همسة

بقلم
شكري سلطاني
الحقيقة الإلهيّة والحقيقة البشريّة
  الحقيقة الإلهيّة
على مرّ الأزمنة والعصور والدّهور حاول الإنسان جاهدا كشف أسرار الوجود وحقيقة الكون وخالقه، وتناول الذّات الإلهيّة بالتّفسير والتّعبير بما سمحت  له نفسه من فهم وإدراك وتمثّلات من منطلقات حسيّة ومعنويّة ذاتية. 
ولقد اتسمت معظم المحاولات بالإبتعاد عن الحقيقة خاصّة فيما يتعلّق بالحقيقة الإلهيّة. إذ كيف يصيب غيبا ويدرك معنًى خارجًا عن ذاته النّسبيّة الظرفيّة ومتجاوزا لها،  فتصوّرات الإنسان  ومخياله وتفكيره مستمدّة غالبيتها من أعضائه الحسيّة المتّصلة ببيئته وإن تجرّد بعقله وتسامى بتأمّلاته، فما جاوز  المراقي العرفانيّة الدُّنيا في فهمه وإدراكه لأسرار وحقائق الكون، فقد «حجبت شموس المعارف بسحب الآثار»(1). لذلك يبقى فهمه قاصرا وإدراكه ناقصا، وعلمه ظنّيّا عالقا في دائرة الفرضيّات دون دليل وبرهان وحقّ يقين. 
لا يمكن لعاقل ذي بصيرة وحكمة أن يتصوّر تشابها بين الخالق ومخلوقاته، فاللّه عزّ وجلّ  يتّصف بصفات  التّمام والكمال والبهاء والجمال والحكمة والعلم والقدرة المطلقة بخلاف مخلوقاته فكلّ ما هو موجود من آياته وإشارات ودلالات وبراهين على جميل صنعه وكرمه وقدرته فهو الأزليّ السّرمدي دون بداية ولا نهاية، فلا زمان ولا مكان فهو الباقي بلا زوال، الغنيّ بلا مثال، النّور التّام الذي تستمد منه جميع الأقباس ضياءها وبهاءها.
فاللّه سبحانه وتعالى ليس فكرة فتُمْحى، ولا خيالا ليختفي ويظهر، بل هو فرد صمد حيّ قيوم «موجود لذاته قادر لذاته عالم لذاته حيّ لذاته، تراه القلوب بحقائق الإيمان». 
وهو سبحانه « علمه مطلق بمخلوقاته، علمه بها قبل كونها كعلمه بها بعد تكوينها»، فهو العالم بالخبايا والخفايا والأسرار والنّوايا، عالم الغيب والشّهادة، لا يخفى عليه شيء وهو الكبير المتعالي، المحيط الذي لا يحاط، مجري الزّمان ولا زمان له، مكوّن المكان ولا مكان له، فمحال أن تستوعبه العقول وتحتويه وتختزله التّعبيرات والتّفسيرات، تسامى وتعالى علوا كبيرا عن كلّ الموجودات. لقد خاب من تكبّر على مولاه خالقه ورازقه وحاربه جاحدا نعمه مجادلا مكابرا مغرورا بذاته.
إنّ وحدانيّة الخالق الواحد الأحد الصمد وصمدانيته تستوجب من البشريّة جمعاء السّجود لجلاله وجماله وعظيم كرمه وحِلْمه وسلطانه. ولكن أين عباد اللّه من عبادة اللّه عزّ وجل؟؟؟
الحقيقة البشريّة
هذا الإنسان الذي عُلِّم بالقلم وعُلّم ما لم يعلم، وتعلّم البيان كثيرا ما يجادل ويكابر مغرورا ويستند إلى رأيه دون وجه حقّ. تسري عليه وتحكمه قوانين كونيّة صارمة لن يفلت منها مسيرة حياتيّة بيولوجيّة وتغيرات مورفولوجيّة ووظائف حياتيّة حيويّة على مرّ زمانه ثمّ موت قاهر يحيله إلى عالم الأموات مفارقا الوجود الحسّي العياني البصري.
فلا هويّة ولا حقيقة للإنسان بذاته وهوى نفسه بل حياته كرم وجُود ومِنّة من خالقه، ولكن المشكلة البشريّة تكمن في مهزلة العقل البشري وزيف وعيه ولوثة نفسه ووهمه بحقيقة ذاته. يحمل الإنسان في معناه سرّ وجوهر لعبوديته لمولاه مالكه وربّه، فلقد فطره على الرّبوبيّة.
إنّ المنظور البيولوجي والفيزيولوجي يؤكّد بما لا يدع مجالا للشّكّ أنّه كائن حيّ يستمدّ وجوده ويستند إلى قدرة متعالية مطلقة وحكمة لامتناهية، فهو من اللّه وباللّه وإلى اللّه مصيره وإيابه.
أفعاله الإنعكاسيّة الفطريّة تلقائيّة لا يتحكّم فيها، وهي أساسيّة وضروريّة لتيسير عيشه وتحقيق وظائفه الحياتيّة الحيويّة(كالتّنفس) وتوازنه الدّاخلي، وكما تتحكّم قشرته المخّية في أفعاله الإراديّة وأحاسيسه الشّعوريّة ( كالإبصار) وهي دلائل صريحة وبراهين وآيات تُبْرز أنّه محكوم ببنية جسديّة ووظيفيّة وتكوين لتحقيق  نشاطاته الدّنيويّة. فلا حول ولا قوّة له بذاته حقيقة، فهو يستعمل كلّ ما يُسِّر له للإختيار والتوجّه بِنِيٓتِه وقراره وفعله الإرادي. 
﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ﴾(2) .
-غذائيا يعتبر كائن غير ذاتي التّغذية، فهو يحتاج لغيره من الكائنات لينتج مادّته العضويّة.
-أمّا وظيفة الإتصال بالوسط، فهي تظهر بما لا يدع مجالا للشّك إندماجه وانخراطه وحضوره ككائن منفعل متفاعل فاعل مساهم مشارك في بيئته ومنظومة الوجود والنّظام البيئي، فالوجود بمادّيته يحتويه، يثيره الوسط البيئي بمنبّهاته لتستقبل أعضاءه الحسيّة المثبّتة فيه إشاراتها، فتتولّد سيالة عصبيّة حسّية تنتهي بتحقيق إحساسه الشّعوري.
-وظيفة التّكاثر المهيكلة بنيويّا بجهازه التّناسلي في تقابل وتضايف وتكامل وتطابق وظيفي ملفت للإنتباه بين الجنسين، وذلك لتحقيق إستمراريّة النّوع البشري بتمرير المورّثات والمدوّنة الوراثيّة عبر الخلايا التّكاثريّة الذّكريّة والأنثويّة.
إنّ وظائفه الكبرى الأساسيّة التي يقوم بها طيلة حياته من تغذية وتواصل وتكاثر تعمّق مفهوم الحتميّة والجبريّة الوجوديّة، فلا حول ولا قوة له بذاته حقيقة ناصعة ولكن بإختياره وإرادته وتوجهه للفعل هو حاكم وشاهد على أفعاله، فهو مجبور ولكن في قالب الإختيار.
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾(3) .
يحمل الإنسان في كينونته استعدادا فطريّا لأداء فروض الطّاعة لمولاه، فهي له قُدرة وكفاية.
فالملاحظة الباطنيّة تظُهره كمعنى وجودي وسرّ رباني لا حول ولا قوة له إلاّ باللّه ربّه والذي تغنينا عن الملاحظة العيانيّة الظّاهريّة التي تظهره ككائن مستقلّ بذاته يتعلّق أحيانا وينفصل.
هل يمكن أن تكون هويّة الإنسان الرّابضة القابعة في نفسه هي المانعة الحاجبة لعدم ارتقائه ولإنحداره وسقوطه في أسفل السّافلين؟
الهوامش
(1) قال الشيخ ابن عطاء الله : «الكون كلّه ظلمة ، وإنّما أناره ظهور الحقّ فيه ، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه، أو عنده، أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار» من كتاب إيقاظ الهمم في شرح الحكم ابن عطاء اللّه السكندري لابن عجيبة الحسني.
(2) سورة الإسراء - الآية 84
(3) سورة النجم - الآية 39