حوارات

بقلم
محمد بن الظاهر
مع الباحث السوسيولوجي الدكتور محمد شرقي
 مرحبًا بكم دكتور محمد شرقي، سعيد بإجراء هذا الحوار الشّائق موضوعاته والفاتح لما أُغلق حول قضايا تربويّة وإشكالات تدريس الفلسفة. ونأياً منّا عن كلّ دروب التَّسْلِيفِ المعمول به تقليدًا في مثل هذه الحوارات المختصّة، أي قاصدين صوغ التّعريفات، سنعرج إلى طرح سؤال إشكالي على حضرتكم عادة ما يُعار له الانتباه جدِّيّاً، ليس بحثاً عن الدّلالة بقدر ما هو تساؤل عن التّمثّل. من هو مدرّس الفلسفة؟.
أفهم من سؤالك مجمل التّمثّلات السّائدة حول مدرّس الفلسفة، وأعتقد أنّه من باب الموضوعيّة النّزول إلى الميدان، أقصد الوسط المدرسي أو المجتمع، ومن ثمّ وعبر تقنية بحث ملائمة يمكن تجميع كلّ المعطيات المرتبطة بالموضوع. ما عدا ذلك أعتقد أنّنا سنبقى أسيري الحسّ المشترك. من جهة أخرى وارتباطا بالموضوع ينبغي استحضار متغيّر الزّمن والمستوى التّعليمي للأشخاص ولمعتقداتهم إلى غير ذلك من المتغيّرات. ما يمكن قوله في هذا الإطار، ومع كثير من التّحفّظ هو أنّ دارس الفلسفة ومدرّسها كان في وقت مضى مصدر إزعاج لكلّ السّلط الموجودة في المدينة دينيّة ومدنيّة، فقط لأنّ المشتغل بها لا يهاب أحدا ولا يثق بسهولة ويمارس النّقد، دون أن ننسى التّراكمات السّابقة التي قدّمته باعتبارها منحرفا دينيّا أو ملحدا، ثمّ لأنّ ذاته لا تنصاع بسهولة لأولي الأمر، ومن ثمّ رفض الفلسفة واعتبارها كلاما زائدا وقد يؤدّي بصاحبه إلى الضّلال. هذه التّمثّلات ارتبطت بفترة تاريخيّة وبدأت تتشكّل داخل مجتمعنا بدءا من العهد المرابطي بل مع بداية أفول الدّولة الموحديّة وكلّ الأنظمة السّياسيّة اللاّحقة وجدت مصلحتها في تثبيت هذه التّمثّلات وترديدها. مع مجيء الاستعمار ستعود الفلسفة للظّهور بشكلها المؤسّسي وستؤثّث البرامج الدّراسيّة ظهورها في هذه اللّحظة ما أعاد من جهة الاعتبار للفلسفة وربّما أعطى مناسبة لاكتشافها حتّى، لكنّه في نفس الوقت، وباعتبار هذه اللّحظة لحظة استعمار وخوف من المدرسة لأنّها مجال للتّنصير والخروج عن الدّين سيساهم وبشكل كبير في النّفور منها لدى غالبيّة النّاس، ويزكّي مجمل التّمثّلات السّلبيّة المرتبطة بها.
في الوقت الحالي مدرّس الفلسفة يتحمّل كلّ المسؤوليّة إمّا في القطع مع التّمثّلات السّائدة حول مادّة تعليميّة يدرّسها أو ينفر منها عبر ممارسته التّعلميّة والتّربويّة. ومن جميل التّمثّلات لدى أغلب المتعلّمين أنّ مدرس الفلسفة رجل حكيم يمكن أن يحلّ كلّ المسائل المستعصية ويمكن أن يفتي في كلّ شيء.. إلخ من هذه التّمثّلات التي لمسناها لدى الكثير من المتعلّمين وانتظاراتهم من درس الفلسفة. لكنّ السّؤال المطروح هل ممارسات جلّ أساتذة المادّة حاليّا تحقّق هذه الانتظارات؟ إلى أي حدّ استطاعوا جعل المتعلّمين يتفاعلون مع درس الفلسفة والقضايا التي تطرحها؟ إلى أيّ حدّ استطاعوا تجاوز فكرة أنّ الفلسفة مادّة صحيّة وأنّها فقط فكر مجرّد متعال عن الواقع....
باعتباركم باحثا في السّوسيولوجيا، لماذا يصوّر المخيال الشّعبي أستاذ الفلسفة على أنّه مرفأ كلّ سؤال، أي أنّه المجيب عن أسئلة الدّنيا والدّين وحَلَّاّلُ كلّ العقد، ينتهي إليه المتعلّم والسّائل للخلاص من الحيرة والضّياع وكأنّه شوّاف غيب؟ 
ربما من بين التّمثّلات الإيجابيّة التي سجّلها التّاريخ عن المدرّس أو المهتم أو المنشغل بالفلسفة أنّه ملمّ بكلّ شيء وبكلّ المعارف، وهذا التّصوّر ربّما خلّفه الرّعيل الأول من مدرّسي الفلسفة بحضورهم الثّقافي الدّائم داخل المؤسّسات التّعليميّة والمراكز الثّقافيّة وحيث كان الاشتغال آنذاك بالثّقافة والفكر يمثّل موضة. آنذاك بدأ يتبلور هذا الاعتقاد في كون مدرّس الفلسفة إنسان موسوعي وهذا ليس بغريب عن الفلسفة فهي في الأصل كما نعرف فكر شمولي وموسوعي ولنا في تاريخ الفلسفة أمثلة كثيرة حيث التّداخل والتّكامل لدى الفيلسوف بين الفلسفة والعلم بمختلف أصنافه . 
في شهادة لمحمد وقيدي عن أستاذه الشّخصاني محمد عزيز الحبابي رحمهما الله، يقول: «طريقة الحبابي في دروسه [...] اتجهت إلى إشراك الطّلبة في التّفكير في قضايا موضوع الدّرس، وإشراكهم بالوعي بالأزمة التي يثيرها الفلاسفة في كلّ قضيّة [...] ألقى الحبابي دروسه بوصفه فيلسوفاً له وجهة نظر في المشكلات التي يتناولها في الدّرس. وعشنا معه بذلك جدل الفيلسوف والأستاذ»(مجلة أفكار، ع 5، أبريل 2016م)؛ هل سر ّنجاح الدّرس المغربي قبل التّسعينات، بشهادة العديد من المختصّين ولو نسبيّاًّ، كامن في كون الأستاذ فيلسوفاً مبدعا ًحاملاً لقضية وهموم مجتمعيّة وإنسانيّة وفكريّة؟.
إذا شئنا الحديث بلغة سوسيولوجيّة يمكننا القول أنّ أستاذ تلك الفترة التي تحدّث عنها محمد وقيدي، كان ذا شخصيّة وظيفيّة حيث التّماهي الكامل بين الفرد والدّور الذي يقوم به داخل المجتمع كما أنّ جلّ الدّارسين آنذاك اختاروا ممارسة هذه المهمّة المستحيلة كما يسمّيها «غاستون باشلار» عن قناعة وعن حبّ، وكلّ ذلك انعكس بشكل إيجابي على أدائهم من جهة وعلى علاقاتهم التّربويّة الذّكيّة مع المتعلّمين. لذلك تجدنا دائما نوصي الأساتذة المتدرّبين الجدد ومهما كانت دوافعهم لممارسة هذه المهنة بالعمل على ذواتهم وشخصيّتهم وتسويق صورة إيجابيّة حولهم وإيجاد الانصات للمتعلّمين والانفتاح على المجتمع والأسئلة التي تؤرق المتعلّمين خصوصا خلال هذه الفترة العمريّة ومن ثمّ إصلاح ما يمكن إصلاحه ليس فقط عبر الكلام والتّنظير بل عبر الفعل والانخراط في الحياة المدرسيّة والقطع مع عالم التّمثّلات والحسّ المشترك. بهذه الطّريقة فقط يمكن أن نجد مكانا مناسبا لنا داخل الوسط المدرسي ونجد الطّريق المناسب للدّخول الى عالم الشّباب المتعلّمين.
في نصٍ لدولوز«خارج الفلسفة» يتحدّث فيه عن صعوبة القفز عن تاريخ الفلسفة، لا يمكن للفيلسوف أن يقول قولا فلسفياً إلاّ بالمرور على التّاريخي الفكري؛ هل يمكن أن نقول بهذا أن قدر الفلسفة هو التّدريس بالمضامين؟. 
هذا الاشكال وسلسلة الأسئلة المرتبطة به سؤال طرح منذ عهد قديم ولكنّه وجد صياغته المثلى مع كانط و هيجل وصيغ بالشّكل التالي: «ما الذي ندرّس؟، هل تاريخ الفلسفة ومواقف الفلاسفة من قضايا محدّدة أم نعلّم التّفلسف؟. بل أكثر من ذلك هل الفلسفة كما قدمت نفسها تاريخيّا كنمط من التّفكير له خصوصيّته القابلة للتّعلّم وللتّدريس؟، ونظرا لمدى أهمّية هذا السّؤال ولراهنيته أيضا أتمنّى أن تسمحوا لي لكي أتوسّع أكثر في هذا الموضوع وإن كان المقام غير ذلك. ومن ثمّ استحضار الموقفين الكانطي والهيجيلي ومتابعتهما في الدّفاع عن موقفهما ورؤيتهما لتدريس الفلسفة وكيف ينبغي أن يكون ذلك التّدريس؟.
يلاحظ كانط أنّه لكي «تحفظ» الفلسفة وتنطبع في الذّاكرة أو الذهن لا بدّ أن توجد أولا وجودا عينيّا وبصورة تجعلنا نستطيع أن نقرّر ما يلي: «[...] إنّ هذا علم ومعارف يقينيّة، تدرّبوا على فهمه واحفظوه ثمّ ابنوا عليه فيما بعد، وستصبحون فلاسفة» . يستفاد من ذلك أنّ «الفلسفة لا تعلم» لأنّها ليست علما بعد، كما سيقول هوسرل؛ فقد «كان يحلو لكانط القول إنّنا لا نستطيع أن نتعلّم الفلسفة وإنّما فقط التّفلسف. وهذا إن كان يعني شيئا، فهو الإقرار بالطّابع اللاّعلمي للفلسفة، فبقدر ما يكون العلم علما حقيقيّا، بقدر ما نستطيع تعليمه وتعلّمه، وهذا ينطبق على جميع المجالات»(1) .   
إنّ الإشكاليّة الأساسيّة إذن، بالنسبة لكانط، تكمن في تحول تعليم الفلسفة من مسألة يمكن أن تناقش على مستوى بيداغوجي إلى مسألة ينبغي أن  تناقش فلسفيّا، حيث ستصبح مسألة تدريس الفلسفة أو عدم تدريسها مرتبط بوجودها من عدمه، ممّا سيخلق من جهة توتّرا بين تعليم الفلسفة والتّفكير فلسفيّا، ومن جهة أخرى فصل الفلسفة عن العلم أو المعرفة، الأمر الذي سيؤدّي إلى وضع التّراث الفلسفي بكامله موضع سؤال: هل هذا التّراث، بما يشمله من نصوص ومذاهب فلسفيّة، يقدّم مادة علميّة، أي معرفة تصلح للتّعليم، أم أنّه مجرّد مادّة مصاحبة للتّعلّم، يتمرّن عليها المبتدئ إلى أن يصبح قادرا على التّفلسف بذاته؟، إنّ النّقد كما فهمه كانط ومارسه في دروسه ليس نقدا لتاريخ الفلسفة وليس نقدا للكتب أو الأنساق والمذاهب وإنّما هو نقد العقل ذاته وبذاته، أي مثول العقل أمام محكمة النّقد ليكتشف إمكانيّاته فيستغلها ويعرف حدوده فيلزمها.
إنّ التّلميذ الذي يلج الجامعة يعتقد أنّه سيتعلّم «الفلسفة»، وهذا أمر مستحيل، لأنّ ما يتوجّب عليه تعلّمه آنذاك هو التّفلسف. وتأكيدات كانط بهذا الشّأن متعدّدة ومتكرّرة في جميع مؤلفاته النّقديّة: «لا يمكننا تعلمّ الفلسفة لأنّها لم توجد بعد…»، «ما الفلسفة إلاّ مجرد فكرة لعلم ممكن...»، «لا يمكن للمرء لحدّ الآن تعلّم أية فلسفة، إذ أين هي؟ ومن يمتلكها وأيّة علامة تدلّ عليها؟»(2)، إنّ من يعتقد في تعليم الفلسفة هو بالتّأكيد من لم يفهم ماهيتها؛ لأنّه بذلك يعتبرها علما قائما بذاته، في حين أنّه من «الادعاء أن يسمّي المرء نفسه فيلسوفا وأن يزعم أنّه وصل إلى مضاهاة النّموذج الذي لاوجود له إلاّ وجود فكرة»(3) .
لا وجود إذن للفلسفة ولا للفيلسوف إلاّ وجود «فكرة» أو «نموذج». لكن ماذا يتبقى تحت اسم «الفلسفة» في هذه الحالة؟ ثم ماذا نفعل بركام المعارف المحشورة داخل ما يطلق عليه «تاريخ الفلسفة»؟
ليست الفلسفة إذن حقيقة واقعيّة قائمة بذاتها، مثلها مثل العلم، حاضرة في مجال معطى مباشر وإنّما هي ممارسة فكريّة وعمل متميّز يسميه كانط بالتفلسف(4) وهو عمليّة يمكن تعلّمها من خلال ترويض واستخدام عقلنا بأنفسنا.
إنّ من لا يقوى على التّفلسف ليس جديرا بأن يسمّى فيلسوفا. إذ من الواجب على الفيلسوف أن يقوم باستخدام عقله بصورة حرّة وشخصيّة، بحيث يفكّر بذاته فلا يكون مقلّدا لغيره بصورة حرفيّة كما يجب عليه أن يتجنّب استخدام عقله بصورة جدليّة، فلا يتوخّى من معرفته الحقيقة وظاهر الحكمة، وإلاّ كان مجرّد سفسطائي، الأمر الذي لا يليق بكرامة الفيلسوف الذي يعرف الحكمة ويعملها (5) .
إنّ من يعلّم التّفلسف لا «يلقن» تلامذته الأفكار المطلقة ولا يقوم مقام الوصي على عقولهم. بل يرشدهم إلى طرق العمل والتّفكير الشّخصي، بحيث لا يكون التّراث الفلسفي أمامه إلاّ كتجلٍ من تجلّيات «استخدام العقل، وبمثابة موضوعات لترويض الموهبة الفلسفيّة» (6) 
إنّ هذه المقاربة لمسألة تعلّم الفلسفة وتعليمها مرتبطة أشدّ الارتباط بجواب كانط عن سؤال ما الأنوار؟ الذي انشغل من خلاله بالحاضر، فالأمر لا يتعلّق بمعرفة جاهزة ومكتملة وكلّية قابلة للتّعلّم وإنّما بالدّعوة إلى الخروج من الوصاية والحجر وإلى التّحلّي بالجرأة على استعمال العقل في قضايا الحاضر.
في المقابل رفض هيجل هذا التّصوّر الكانطي المصر على الفصل بين تعلّم التّفلسف والفلسفة لأنّه، في اعتقاده، فصل تعسّفي و خطأ فادح تسبّبت فيه البيداغوجيا. ومن ثمّ يؤكّد  هيجل، و بشكل قطعي، أنّه لا يمكننا التّفلسف خارج الفلسفة وبعيدا عن تاريخها، فالفصل بينهما هو مجرد وهم، والمدرس لا يمكنه أن ينتج الأفكار لوحده، فثقافته لا تسمح له بذلك ما دام احتكاكه بمؤلّفات العباقرة غير كاف أو منعدما تماما. 
يؤكّد هيغل إذن على وجود إمكانيّة لتدريس الفلسفة وممارسة التّفلسف وتعلّمه من خلالها ولا يمكننا أبدا عزل تعليم التّفلسف بمعزل عن تاريخ الفلسفة وعن راهنها، فكلّ ممارسة فلسفيّة مشدودة بالضّرورة إلى حركة التّاريخ. ولاحظ هيغل أنّ عدم الاعتقاد بهذا التّصوّر أدّى بالتّفلسف إلى توريطه في محاولات ذاتيّة فرديّة لا غير، تبعدنا عن مضمون الفلسفة. وفي تقرير هيغل سنة 1812 أثناء قيامه بمهام تدريس الفلسفة بالجيمناز أكّد على ما يلي: «بقدر ما تكون دراسة الفلسفة في ذاتها ولذاتها نشاطا شخصيّا، بقدر ما تكون تعلّما، تعلّما لعلم قائم ومنشأ مسبقا، هذا العلم هو كُثُرْ يحتوي على مضمون مكتسب تمّ إنشاؤه وتشكيله، هذه الشّروط الموروثة المتوفّرة ينبغي للفرد أن يكتسبها أي أن يتعلّمها»(7). ولتوضيح هذه العلاقة الجدليّة بين الفلسفة وتاريخها  يؤكّد هيغل أنّه عبر تدريس الفلسفة ترتقي الرّوح إلى أفق وحدتها مع حركة التّاريخ إذ بفضله يتمّ التّحقيق الكامل لـ«وعي الذّات لذاتها» ولن يحدث هذا التّجلّي إلاّ بعد أن يتمّ اعتماد الفلسفة وتدريسها داخل كلّ المؤسّسات التّربويّة دون استثناء، لحظتها يتمّ بناء النّسق المتماسك وبإحكام تامّ تنبني الأنماط التّعليميّة الصّارمة. لقد تمكن هيغل من خلال تجربته في التّدريس من أن يجعل منها قرارا فلسفيّا Une décision philosophique، لأجل الإبقاء عليها داخل المؤسّسات التّربويّة، ومنه ضرورة تدريسها، ذلك أن هيغل وعلى خلاف كانط كان يعتبر الذّات نفسها لا يمكنها أن تكون ثابتة، فهي بدورها، أي الذّات، حركة تكون والتّاريخ لا ينفصل عن الموضوع. فالمفهوم، بالنّسبة إليه يتعيّن النّظر إليه باعتباره  لحظتين مزدوجتين، فهو، من جهة، لحظة الفكر العائد إلى ذاته، والفكر الحرّ الذي وعى الضّرورة فيه، وتجاوزها وفقا لتطوّر محايث ولمسار داخل من التّحديدات والتّعيينات الذّاتية، كما أنّ المفهوم لا يمثّل جزءا مستقلاّ عن التّعيينات السّابقة له، أعني عن الكينونة وعن الماهية، فما اكتشفه هيغل هو أنّ الموضوعيّة التي أصبحت من بين أهمّ خصوصيّات التّفلسف والفلسفة في ذات الوقت، إذ لم يعد شيئا آخر سوى تعيين المفهوم داخل الأشياء نفسها، فسواء تعلّق الأمر بذاته (الذّاتية) أو بالآخر(الموضوعيّة) فإنّ المفهوم هو دوما بنية الأمر وموطن الحقيقة فيه، وعلى هذا المستوى من النّظر يمكن أن نقول أن المفهوم والموضوع هما نفس الشّيء.
إنّ هذا التّصوّر الهيجيلي الذي يدعو الى عدم الفصل بين الفلسفة والتّفلسف يعدّ إحدى النّتائج التّربويّة لموقفه الفلسفي الذي ينظر إلى الفلسفة كعلم مطلق مكتمل التّحقّق باعتبار أنّ المطلق وحده هو الذي يكون حقيقيّا ويتطوّر كذات ليأخذ شكل نسق وبالتّالي فالفلسفة هي الفلسفة الهيجيليّة القابلة للتّعلّم. بما أنّ هيجل تمكّن بفضل المنهج الجدلي من أن يجعل من السّبيل الموصل للعلم جزءا من العلم نفسه وهو بذلك يحرص على أن يسلم للمتعلّم السّلم الذي ينقله من لحظة ما قبل الفلسفة إلى لحظة الفلسفة ومن ثمّ فنحن أمام تصوّر مخالف تماما للتّصور الكانطي الذي اعتبر الفلسفة تلك الفكرة البسيطة التي لم تتحقّق عند أي فيلسوف وأنّها تفتقد مكونات إمكانيّة تدريسها لأنّها ببساطة ليست علما. 
الثابت إذن هو ضرورة التّفكير في ديداكتيك للمادّة يؤطّر ويوحّد طريقة تدريسها ويستدعي في نفس الوقت تاريخها من جهة لكسب المتعلّم ثقافة فلسفيّة ولكي يتعامل مع كتابات الفلاسفة، ويلاحظ كيف يشتغلون، كيف يطرحون اشكاليّاتهم، وكيف يدافعون عن أطروحاتهم. ومن ثمّ الجمع بين التّصورين، تصوّر الفلسفة كقدرات يلزم تعلمها وتاريخ الفلسفة كمجال لاكتساب تلك القدرات، إضافة إلى المعارف الفلسفيّة والقيم المرتبطة بها. كلّ ذلك سيساهم لاشكّ في ذلك في تحقيق بعض كفايات الفلسفة كمادة دراسية تدرس الى جانب مواد تعليمية أخرى.
 أي متعلّم نقصد عندما نتحدّث عن بناء الدّرس مع الأستاذ؟، هل بمقدور متعلّم اليوم ايصال الدّرس الفلسفي إلى المنتهى الغائي؟.  
يمكن أن نحقّق ولو الحدّ الأدنى من المراد، اذا أردنا ذلك يلزم فقط تبني ديداكتيك مناسب، ديداكتيك ينطلق من المتعلّم وينتهي إليه، أي الانطلاق من عالم المتعلّم التّمثّلي ومساءلته، ثمّ العروج على المجال الدّلالي للوقوف على مختلف المعاني والدّلالات للموضوعات والمفاهيم التي ندرّسها لخلخلة المعارف والمواقف الرّاسخة عند التّعلّم ليكتشف مفارقاته ويسائلها، من ثمّ الرّجوع إلى تاريخ الفلسفة للوقوف على إجابات الفلاسفة حول الموضوعات المدروسة وكيف دافعوا بمختلف الاشكال الاستدلاليّة والحجاجيّة عن مواقفهم. وهنا يكتسب المتعلّم ثقافة فلسفيّة وفي نفس الوقت يتعلّم كيف يفكّر بطريقة فلسفيّة. بهذا الشّكل تبنى الأفكار وتبنى العقول، وليس عبر تقديم دروس جاهزة والاستعراض من قبل المدرس وكأنه يدافع عن موقعه محتكرا الجزء الكبير من الحصّة الدّراسيّة والتلاميذ ينصتون بشكل سلبي. ومن ثمّ يلزمنا دائما التّساؤل عن البقايا أو الآثار التي تبقت عند المتعلّم بعد أن يغادر المدرسة ويجتاز امتحاناته ويكون قد اختار وجهته. 
بعيداً عن النّظرة الوردية للأشياء قريباً من تشخيص الواقع وكي لا نحون الحقيقة؛ هل يمكن أن نجزم أستاذي محمد شرقي أنّ إصلاح التّربية والتّعليم بات مستحيلاً في الوطن العربي عموما والمغرب بالخصوص، دون عمليّة جراحيّة كبرى لتفاقم العلل كما يقول المفكر التّونسي أبو يعرب المرزوقي؟. 
لا شيء مستحيل، اصلاح التّعليم ممكن، يلزم فقط أن تكون هناك إرادة سياسيّة من طرف من يدير الشّأن السّياسي، وإرادة مجتمعيّة كذلك لأنّ المجتمع فقد ثقته في المدرسة لأنّها لم تعد تقوم بأدوارها التّقليديّة والمعروفة وهي التي سبق أن حدّدها الأستاذ الجابري في وظيفتين أساسيتين التّكوين والتّأهيل. مع ذلك في اعتقادي مازال الأمر ممكنا، يلزم فقط أن تكون هناك إرادة وأن ننزل إلى الميدان. في البداية تأهيل البنيات التّحتيّة وتجهيز المدارس لكي تسارع جاذبيتها على الأقل على مستوى المجال، ثمّ التّقليص في عدد التّلاميذ داخل الفصل، ومراجعة المقرّرات وتهيئة كلّ الظّروف للمعلّمين، وإعادة الاعتبار لهم وإرجاع الهيبة للمؤسّسة التعليميّة ومكانتها داخل المجتمع ثمّ إعادة النّظر في مراكز التّكوين وبرامج التّكوين بشكل يؤهّل بالفعل المدرّسين لمواجهة واقع متغيّر على الدّوام وممارسة مهنة معقّدة بل مستحيلة كما يذكر غاستون باشلار.