للنقاش

بقلم
يوسف لوكيلي
العمل الاجتماعي المدرسي بين الماضي والحاضر 2/2
 2ـ العمل الاجتماعي المدرسي في التاريخ الإسلامي:
لقد لعب العمل الاجتماعي  دورا مهمّا في بناء الحضارة  الإسلاميّة  بصور وأشكال مختلفة، وذلك من خلال المساهمة الفعّالة في توفير الحاجيّات الأساسيّة للإنسان  الذي لا تستقيم حياته دونها  كالطّعام والسّكن و النّكاح والتّطبيب .. ممّا يضمن له الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة والمستقرة؛ ولم يتوقّف الأمر عند الحاجيّات الطّبيعيّة للإنسان بل تجاوزها إلى الإسهام الفعّال في البناء المعرفي والثّقافي لهذا الإنسان من خلال بناء المعاهد والمدارس والجامعات وتمويل إنتاج العلم والمعرفة.. 
وعلى العموم، فقد اهتم الإسلام بالبناء العلمي والمعرفي للإنسان قبل أيّ شيء آخر فأول أمر وجهه اللّه تعالى إلى رسوله الكريم ومن خلاله إلى عموم المسلمين هو ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يعْلَمْ﴾(1). و اللّه تعالى خصّ أهل العلم بالرّقيّ والدّرجات العلى بقول تعالى‏:‏ ‏﴿‏‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾(2)‏ يقول الغزالي: «فالعلم فضيلة في ذاته وعلى الإطلاق من غير إضافة، فإنّه وصف كمال اللّه سبحانه وبه شرف الملائكة والأنبياء»(3)‏.
وقد اهتمت الأمّة الإسلاميّة عبر التّاريخ بالعلم وبطلبته، ووفّرت لهم الشّروط الضّروريّة للتّفرّغ للعلم حتّى لا يشغلهم طلب القوت عن طلب العلم، قال الإمام الشّافعي«لو كلفت شراء بصلة لما فهمت مسألة» (4)‏.
ولعلّ أبرز نموذج على هذا الاهتمام بالعلم وأهله هو نظام «الوقف»  الذي شكّل نموذجا متقدّما للعمل الاجتماعي  المؤسّساتي والقائم بذاته، والذي ساهم بشكل فعال في بناء صرح  الحضارة الإسلاميّة  لقرون .
 ففي كثير من المدن الإسلاميّة العريقة مآثر وقفيّة عظيمة بقيت شاهدة إلى يومنا هذا على الدّور العظيم الذي لعبه الوقف في الحضارة الإسلاميّة، كما أنّها تبرز الجوانب الجماليّة والفنيّة في هذه الحضارة.
وكمثال على ذلك «جامع القروين» مفخرة مدينة فاس، والذي يعتبر تاريخا عمرانيّا وثقافيّا للدّول التي حكمت المغرب « فما تزال بها – أي جامع القرويين – إلى الآن آثار من عهد الأدارسة الفاتحين، وآثار من فترات تنافس الفاطميّين والأمويّين، وآثار من أيام الزّناتيين، ودولة المرابطين، والموحّدين، وبني مرين، وبني وطاس، والسعديين، والعلويين. كلّ له فيها أمثولة يعتز بها... وكلّ لها عليه دالة يفتخر بها»(5)‏.
ومع توالي كلّ هذه الدّول، فقد بقيت القرويين شامخة مستقلّة بذاتها بل إنّها « استغنت وأثرت حتى نافست مداخيلها ميزانيّة الدّولة نفسها بما توفّرت عليه من جليل العقار، وفسيخ الأرضين والغابات، وحتىّ اضطرّت الدّولة أحيانا إلى الالتجاء إلى مال أوقافها، لتسدّد به خصاصها، وتغطّي عجزها»(6)‏.
غير أنّ هذا الاهتمام ـ على أهمّيته ـ  ظلّ من الجانب الخارجي فقط أي من خلال توفير الحاجيّات المادّية والمعرفيّة لطلبة العلم دون أن ينتقل إلى تطوير الجوانب البيداغوجيّة والتّربوية للمنظومة التّعليميّة وتوفير الدّعم النّفسي لطلبة العلم، وهو ما أصبح يصطلح عليه اليوم بالخدمة الاجتماعيّة المدرسية.
3ـ العمل الاجتماعي المدرسي المعاصر:
بدأت ممارسة العمل الاجتماعي المدرسي لأوّل مرّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في المدارس الأهليّة بمدن « بوسطن وهارتفورد ونيويورك» في العام الدراسي 1906 ـ 1907م، كما ـ أدخلت للمدارس الحكوميّة عام 1913 ـ 1914 م وذلك عندما أدرك القائمون على التّعليم أنّ التّلاميذ جميعا لم يستفيدوا من النّظام التّعليمي وفقا لقدراتهم الكاملة، لذا فقد بدأ الاهتمام بتقديم خدمات أضافيّة لهم مثل الخدمات الشّخصيّة والاستعانة بالخدمة الاجتماعيّة لمساعدة الطّلاب الذين يعانون من صعوبات معينة تحول دون استفادتهم الكاملة ممّا تقدّمه المدرسة لهم من برامج تعليميّة(7)‏.
فالخدمة الاجتماعيّة المدرسيّة بمفهومها الحديث تجاوزت توفير البنيات التّعليميّة وتغطية الحاجيّات المادّية للعمليّة التّعليميّة إلى المساهمة في بناء الطّالب من النّاحية النّفسيّة والتّربويّة، لتأهيله للاندماج في مجتمعه في مرحلة لاحقة وذلك من خلال ما يلي:
1. إكساب الطّالب مجموعة من القيم والاتجاهات الصّالحة مثل الخير والعطاء والتّضامن والتّعاون.. و يبقى أهم طريق لاكتساب هذه القيم الصّالحة هو العمل الاجتماعي باعتباره نوعا من المران الذي يحمل النّفس على الاتصاف بهذه الأخلاق الحميدة؛ 
يقول في ذلك الإمام الغزالي: « اكتساب هذه الأخلاق –يقصد الأخلاق الحميدة – بالمجاهدة والرّياضة، وأعني به حمل النّفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب. فمن أراد مثلا أن يحصل لنفسه خلق الجود فطريقه أن يتكلّف تعاطي فعل الجود وهو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه ويواضب عليه تكلفا مجاهدا نفسه فيه حتّى يصير ذلك طبعا له ويتيسّر عليه فيصير به جوّادا...وجميع الأخلاق المحمودة شرعا تحصل بهذه الطّريقة. وغايته أن يصير الفعل الصّادر منه لذيذا، فالسّخي هو الذي يستلذّ بذل المال الذي يبذله دون الذي يبذله عن كراهة»(8)‏.
2. تنمية روح التّعاون والعمل الجماعي بروح الفريق، وتعزيز الإيمان بالأهداف المشتركة على اعتبار أنّ العمل الاجتماعي هو بطبعه عمل تضامني وتعاوني تذوب فيه المصالح الفرديّة في المصالح المشتركة، فالعمل الاجتماعي قائم على «أساس المواساة بين أفراد الأمّة الخادمة لمعنى الأخوّة، فهي مصلحة حاجية جليلة وأثر خلق إسلامي جميل، فيها حصلت مساعدة المعوزين واغتناء المقترين وإقامة الجمّ من المصالح»(9)‏.
3. تنمية القدرات الفكريّة وبعض المهارات اليدويّة والفنّية من خلال إدماج الطّالب في مواجهة المشاكل سواء في ذاته أوفي محيطه بشكل جماعي وتعاوني، مما ينتج مجموعة من القيادات القادرة على التّأثير الايجابي في الحياة المدرسيّة وفي المجتمع ككل .
4. المساهمة في التّنمية الاجتماعيّة للحياة المدرسيّة « ويقصد بذلك توفير الجوّ الاجتماعي المناسب في المدرسة الذي يتّسم بالتّفاعل الايجابي بين الطّلاب، وينظّم العلاقات والخدمات المتبادلة بين المدرسة والبيئة والمجتمع»(10)‏.
5. زيادة التّحصيل الدّراسي والرّفع من فاعليّة التّعليم، ويعتبر هذا الهدف أهم هدف لأنّ « العمليّة التّعليميّة من أبرز وظائف المدرسة، ولذلك من أهم أهداف الخدمة الاجتماعيّة المدرسيّة أن تتعاون مع المدرسة قي تحقيق هذا الهدف ـ أي رفع جودة التّعلمات كما وكيفا» (11)‏ وذلك من خلال توفير الظروف المناسبة في محيط  الطّالب والمساعدة على التّحصيل الدّراسي، ومعالجة المشاكل النّفسيّة والتّربويّة المعيقة للعمليّة التّعليميّة التّعلّميّة، وتعزيز قوّة انتماء الطّالب للمؤسّسة التّعليميّة ..
هذه الأهداف من بين أخرى تبرز دور العمل الاجتماعي المدرسي وأهميته، ولعلّ هذه الأهمّية هي التي جعلت بعض الدّول العربيّة تهتمّ بهذا المجال حيث دخل العمل الاجتماعي المدرسي لأوّل مرّة إلى مصر سنة 1949 على يد وزير المعارف آنذاك «طه حسين»، الذي أدخل الأخصائيّين الاجتماعيّين إلى المؤسّسات التّعليميّة لتخفيف العبء عن المدرّسين بالإشراف على التّلاميذ من النّاحية الإداريّة والمتابعة التّربويّة والاجتماعيّة .. فبدأ ذلك في المدارس الثّانويّة ثمّ دخلت بعد ذلك إلى المرحلة الإعداديّة وأعقب ذلك دخولها إلى المعاهد العليا والجامعات، وأخيرا امتدت إلى المرحلة الابتدائيّة (12)‏. 
ومن التّجارب العربيّة الرّائدة في هذا المجال تجربة سلطنة عُمان من حيث إشراك مؤسّسات المجتمع المدني / الأهلي في إدارة المؤسّسات التّعليميّة على اختلاف مستوياتها(المدرسة، والولاية، والمنطقة والوزارة). فقد قامت المناطق التّعليمة بتنفيذ العديد من المشاريع والتّجارب التّربويّة التي هدفت إلى إشراك المجتمع في إدارة المؤسّسات التّعليميّة ومنها: مشروع الهاتف التّعليمي، مشروع القراءة للجميع، مشروع أيّام التّكافل الاجتماعي، مشروع طالب المهنة، مشروع ولاية بلا أمّية، ومشروع الزّيارات المسائيّة للمنازل...
4 ـ العمل الاجتماعي المدرسي في المغرب :
في المغرب ظلّ  العمل الاجتماعي المدرسي مرتبطا بمبادرات المجتمع المدني داخل القطاع التّعليمي الذي لم يستطع أن يتجاوز المنهج التّقليدي في أسلوبه منذ الاستقلال وحتّى اليوم، حيث بقي بعيدا عن انتظارات المجتمع وعن الدّور الإيجابي إزاء الإصلاح المنشود، بل إنّ المبادرات المحتشمة للجمعيّات العاملة في هذا القطاع (كجمعيات الآباء – جمعيّات قدماء التّلاميذ – التّعاون المدرسي – الجمعيّات الرّياضيّة-...الخ). تكلّل بالفشل في بعض الأحيان وبالنّتائج الضّعيفة والمتردّية في أحيان أخرى، وإنّما الواقع يوضح بجلاء أنّ هذا المجتمع المدني الذي يحاول الدّخول في غمار هذه التّجربة لا يتأتّى أكلها في الكثير من الوقائع والأحداث .
ورغم أنّ المجتمع المدني في القطاع المدرسي حاول تثبيت مبادراته من خلال الاكتفاء بالعمل الاجتماعي أوالبيئي... ثم ّمحاولا التّوسّع قدر الإمكان في وضع أهداف ترمي إلى الدّفاع عن المدرسة الوطنيّة والدّفاع عن المدرّس والطّفل وعن العمليّة التّعليميّة عموما، إلاّ أنّ محاولاته هذه كانت بدون جدوى لأنّها اصطدمت بغموض الأهداف التي رسمها من قبل، بالإضافة إلى انعدام كفاءات مهتمة بمجال التّربية والتّعليم والمعرفة التّعليميّة ولها دراية بالعمل الجمعوي، ممّا جعل التّخبّط في العمل سيّد الموقف غالبا .
وكان من المفروض خلق علاقة دقيقة ومتبادلة بين المجتمع المدني والمدرسة الوطنيّة من أجل خدمة المصالح العليا للمجتمع الذي يعتبر الطّفل أحد أعمدته على غرار العلاقة الطّبيعيّة التي تربط بين الطّفل ومدرسه والطّفل وفضاء احتضانه/المدرسة.
فتطوّر العلاقة بين الجمعيّات العاملة في القطاع وبين مكوّنات المدرسة الوطنيّة تبعا للحاجات المتطوّرة للطّرفين، مرتبط بضرورة تفعيل هذا التّبادل أكثر حتّى يتسنّى لكلّ الأطراف العمل في حرّية وتلقائيّة هادفة. فالتّأثير والتّأثّر بين طرفي هذه العلاقة يقوداننا إلى  نتائج مهمة ومتقدمة تساعدنا جميعا بعد ذلك على شق طريق التغيير وتحقيق الإصلاح المطلوب في هذا القطاع وزرع ثقافة الهوية المعبرة عن الصدق والشفافية. ووضع برامج فعالة للرقي بوضع التربية والتعليم ببلادنا. 
ولعلّ من الأسباب الرّئيسة للأزمة التّربويّة هو فشل النّظام الاجتماعي في معرفة كيفيّة ربط مؤسّساته المجتمعيّة المختلفة الرّسميّة وغير الرّسميّة بالمتغيّرات المعاصرة التي طرأت على المجتمع، ممّا انعكس سلباً على دور المؤسّسات التّربويّة والتّعليميّة وشلّ حركتها في التّطوّر التّنموي الشّامل. ومن أمثلة ذلك عزوف أولياء الأمور عن المشاركة الفاعلة، وضعف كثير من مؤسسات المجتمع المدني وتنظيماته في تأدية دورها الذي أصبح نمطاً تقليدياً لا يمثل أي عنصر قوة  ضاغطة لتفعيل المؤسسات التربوية.
ولم تستطع الوزارة أن تملأ هذا الفراغ الذي أحدثه ضعف إسهام المجتمع المدني في العمل الاجتماعي المدرسي حيث إلى يومنا هذا لم يأخذ القرار بإدماج العمل الاجتماعي في المنظومة التّعليميّة سواء كمادّة معرفيّة مستقلّة عن المواد والتّخصّصات الأخرى، أوكوسيلة للدّعم النّفسي والتّربوي للتّلاميذ والطّلبة من خلال تعيين مساعدين اجتماعيّين بالمؤسّسات التّعليميّة أو من خلال إنشاء نوادٍ للعمل الاجتماعي المدرسي.
هذا الأمر يفوت على منظومتنا التّعليميّة وسيلة مهمّة يمكن أن تساعد في تجاوز كثير من الإشكالات التي تعاني منها  هذه المنظومة.
الهوامش
(1)   سورة القلم - الآية 1
(2)   سورة المجادلة - الآية 11
(3)   أبو حامد  الغزالي، إحياء علوم الدين ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 1986، بيروت .ج1ص23.
(4) الشيخ بدر الدين عبد الله الكتاني الشافعي ،  تذكرة السامع  والمتكلم في آداب العلم والمتعلم ، مكتبة ابن عباس الطبعة الاولى 1425هـ/ 2005م ، جمهورية مصر العربية .ص 171.
(5) عبد الهادي التازي ، في تاريخ المغرب :جامع القرويين ، دار النشر المعرفة الطبعة الثانية 2000  – الرباط – المغرب ، المجلد الأول ، ص 11. 
(6) عبد الهادي التازي ، المرجع السابق ، ص 11.
(7)  طلعت مصطفى السروجي، الخدمة الاجتماعية ،265,
(8) احياء علوم الدين .ج 3 ص 63.
(9) نفسه ، ص 187.
(10) طلعت مصطفى السروجي، الخدمة الاجتماعية ، مكتبة الجامعة الحديثة ، 2009 الاسكندرية، ص 269.
(11) طلعت مصطفى ، المرجع السابق ، ص 269.
(12) ماهر أبو المعاطي علي ، نماذج تعليم وممارسة المهنة في الدول العربية، القاهرة ، النهضة المصرية، 2002م، ص 265,