بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
كنوز التراث (3/4) العقل: فطرة وتعهّد
 يذهب الظنّ بالبعض منّا وهو يتابع ما ينشر اليوم عن المشاغل التّعليميّة الكبرى في البلاد العربيّة وتدنّي مستوى الخرّيجين أنّنا أمام وضع غير مسبوق. هذا الميل إلى تقييم موغل في السّلبيّة للمؤسّسة التّعليميّة تشجّعه عدّة عوامل موضوعيّة في مقدّمتها بعض تقارير المنظّمات العربيّة أو الدّوليّة مثل ما أوردته المنظّمة العربيّة للتّربية والثّقافة والعلوم في «رؤية مستقبليّة للتّعليم في الوطن العربي» أو تقارير الأمم المتّحدة السّنويّة عن«التّنمية الإنسانيّة العربيّة».
ليس من غرضنا هنا النّظر في أهمّ دلالات هذه التّقارير وما يستنتجه البعض من القول بتعطّل المؤسّسة التّعليميّة العربيّة وتراجع قيم التّفكير الحرّ والقدرة الإبداعيّة والعجز عن تربية الإنسان المتوازن أو الرّسالي لدى عموم خرّيجيها. هذا الموضوع، على أهمّيته وضرورة مناقشته عبر جملة من الاعتبارات المحليّة والدّوليّة، يدفعنا إلى التّنقيب عن النّصوص التّراثيّة المعتنية بالفكر التّربوي والنّظر فيما تحتويه من آثار تتيح تقييم المنظومة التّربويّة القديمة ووضعها موضع التّمحيص.
هل كانت تلك المنظومة ناجحة في أدائها العلمي والقيمي والتّخصصي طوال عهود الماضي؟
أليس في ظهور علماء أعلام وقادة فكر وروّاد تجديد واجتهاد في مختلف العصور، مغربا ومشرقا، ما يدلّ على نجاعة المؤسّسة التّعليميّة القائمة عندئذ بما حقّقته عبر تلك الرّموز من أهليّة لشهود حضاري نعاني اليوم عربيّا من غيابه؟ 
أيّة جدوى في توطين تجارب تربويّة نمت وتطوّرت خارج المجال العربي الإسلامي مستجيبة لتحديات مختلفة نوعيّا عمّا تعرفه الأوضاع العربيّة؟ أليس من الأجدى العودة إلى تجارب الماضي للأخذ من فكرها التّربوي ونظامها التّعليمي والقيمي والإداري؟ 
بتعبير آخر: هل للعودة إلى عبقريّة الماضي التّربوية من سبيل؟
ما تقدّمه النّصوص التّراثيّة في الموضوع لا يوحي بأنّ القدامى كانوا قد انتهوا إلى منظومة مكتملة في وظائفها وخصائصها وغاياتها.
كانت المجتمعات العربيّة الإسلاميّة في حراك اجتماعي سياسي وفي تساؤل فكري ووجودي لا يتوقّف. لذلك لم تنفك مشكلة التّعليم مطروحة على اختلاف في درجة حدّتها سواء في عصور الفاعليّة الحضاريّة أو حتّى في أطوار التّراجع والهمود. كان هناك سعي موصول يكشف عن الحاجة التي لا تتوقّف إلى مراجعة المنظومة التّعليميّة والارتقاء بها لارتباطها العضوي بالمساعي التّغييريّة في كلّ مجتمع حيّ وللاستجابة إلى التّحديات العمرانيّة التي يواجهها في كلّ طور. هي في ذلك كانت توجز بتميّز تصوّرها لمعنى التّربية الذي يتلخّص في أنّها أفضل التّعابير عن نقل مكاسب الحضارة من جيل إلى آخر.
بالعودة إلى نصوص التّراث التّربوي نجد إلى جانب مواضع الإشراق والرّيادة مواطن تشخّص أعراض أزمة لم يكن كتّاب تلك الفترات يحرصون على إخفائها.
هذا ابن بسام الأندلسي (تـ 542 هـ / 1147م) مؤلّف « الذّخيرة في محاسن أهل الجزيرة» لا يتردّد في عرض مظاهر الأزمة التّعليميّة في القرن الخامس الهجري دون أيّ توجس. كتب يقول: «إنّي فكّرتُ في بلدكم أهلَ الأندلس، إذ كانت قرارة كلّ فضل، ومقصد كلّ طُرفة، ومورد كلّ تحفة ...مع كثرة علمائه ووفور أدبائه ...وعلماؤكم مع استظهارهم على العلوم، كلُّ امرئ منهم قائمٌ في ظلّه لا يبرح، وثابتٌ على كعبه لا يتزحزح يخاف إن صنّف أن يُعَـنَّـَف أو تخطفه الطّير أو تهوي به الرّيح في مكان سحيق، لم يُتعب نفْسا أحدٌ منهم في مفاخر بلده».  
هذا القول يجد له صدى أكيدا لدى علم آخر من أعلام القرن الخامس في إعلانه دون مواربة عن أعراض ذات الأزمة العلميّة تعبيرا في ذلك عن موقف نقدي يدلّ على سلامة الفكر في ذلك الطّور.
كتب ابن عبد البر القرطبي ( تـ 463 هـ /1070م ) في جامع بيان العلم وفضله: «اعلم رحمك اللّه أنّ طلب العلم في زماننا هذا وفي بلدنا قد حاد أهله عن طريق سلفهم وسلكوا في ذلك ما لم يعرفه أئمتهم وابتدعوا في ذلك ما بان به جهلهم وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلَهم. فطائفة منهم تروي الحديث وتسمعه قد رضيت بالدّؤوب في جمع ما لا تفهم وقنعت بالجهل في حمل ما لا تعلم، فجمعوا الغثّ والسّمين والصّحيح والسّقيم والحقّ والكذب في كتاب واحد وربّما في ورقة واحدة ويدينون بالشّيء وضده ولا يعرفون ما في ذلك عليهم».
كان هذا هو شأن الأزمة التّعليميّة التي حصرت وظيفة التّعلّم في التّحصيل الشّكلي البعيد عن الاستبصار الواعي. ذلك ما قصده صاحب جامع بيان العلم بقوله عن علماء عصره: «قد شغلوا أنفسهم بالاستكثار عن التّدبّر والاعتبار» لقد أضحت ألسنتهم «تروي العلم وقلوبهم قد خلت من الفهم». خلاصة هذا التّوصيف هو أنّ غاية أحدهم معرفة «الكتب الغريبة والاسم الغريب أو الحديث المنكر وتجده قد جهل ما لا يكاد يسع أحدا جهله». 
كان عدد من علماء الحواضر الأندلسيّة والمغاربيّة على وعي بما هم بصدد فقدانه حين أضحت المعرفة لديهم مجرّد سرد وتلقين. كانوا يعلمون أنّ التّعليم اللّفظي القائم على التّكرار مضادّ للتعلّم لأنّه خال من العمل والممارسة والمحاورة التي تشحذ التّفكير الذّاتي وتدعم المهمّة الحضاريّة للتّربية. 
في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البرّ نقرأ ما يدلّ على هذا الوعي بالأزمة التي تهدّد البناء المعرفي الذي وقع إرساؤه منذ قرون والذي ميّز الفكر التربوي بأصالة إنسانيّة سيتلقّفُها غير المسلمين في طور نهضتهم. يقول: «إنّه لم تكن مناظرةٌ بين اثنين أو جماعة من السّلف إلاّ لتفَهُّم وجهِ الصّواب فيصار إليه ويُعرَف أصل القول وعلّتُه فيُجرى عليه أمثلتُه ونظراؤه، وعلى هذا النّاس في كلّ بلد إلاّ عندنا كما شاء اللّه ربّنا وعند من سلك سبيلنا من أهل المغرب فإنّهم لا يقيمون علّةً ولا يعرفون للقول وجها، وحسب أحدهم أن يقول فيها رواية لفلان، ومن خالف عندهم الرّواية التي لا يقف على معناها وأصلها وصحّةِ وجهها فكأنّه قد خالف نصّ الكتاب وثابت السّنّة».   
تلك كانت حال أهل المغرب والأندلس مع المعضلة التّربوية لا يحرصون بسببها على استخدام المنطق السّببي فلا يقيمون لذلك علّة، وهو ما جعل المعرفة لديهم محدودة في السّماع. 
في الشّرق لم يكن الوضع أفضل حظّا فهذا عمرو الجاحظ (تـ 255 هـ/ 869م) يرفع عقيرته في رسالته إلى المعلّمين منبّها إلى مخاطر سكونيّة المعرفة واطمئنان العقل. كتب يقول: «العقل حفظك اللّه أطولُ رقدةً من العين وأحوجُ إلى الشّحذ من الشّيب وأفقرُ إلى التّعاهد وأسرعُ إلى التّغيّر وأدواؤه أقتلُ وأطباؤه أقلُّ، فمن أدركه قبل التّفاقم أدرك أكثر حاجته، ومن رامَهُ بعد التّفاقم لم يدرك شيئا من حاجته. ومن أكبر أسباب العلم كثرة الخواطر ثمّ معرفة وجوه المطالب في الخواطر». 
ذلك هو تشخيص أعيان القدامى للمعضلة التّربوية. كان جماع القول عندهم بأنّ العقل فطرة وتعهّد وأنّ العلم إذا أريد له التّوسّع والانتشار فلا مفرّ من إدراك أنّه محتوى ومنهج وأنّ صرح المعرفة ينهار إذا ارتدت إلى حدود قارّة، تفضي إلى تحجّر الفكر وانغلاقه.
الهوامش
(1) كتاب مجلّة المنار ، محمد رشيد رضا ، الجزء 4 ، ص. 401