان، مثل القدرة على المحبّة، والقدرة على تجديد العلاقة إيجابيّا، والقدرة على التوبة والنّدم، والقدرة على التّسامح. 
وتسري الظّاهرة نفسها في أساليبنا التربويّة، فلا نتعامل مع الطّفل إلاّ بعقليّة أُحادية الجانب، مَلْمَحُها الجوهري، هو ثقافة الأمر والعَسَف والقهر وأسلوب التَّدريب على الانضباط، بينما التَّواصل التَّربوي السَّليم، لا يقوم إلاّ على العناصر المركّبة مثل: الحُبُّ والشَّجاعة والقدوة، والملاطفة، ومنه فالعقل الذي يجهل العاطفة والوجدان هو عقل لا عقلاني أصلا؛
 والأمر سيّان، عندما يتصّل الحال بتشخيص طبيعة المشكلات الإجتماعيّة، فالعقل الإختزالي ينجذب آليّا، نحو المفهوم الواحد الذي يريد أن يفسّر كلّ شيء، مثل الإختزال في الأسباب الإقتصاديّة، أو السّياسيّة، أو الاجتماعيّة، أو الأخلاقيّة، في حين أنّ المنظور الأصوب، يرى بشموليّة الأزمة وتركيبها، وبالتّالي فحلول المشكلات الاجتماعيّة من طبيعة مركّبة، وتتعاون في رسم الحلول لها، كافة الأنساق الاجتماعيّة، ولا فضل لنسق اجتماعي على أخر، إلاَّ بالتركيب والتَّكامل.
إنّ العقل الإنساني ميَّال بطبيعته، إلى الاختزال وتبنّي الظلاميّة المتوارية في المفاهيم التي تتوهّم أنّها توضّح كلّ شيء، في العلوم كما في الفكر، وفي السّلوك الفردي كما في الاجتماعي، بينما الأصوب لهذا العقل أن يعي حدود هذا الميل إلى الاختزال، وذلك بوعي الطَّابع المركب للحياة والإنسان، واعتبار القوّة الأخلاقيّة أداة محوريّة في الكشف عن ثراء الحياة العاطفيّة والوجدانية للإنسان.
إذن، فالمفهوم الواحد، الذي يوضّح كلّ شيء، هو ظلامي في طبيعته، لأنَّه يجنح إلى الاختزال، ويأبى التّركيب، وينحاز للفصل على حساب التّكامل، والأزمات العلميّة-العمليّة في مجرى الحياة الإنسانيّة اليوم، إلاّ شاهدا على أهمّية أن ينفتح الإنسان على العقلانيّة المركّبة، التي تتحاور وتحاور العاطفة والوجدان والضّمير والإنسان من أجل إحسان الفهم، وإحسان الحياة.