تحت المجهر

بقلم
د.عزالدين عناية
الإيلاف الثقافي جدل الشرق والغرب
 في هذا المؤلف الجديد(1) يعالج الكاتب التّونسي الإيطالي عزالدين عناية (2) جملة من القضايا ذات الصّلة بموضوع الثّقافة والمثقَّفين، سواء في البلاد العربيّة أو في الغرب، وما يصحب ذلك من آمال معلَّقة على المثاقَفة، بقصد إيجاد مؤتلَف جامع. هذا وقد جاء تناوُلُ تلك القضايا على شكل مواضيعَ مستقلّةٍ، يمكن قراءتها على نحو متّصل أو منفصِل. يتعقّب المؤلّف من خلالها قضايا على غرار التشوّف الثقافيّ نحو الغرب، ومعوّقات الاستِعْرَاب النّاشئ في الجامعات الغربيّة، ومستلزَمات التعدّدية الثّقافيّة داخل الاجتماع وما شابهها من قضايا، ضمن مراجَعات في منهج التّناظر وتقفّي التّحوّلات الجارية لدى الجانبين، العربيّ والغربيّ، بفعل ترابط الوقائع والمصائر.
فممّا يلوح بيّنًا في الحقبة الرّاهنة تحكّمُ الغرب النّيوليبرالي بلعبة المعنى، وبصناعة المفاهيم، وبعمليّات التّأثير، على نطاق واسع. بموجب ما يملكه من قُدُرات وإمكانيّات، تخوِّلُ له توجيه الأذواق، وصنع الآراء بشكل مؤثّر. في وقت لا يُقدِّر فيه كثير من كتّاب عالم الجنوب ومثقّفيه تلك الهيمنة حقّ قدرها، لِما لديهم من نظرة طُهريّة عن السّياسة الثّقافيّة العالميّة، التي يمسك بمعظم مقاليدها الغرب، ويوجّه من خلالها قطاعات واسعة. فهو من يُصنِّع الأيقونات المعوْلَمة متى شاء، ويلغيها متى شاء، وِفق أهداف مضبوطة ومواقيت معلومة. 
ومن تبعات ذلك الوضع، أن بات الإبداع المنجَز تحت الطّلب، ووِفْقَ المعايير المحدَّدة، بمثابة المنتوج المعلَّب. لِما يفتقر إليه من روح العفويّة، وانحراف باستقلاليّة النّظر، وحصْرٍ لدوْرِ المثقّف. لكن الأخطر في العمليّة، أنّ تسويقَ المنتوج الثّقافيّ، بمختلف أصنافه، ومن ثَمَّ إكساب صاحبه سلطة معنويّة، قد بات رهين القيام بدوْرٍ وظيفيّ. فكيف ينفلت المثقّف، في الشّرق أم في الغرب، من هذا الأسْرَ المستقوي بالإكراه المصلحيّ، والتكسّب المعيشيّ؟ تبدو تحدّيات العاملِين في قطاع الثّقافة في الظّرف الرّاهن عويصة، ولا سيما مع الذين يعوّلون على دور للثّقافة في تغيير وجه العالم.
لقد مسّت التحوُّلات الجارفةُ الجغرافيا التّقليديّة للثّقافات، بما يتجلّى في ظهور المثقّف الكوسموبوليتيّ، ذي الطّابع الكونيّ. وقد أشير إلى ذلك في ثنايا الكتاب، من خلال تَوَلُّد ملامح المثقّف العربيّ الغربيّ في المَهجَر. وهو ما يدعم بوضوح ميْل الشّعوب إلى تعزيز التّقارب بينها، والتّطلّع إلى تجسير سُبُل التّواصل، بحثًا عن تقليص مساحة الاختلاف ودعْم بديل الائتلاف. فأيّ دور للرّأسمال الثّقافيّ في ذلك؟ وكيف السّبيل إلى إعادة استثمار الرّصيد المعنويّ للثّقافات حتّى يتسنّى التّقليل من مظاهر السّلبيّة التي تتربّص بالإنسان؟ سِيَما وأنّ ثمة صراعًا على أشده في حقل الثّقافة بين قوى لصيقة بهموم النّاس وتطلّعاتهم نحو غدٍ أفضل، وأخرى لا تبالي بإفراغ السّاحة من مقوّمات الوعي والفهم والإدراك، واستبدالها ببدائل الاستلاب والابتذال والسّطحيّة. ومن السّذاجة أن يتخيّلَ المرء أنّ حقلَ الثّقافة المعوْلَم حقلٌ نقيٌّ، بل يعتريه ما يعتري غيره من الحقول من تدافع محموم، ويستشري فيه ما يستشري في غيره من انتهاك وتوظيف وطمس.
وبوجهٍ عامّ، بقدرِ ما يسعى مؤلّف الكتاب إلى شرح طبيعة العلاقة السّائدة بين ثقافتيْن، اِستنادًا إلى تجربة عيش في العالمين، العربيّ والغربيّ، ينشد كذلك تلمّس ملامح بديل يتلخّص في ما يُطلِق عليه الإيلاف الثّقافيّ. فلا ينكر الكاتب ما منحه إياه الغرب من تطهّر، ممّا كان يحمِله عنه من أوْهام، وبالقدر نفسه ممّا كان يُحَمِّله من أوْزار، وتلك من مزايا النّظر للأشياء عن كثب.
 
الهوامش
(1) الإيلاف الثقافي.. جدل الشرق والغرب ، المؤلف: د. عزالدين عناية، الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون،
بيروت 2022، (295 صفحة).
(2) عزالدين عناية، كاتب تونسي إيطالي مقيم في إيطاليا وأستاذ يدرّس في جامعة روما. صدرت له مجموعة من الأعمال منها: «الإمام والكردينال»، 2021 و«الدين في الغرب»، 2017 و«العقل الإسلاميّ.. عوائق التحرّر وتحدّيات الانبعاث»، 2011؛ ومن ترجماته من الإيطالية «الفكر المسيحيّ المعاصر»، 2014 و«السّوق الدّينية في الغرب»، 2012..