وبعد

بقلم
طه كعنيش
الامتحانات المدرّسيّة بتونس بين جدل المعياريّة وزبونيّة الممارسة (2/2)
 تعرّضنا في الحلقة السّابقة بالعدد 179، إلى أنّ الامتحانات المدرسيّة بالسّياق التّونسي طغى على وظائفها البعد الجزائي. وحتّى بعد تحوّل التّقييم من تقليدي إلى معياري في ظلّ مقاربة التّعلم بالكفايات لتقدير مدى تحقق الكفاءات في ضوء ما يتحدّد من أداء، باعتماد معايير ومؤشرات... ظلّ المقصد من الاختبار إحصاء نسب التّملك الأدنى وما دونه والأقصى وما فوقه من تمّيّز.. ولم تهتمّ المنظومة كثيرا بتقصّي التّعثر وأسبابه وتمحيص الاشكاليّات والنّقائص مما فاقم الرّسوب والتّسرب المدرسي منذ التحاق المتعلم بالإعداديّة. ونظرا لترّدي الخدمات وارتفاع كلفة التّلميذ على المجموعة الوطنيّة، شاعت فكرة تعميم النّجاح المدرّسي. 
وتطرّقنا لعنصرين: فالعنصر الأوّل هو الامتحان ضمن مدوّنة التّقييم فتحدثنا عنه مصابا بداء الانفصام بين ما هو مأمول من المؤسسة بلوغه و ما هو معاين من أضرب التّلبيس في النّواتج المعرفيّة المتحقّقة و ترويج وهم التّفوق لدى غير المؤهلين، وبما حال دون تحويل التّحصيل الأدنى (الفشل) إلى فرص متجددة لتحسين القدرات. 
وكان اهتمامنا في العنصر الثّاني بالمعياريّة. فبدل أن تنكبّ المعياريّة على إبراز قدرات التّلميذ الحقيقيّة وفي تشخيص تقدّمه واستعداداته للتّحسّن والبحث عن كلّ ما هو أصيل في الارتقاء بتفكير النّاشئة بالابتدائي والثانوي، انحشرت المعياريّة في الجدل عن المعدّلات والرّتب النّهائيّة فلا يدرك النّاجح دلالة عتبات التّميّز و لا شروطها ولا يعرف المتعلّم الرّاسب لماذا رسب و أسعف غيره و لا كيف سيتمكن من تملك ما فاته ليتفادى رسوبا آخر، والحال أنّ أنظمة تربويّة دوليّة تعيد النّظر في الامتحان وتمنع الرّسوب قانونيّا، على ضرب من التّكريس لمفهوم «مدرسة المواطنة». 
لم تستثمر الامتحانات المدرّسيّة في تطوير التّكوين وانعكست سلبا على نفسيّة المتعلّم، بل لقد دفعَ هاجسُ تدنّي المخرجات إلى تعديل مكوّنات البرامج المدرّسة تباعا في مجالات التّعلّم في الجوانب المضمونيّة، بما يضمن نجاح الممتحن بأعداد متكيّفة اصطناعيّا مع المقاسات المترهّلة للطلاّب. فتقوّض تطوير المبادرات، وأجهض صقل مواهب المتمدرسيــن وفقد الامتحان صلته بمتطلبات الواقع المهاريّة وعالم الشّغل والحياة وسبل تأهيل المجتمع للغد... وذلك مناكف للبيداغوجيا الجديدة.
وبعد أن كنّا أشرنا إلى الزّبونيّة كعنوان مرتبط بالتّقييم أحد تمظهراته تضخيم أعداد المراقبة المستمرة، والأشغال التّطبيقيّة و إنجاز دروس مكثّفة في وقت قصير لتدارك النّقص الحاصل في اكتساب المقرر...الخ  نتعرّض في هذا الجزء الثّاني والأخير إلى تحليل الزّبونيّة متغلغلة في المفاصل المنظوميّة المهيكلة لعمليّة التّعلّم منتهين إلى وضع إشارات عن معالم التّقييم البديل .
III- مظاهر الزبونيّة في ممارسة التّقييم: 
1-III زبونيّة الممارسة كخيار منظومي:
عندما استبدل السّياسيّون خطأ شعار «الحق في التّعليم» بـ «الحقّ في النّجاح» اعتمد النّظام السّابق – كما اللاّحق- أسلوب رشوة المواطنين بتمكينهم من الالتحاق بالتّعليم العالي من دون بذل المجهود الضّروري للتّعلم وكسب المعارف والمهارات. وقد نتكشف على حقائق في المستقبل تبيّن إن كانت هذه الخطّة لتمكين الطّلبة من النّجاح هي مجرّد هبة وتكرّم من الدّولة أم خطّة محكمة غايتها تسطيح العمليّة التّقييميّة والتّعليميّة وتفريغها من محتواها. فقد اكتفى النّظام السّابق بمحاولة زيادة عدد الطّلبة بالتّعليم العالي حتّى يمنّ على المجتمع التّونسي بذلك ويضمن انصياعهم  بالانخراط أو الصّمت عن الرّهان المعلن في التّأكيد - بمختلف المراحل من التّعليم الابتدائي إلى التّعليم العالي- على الكمّ بدل الكيف وعجزت المنظومة في أن تُخرّج أجيالا من الطّلبة بالجودة المرجوة للنّهوض بالتّنميّة وضمان الاستقرار والتّقدم لهم ولمجتمعهم.
والآن وقد تحوّلت المدرّسة من تشكيل النّخب إلى آليّة لتعميم النّجاح،(سنّ الارتقاء الآلي في الابتدائي لسنوات، وتعميم بيداغوجيا النّجاح بإسعاف من لا يستحق)، فمعنى ذلك استعارة المنظومة لأوهام بيداغوجيا الامتياز والتّقدّم بمنطق لا علاقة له بملامح الخريج ولا بالرّهانات المطروحة على المدرسة وعلى كاهل المنظومة التّربويّة بكامل تفريعاتها.
2-III  زبونيّة الممارسة كخيار آمن لسير الامتحان:
الخلط يتمّ في مستوى مقاييس التّفوق بعدم تمييز الفرق بين الدّرجة المعياريّة والدّرجة الامتحانيّة، بجعل الذين تفوّقوا في الدّرجة الامتحانيّة كمن تفوّقوا في الدّرجة المعياريّة. والحقيقة قد تكون على العكس من ذلك. والدّرجة المعياريّة أهمّ. والاختبار الامتحاني قد يفضي إلى نجاحهم جميعا مع الحصول على درجات عاليّة أو عجز جميعهم عن الحصول حتّى على الحدّ الأدنى من الدّرجات لأنّ الامتحان لم يبن على معايير أصيلة وإنّما وضع بين حدّي السّهولة غير المبرّرة أو الصّعوبة غير المقنّنة..  وإذن فإنّ الدّرجة المعياريّة قد تشير الى أنّ متعلّما غير متفوّق في الامتحان عند مدرّس أوّل هو أفضل من متعلّمين أخر عند مدرّس ثان ولو حصلوا على أعلى الدّرجات في الامتحان ، لأنّ امتحان المعلّم الأول كان أصعب من امتحان المعلم الثّاني. والمنظومة بالتّبع تتحكّم في ذلك بما لا يخرج عن دائرة التّوقّعات.
3-III  زبونيّة الممارسة كخيار مناهض للموضوعيّة العلميّة:
إن الدّرجتين المعياريّة والإمتحانيّة قد لا تأخذان بالاعتبار الموقف الّذي يكون فيه المتعلّم حالة الاختبار. فيتحجّر النّظر في الوضع النّفسي للمختبر، وحالة نشاطه خلال الدّراسة لتقديم أفضل ما لديه، وأيضا يهدر الموقف الاعتباري الذي يجعل «الممتحن» يبذل أفضل ما لديه للحصول على درجة التّفوق، عندما يكون مثلا على تحدّ مع أحد كي يحصل على الدّرجة العليا، أو أن يكون على تحدّ لبلوغ الحدّ الأدنى(1) ولكن يشفع التّقييم لصنف ولا يشفع لصنف آخر. فموضوعيّا كيف تتساوى الفرص لدي الصّنفين فلعلّ المتميز إمتحانيا أن لا يصبح متميّزا إمتحانيا ولا معياريا. ولعل المتعلّم المتميز معياريّا وغير المتميّز امتحانيّا أن يصبح متميّزا معياريّا وامتحانيّا  ... هذا بعد الإقرار بأنّ الشكّ  ينبع من التّساؤلات الوجيهة التّي تلحّ على كلّ الأطراف التّي تتدخّل في عمليّة التّقييم من قريب أو بعيد من مثل كيف تتدخّل ذاتيّة المقوّم في بناء الاختبار أو اختياره  له أو عند تصحيحه وإبداء قيمة عدديّة لإنجازات التّلاميذ في مادّة ما ؟
وإلى متى سنظلّ نخفي منزع المدرّس في التّقييم وأساليب التّهيئة له ودرجة استمساكه بالمضمون المدرّس في الاختبار وحجم خبراته في عدم عزل التّقييم عن الأداء المؤصل في المنهاج والمرتبط بالمستوى النّشوئي للمتعلّم، وكيف نرجّح مقدار تمكن المدرّس من الأسس المعتمدة في التّقيّد بشروط صدق الاختبار في ارتباطه بالتّعلّم ومدى توفّره على مواصفات الثّبات والتّمييز ليكون الامتحان وسيلة لا مجرّد تكليف ببناء اختبار وتمريره....
4-III زبونيّة الممارسة كخيار لا أصالة فيه للإنسان المقيَّـَم: 
يتسرّب الشكّ أحيانا في اعتبار بعض الاختبارات المعدّة بالمدارس والمقتبس أو المستوحى بعضها من الكتب التّجاريّة الموازيّة، أداة لتقويم منصف وليس ضربة حظّ أو اتّفاق مضمر لفائدة نظريات «الماركتنغ» المستتر والزبونيّة المغلوبة على أمرها في تسوّل الأحلام للأبناء. ثمّ هل إشكاليّة التّنقيط وتأويل النّقط تعود إلى استعدادات التّلميذ كإنسان متعلّم أو إلى طبيعة المادّة كما هو الحال في مادّة الانتاج الكتابي في التّعليم الابتدائي، أو الفلسفة في الثّانوي؟ وهل التّقييم رضوخ بفعل ما، لرغبات المنظومة في إعلاء شأن بعض المواد والحطّ من بعضها الأخر؟ ما أهميّة تقديس أو تعظيم  الامتحان إذا تغاضت المنظومة عمّا شرّعته من دونيّة بعض المواد الانسانيّة أو عدم وضع ميولات المقوّم الاديولوجيّة والفكريّة تحت محكّ الاختبار؟ وإلى أي حدّ تقع تلك الميولات تحت حدّ السّيطرة وعلى أي أساس تكون محايدة وهل هي واقعيّا وفي ظلّ أزمة الأخلاق كذلك؟ 
إنّ من أخطار الامتحان والتّقييم السّكوت عن المسكوت عنه وهو مهمّ وفي مقدّمته المواقف الشّخصيّة للمقوّم ونظرته للممتحن وتمثّلاته الخاصّة للاختبار، ووضعه المادّي، ومعتقداته حول ما ينتظره المجتمع من التّعليم ...إلخ
 IV-  إشارات نحو معالم التّقييم البديل:
التّقييم الذي  لا يستجيب لرفع ما يعتمل من تحديّات، والتّقييم الذي يجحف في تقسيم المعارف إلى مواد تدريس رئيسيّة وأخرى ثانويّة مهمّشة، يدعو الفاعلين التّربويين إلى مزيد الاهتمام بالمواد غير المعتبرة من قبيل مناهج التّفكير والمنطق والفنون والحرف والموسيقي والمسرح ... فهي مواد مهملة في بعض المنظومات التّربويّة ولكنّها مفيدة لثقافة الابداع والتّعدد والحوار والانفتاح على الآخر، فيحبّذ للمتعلّمين التّعرّف على أعمال تشكيليّة أو مقطوعات موسيقيّة أو فنون أخرى لشعوب إسلاميّة مخالفة له في اللّغة والعادات فيكون ذلك عاملا في خفض منسوب الاحتقان للانتماءات المذهبيّة والفكريّة، ويعمّق التّواصل المتين بين الثّقافات ممّا قد لا يتحقّق في سياقات دينيّة فقهيّة مدرسيّة..
وفي انتظار أن يتكرّس إصلاح جديد، أعتقد أنّه من المهمّ قبل المرور بالمتعلّم  للتّقييم الرّسمي (الامتحان) دعم التّقويم البديل بالنّظر إلى أنّه عمليّة مندمجة في البرنامج الدّراسي أو الوحدة التّعليميّة، وأنّه أحد عناصرها الأساسيّة.
وأولى مرتكزات التّقويم البديل تنويع تقنيات التّقويم باستعمال مقاييس لتعيين مواطن القوّة أو الضّعف في سلوك التّلميذ وأدائه لرصد ما اكتسبه من مهارات ومعارف أي الكفّ عن النّظر للتّقويم في بعده الجزائي.
وثانيها تمكين المنظومة التّربويّة من تمثّل نظام شمولي للتّقويم يأخذ بعين الاعتبار مختلفَ وظائف التّقويم، كالوظائف التّشخيصيّة والتّوجيهيّة وأيضا التّكوينيّة، باعتبارها آليات أساسيّة لتحسين جودة التّعلمات، وبالتّالي الإعداد النّاجع لمختلف المتعلّمين ومساعدتهم على تجاوز اشكاليّاتهم في الاكتساب بما فيها الاشكاليّات المترتبة عن نظام إسناد الأعداد في ارتباطه بطبيعة المادّة حيث لم تعد الأعداد المحرزة في النّتائج تكشف عن استعدادات التّلميذ، والسّقم فيها أن تكون مجرّد انعكاس لميولات المقوّم الفكريّة. 
وثالثها بأن يُقاس الأداء الحقيقي للمتعلّم عند توظيف ما تعلّمه في المواقف العمليّة، وليس مجرد التّحصيل القائم على اختبارات الورقة والقلم، كأن يشتمل شبكة ملاحظة أداء المتعلّم أثناء إنجاز مشروع ومناقشة ممارساته والنّتائج التي توصّل إليها في تحقيق قام به، أو مبادرة اضطلع بها، أوإجراء مقابلات شخصيّة معه لتقديم مدوّناته أو حافظة أوراقه أو إشراكه في إجراء نقد لبحث مقدّم في موضوع معين، أو تقييم إنجازاته السّابقة أو التي هو بصدد استكمالها من عروض شفهيّة وغيرها، أو كفايته في التّقويم الذّاتي في فنّ ما ككتابة المقال أو تقييم تقويم الأقران أثناء إنجاز مشاريع... إلخ 
ورابعها أنّه لا مفرّ من  أن  نأبه للاعتبارات الإنسانيّة والعلميّة والحضاريّة للتّعلم بتشريك علماء النّفس والاجتماع في التّساؤل عن أهميّة وفائدة رسوب التّلميذ إذا لم ينسحب التّقييم على تعرف شخصيّة المختبر ومؤهّلاته وظروف الاختبار وزمنه ومضامينه وكفاياته في مهارات الحياة فضلا عن كفايات المادّة الخصوصيّة أو في محطة ما من اكتسابها، أو كفايات عائلة من المواد (المجال) أو حتّى الكفايات الأفقيّة. 
كلمة الختام
في هذا الخضّم من الطّرح ستوكل أوضاع الامتحان للضّمائر حتّى يستتر عن  مدارسنا مفهوم الزّبونيّة المشهرة أو المقنّعة بأضرب من التّزييف  للنّجاح. النّجاح أو الرّسوب قرار ما كان يُتّخَذ في مدارسنا على معنى الصّدق، بل التّلبيس على المواطن عن المستويات الحقيقيّة للمتعلّمين بناء على تصوّرات غير علميّة وليست دائما صحيحة، أو تفاهمات خفيّة ما يؤكّد على أنّ الفشل والنّجاح ظلّ على مدى عقود قرار المؤسّسة الذي تتّخذه في حالة عجزها عن تمكين التّلميذ من مردود تربوي ناجع...
أخيرا وفي انتظار أن ينبلج صبح تنفيذ خطّة تطوير التّعليم في الوطن العربي(2) للمرور من سياسة تربويّة تركّز على المدخلات إلى سياسة تركّز على النّتائج وجودة المخرجات، وعلى أمل ألاّ يتعثّر مسار الإصلاح التّربوي، وبالرّجاء في أن تنقشع سحابة الامتحانات المدرّسيّة وهواجس الامتحانات الأخرى التي تحيط بالجميع كي لا ينفرط عقد العلوم نحو أحلاف المجهول، قد يكون من المفيد على شرائح بعضها غير مهوس بالحكم وتعنيه القضايا التّربويّة مواصلة الانكباب على طرح الأسئلة دون توقّع إجراءات تحسين في الأمد القريب... 
الهوامش
(1) من الأمثلة أيضا أنّه قد يكون المتعلّم في النّشاط الشفوي بحكم الخجل أو بحكم أنّه لا يجد المنافس له، خاملا بشدّة في الفصل لدرجة انّه يفضل الصّمت على المشاركة فلا يجيب في التّعلّم عن أي سؤال ولكنّه يحصل في الامتحانات على أعلى الدّرجات، ونجد العكس فبعض المتعلّمين يشاركون بفعاليّة في الفصل، ولكنّهم يحصلون على درجات دنيا في الامتحانات، فالصّنفان معياريا متفوقان ،والوقوف بجانبهما متأكد. ولا يتخذ المربون موقفا موحدا في التّعامل مع ميولات  النّاشئة، ويخلطون في تقييم المشاركة والاكتساب وأحيانا  يتخلّى المدرّس في التّعلم عن  متابعة الذين يكونون أفضل معياريا فيترك تطوير مؤهلاتهم، مما يؤثر سلبا على مستواهم .
(2) إنّ خطّة تطوير التّعليم في الوطن العربي هي بحث له صبغة تنفيذيّة كان من أهداف أشغال الملتقى الأول لشبكة الخبراء العرب في تطوير مناهج التّدريس التّي انعقدت بتونس في  17 أفريل 2013