حكم وأحكام

بقلم
الهادي بريك
الحلقة الرّابعة: الشّريعة والتّرميز واللاّمعقول التّيمّم ورمي الجمرات
 إستخدمت الشّريعة الإسلاميّة بعض الرّموز، منها التيمّم ومنها رمي الجمرات في الحجّ. التّعبير بالرّموز ضرب من ضروب الخطاب وحركة الجسد. التّرميز يكون في العادة في مقابل الحقيقة. وجود الرّموز في الشّريعة قليل جدّا من جهة وهو مقصور على الحقل التّعبّديّ من جهة أخرى. وعلى ذلك الأساس تقرّر بكلّ يقين أنّ ما ينتمي في الحياة إلى معاملة النّاس ـ وليس إلى معاملة ربّ النّاس ـ معلّل مقصّد مفهوم معقول أساسه قيم العدل والجور أو المصلحة والمفسدة. 
التيمّم حركة لا معقولة، ومثلها رمي الجمرات. ذلك أنّ التيمّم لا يزيل نجاسة ولا قذارة. لا كبرى ولا صغرى بتعبير الفقهاء، أي لا يجعل المجنب طاهرا طهارة حقيقيّة ولا يجعل غير المتوضّئ متوضّئا. العقل ينبّئك بيسر عن هذا. ومثله رمي الجمرات، حركة لا معقولة بسبب أنّ الشّيطان ليس شخصا يرمى بالحصى فيدبر. وحتّى عندما ترتبط بما فعله إبراهيم الخليل عليه السّلام وهو يعالج الشّيطان بإباء وطاعة للّه سبحانه، فإنّ العقل لا يقبل أن يرمى الشّيطان غير المرئيّ بحصى. هي إذن حركات رمزية ولكنّها دينيّا صحيحة دون ريب. هنا يشتبك الغيب مع الشّهادة. هنا يختبر الإنسان من لدن ربّه سبحانه. هل هو يؤمن به غيبا وهل هو يطيعه غيبا. أم هو عبد مطيع لهواه أو حتّى لعقله عندما يصطدم عقله مع حقيقة غيبيّة دينيّة موقوفة لا ريب فيها. هنا تختبر معادن النّاس. صحيح أنّ منطقة الرّموز في الشّريعة أندر من النّدرة وأقلّ من القلّة، ولكن على ندرتها وعلى إنحصارها في الحقل التعبّديّ فحسب فإنّها معيار من معايير الجزاء يوم القيامة. 
الحكمة من تلك الرّموز ـ على ندرتها ـ هي إختبار العبد، هل يطيع ربّه إذ تبيّن له صحّة الوحي أم يطيع هواه أو حتّى عقله. للعقل مكانة عظمى في إعتبار الدّين. ولكنّ المشكلة هي أنّ العقل قد لا يسلم أحيانا من شغب الهوى. لذلك إختبر الإنسان هنا في عقله كذلك، هل يخضع العقل هنا للوحي الصّحيح. أم يتبرّج بعلمه ويزهو بمداركه ويرمي الوحي الصّحيح بالفساد. 
الحكمة من الرّموز هنا هي الطّاعة بالغيب. المعادلة ـ علاقة بين اللّه والإنسان ـ في منتهى البساطة والوضوح : هو مالك والإنسان مملوك. وهي ملكيّة جاءت ثمرة معادلة سالفة عنوانها : اللّه هو الخالق والإنسان هو المخلوق. واللّه هو الصّانع والإنسان هو المصنوع. واللّه هو الرّازق والإنسان هو المرزوق. وعندما تستوي هذه المعادلة على ذلك المنوال فإنّ العلاقة بين اللّه والإنسان لا تكون عدا علاقة ملكيّة تامّة. لا شراكة فيها مع اللّه لأحد. ورغم ذلك فإنّ اللّه سبحانه ـ بعد أنّ بيّن للإنسان الرّشد من الغيّ في مصدره ورسالته ومصيره ـ وهبه الحرّية التامّة. فإن شاء آمن وإن شاء كفر. عدا أنّه حذّره من مغبّة كفره يوم القيامة. سيما أنّ الكفر في العادة الغالبة لا يكون إلاّ ثمرة كبر وغرور. 
لم يقصر الإختبار على هذا الحقل العقديّ بسبب أنّه حقل مفهوم معقول. ولولا الكبر لآمن كلّ من في الأرض جميعا. إنّما أرادت الشّريعة إختبار ذلك العقل مرّات قليلة في الحقل التّعبّديّ. وذلك من خلال حركتي التّيمّم ورمي الجمرات. الحكمة هي حماية الإنسان من عقله أن يكون إلها معبودا. وخاصّة عندما يطغى المرء بماله وعلومه ومعارفه وتحضّراته وسلطانه وجاهه ووجاهته وسمعته وذكره. العقل نفسه عندما يطلق له العنان بدون لجم قد يغري صاحبه بالكبر والغرور فيرديه. وهو يظنّ أنّه يحسن صنعا. ولذلك ألجمته الشّريعة في مواضع قليلة جدّا بلجم الطّاعة بالغيب. 
التّيمّم لا يزيل نجاسة ولا يذهب جنابة. ولكن يختبر اللّه عبده هل يستسلم لعقله أم يطيعه بالغيب. والأمر نفسه بالنّسبة لرمي الجمرات. الحقل التّعبّديّ فيه ما يشبه ذلك، ولكن يمكن تأويله. أو يمكن أن تظهر حكمته ولو بعد أحقاب، من مثل ذلك : تآقيت الصّلوات وعدد الرّكعات. ولماذا ركوع واحد وسجدتان. ومثل ذلك : عدد الأشواط في الطّواف ومثلها في السّعي وتقبيل الحجر الأسود وإتّجاه الطّواف ذاته. هي أمور قليلة لا تكاد تذكر. وهي مقصورة على الحقل التّعبّديّ. أمّا اللّون الغالب الأعمّ فهو لون التّعليل والتّقصيد والمعقولية والحكمة التي تلتقطها العقول. 
من مصالح وجود تلك الرّموز في الشّريعة : تربية الإنسان على خلق التّواضع لربّه سبحانه وترسيخ الإيمان به غيبا وطاعته غيبا كذلك. علّمنا ونحن أطفال يافعون أنّ الإيمان بالغيب ـ الذي هو ضدّ المحسوس والملموس ـ لا يليق بالإنسان. وخاصّة بإنسان هذا العصر. وإنطلت علينا الحيلة تحت الإكراه الغربيّ وفلسفته العجفاء. فلمّا كبرنا عرفنا أنّ من لم يؤمن عدا بالمحسوس الملموس هو أعجم أبكم، لا علاقة له بعالم الإنسانيّة، عرفنا أنّ الغيب مركّب من مركّبات هذا الوجود. وعرفنا أنّه من كرامة الإنسان وسموّ عقله ألاّ يقصر إيمانه على ما يحسّ و يمسّ فحسب. ولكن بما يعانق فؤاده من أشواق. عالم الفكرة لا تصنعه المحسوسات والملموسات فحسب، ولكن تصنعه الأفئدة كذلك. غيّبوا عنّا في تلك الأيّام مصدرا مهمّا من مصادر المعرفة وهو مصدر العقل، الذي يسمّيه الوحي فؤادا. وظلّ الإحتلال وأذنابه ينفخون في أوطاب بعض الطّرق الصّوفية الضّالة ليصرفوا النّاس عن إستثمار ملكة العقل. ها هم أعظم علماء الغرب في الفلسفة والفيزياء معا ـ وممّن نال جائزة نوبل ـ يقرّون في كتاب (اللّه ـ العلم ـ البراهين) قبل شهور قليلة في باريس بسلطان الغيب. الإيمان بالغيب إذن أمارة رشد عقليّ وحصافة ذهنيّة وشهود حضاريّ. وليس كما صوّر لنا أذناب العلمانيّة الكئيبة في الستّينات والسّبعينات. 
من مصالح التّرميز كذلك ترسيخ الفكرة في النّفس. التّرميز ـ كما أنف القول ـ لسان من الألسنة مثل لسان القلم، ولسان الجسد أي حركته. ولسان النّغم أي الموسيقى. عندما يكون المصلّي غير مؤهّل لإستخدام الماء لوضوئه لأيّ سبب ـ لا يعنينا هنا ـ فإنّه يحفظ للصّلاة قدسيتها. فلا يعالجها ـ حتّى وهو فاقد للماء ـ بدون مقدّمات تليق بها. وعندما يرمي الجمرات فهو يدرك كلّ الإدراك أنّ الشّيطان ليس شخصا ماثلا يرمى بالحصى فيغرب. ولكنّه يغرس في نفسه فكرة التّحرّر من الشّيطان.
العلاقة بين الرّموز وبين حركة الجسد (من مثل حركة الإشارة بالنّسبة للصّمّ مثلا) هي علاقة حميميّة. وحتّى عند غير الصمّ أي عندما يعبّر الواحد منّا بحركة جسد. أليس هو يرمز بحركة جسده إلى معنى ما؟ المشكلة ليست في إستخدام الشّريعة للرّموز على ندرتها. ولكنّ المشكلة هي في معالجتنا لتلك الرّموز ببلادة ورتابة وبرودة لا حياة فيها. لذلك نفقد الإحساس بقيمة الرّمز. أيّ قيمة لرمز إبن خلدون وهو ماثل في العاصمة التّونسيّة؟ الرّمزيّة هنا هي تذكير النّاس دوما بالكسب الفكريّ العظيم لهذا النّحرير الكبير. أمّا عندما يكون ذلك الرّمز متروكا مزهودا لا يكاد يذكّر بشيء ولا يحيل إلى شيء فأيّ قيمة له؟ 
الإسلام نقل العقل الإنسانيّ من الرّموز التي تستولي على العقول فتعبدها العقول وتطوف بها رغبا ورهبا إلى الرّموز التي تغذّي العقل بطاقة فكريّة وشحنات ذهنيّة. هذا الأمر إشتبه على بعض النّاس الذين ظنّوا أنّ الطّواف بالكعبة المشرّفة هو ضرب من ضروب طواف المشركين بأصنامهم. الرّموز عندما لا تفقه حقّ الفقه تكون مشكلة حقّا. الحركتان تلتقيان (حركة طواف المشركين حول أصنامهم وحركة طواف المسلمين حول الكعبة). ولكنّ اللّقاء الصّوريّ الحركيّ يغري الأطفال فيشتبه عليهم الأمر بسبب عدم تأهّلهم للتّمييز. أمّا العقلاء فلا تشتبه عندهم الحركات الصّورية فيخلصون إلى نتيجة واحدة. 
التّرميز في الشّريعة هو ضرب من ضروب تنمية الوعي الإنسانيّ ودفعه إلى النّظر والتفكّر والتّدبّر والتّمييز. الأذان رمز ناطق. المئذنة رمز صامت. النّغم رمز ناطق بلسان وتره. تلك هي الشّريعة عندما تنطق كلّ ألسنة الإنسان والطّبيعة من حوله حتى تغرس في الإنسان نفسه أنّ الكون كلّه محراب. وأنّ الوجود كلّه مسجد (إسم مكان). وأنّ الإنسان بتضاريس الأرض (صعيد طيّب وحصى) يصنع التّحضّر. بهذه القراءة الموضوعيّة النّفسيّة والإجتماعيّة العمرانيّة للإسلام يمكن للإنسان أن يلان له الحديد. وأن يسمع بفؤاده تسابيح الجبال وصلوات الطّير. أمّا عندما تجمد حركته فلا أفق له من تلك الرّموز (التّيمّم ورمي الجمرات) عدا البعد الدّينيّ فحسب فيعسر أن يكون مع المسبّحين. وتنفصل فيه أحكام الدّين عن حكمه فيجعل القرآن الكريم عضين وهو لا يعي. ولا تكون الثّمرة عدا مرّة. إذ لا تغمر عقيدة التّوحيد الإنسان غمرا يخلص فيه لله وحده سبحانه. 
من عجز عن وصل حكم الشّريعة بحكمتها كمن عجز عن وصل صلاته وتسبيحه بصلاة الطّير وتسبيح الرّعد. من عجز عن ذلك يعسر أن يكون موحّدا كينونته الجامعة بالكلّية للواحد الأحد. ومن ذا فإنّ التّوحيد الكفيل وحده بنوال الخلود في الجنّة والكفيل وحده بمسح قصورات الإنسان ليس صراطا مفروشا بالورود والسّجّاد الأحمر. إنّه كبد وسعي وعمل وكسب . هي رحلة كدح يتكافل عليها عقل ناظر مع قلب باصر