ونفس وما سواها

بقلم
د. سعيد الشبلي
أسرار النّفس البشريّة: قراءة قرآنيّة الحلقة الرابعة : النّفس المطمئنّة
 المثل الثّاني الذي ضربه اللّه تعالى للذين آمنوا لكي يعرّف به الأنفس المؤمنة، هو مثل امرأة فرعون ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾(1)
هنا أيضا عبّر اللّه تعالى بقوله «امرأة فرعون» ولم يقل «زوجة فرعون» لأنّ الزّوجيّة لم تحصل. غير أنّ المانع لم يكن هنا من قبل النّفس، بل كان من قبل الرّوح. فامرأة فرعون تظهر من خلال الآية ومن خلال آيات أخرى امرأة طيّبة حنونا، مؤمنة خاضعة لحكم ربّها. أمّا فرعون فهو مضرب المثل القرآني في الجبروت والطّغيان ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾(2). هو ذا رجل مفسد متجبّر متكبر، علا في الأرض، فعلا بالتّبعيّة على امرأته. وعلوه قد لا يكون ظاهريّا بل باطنيّا بعدم السّكون إليها، ورفض المنطق الزّوجي من أصله، وادعاء التّألّه والأحديّة، ورفض الزّوجيّة التي هي أهمّ حقائق وقوانين الرّحمانيّة. وفي كلمة، لقد أصبح فرعون «الإله» شيطانا من أشدّ شياطين الإنس طغيانا وإجراما، كيف لا وقد بلغ المنتهي بادعائه الألوهيّة والرّبوبيّة: ﴿فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ * فَأَخَذهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ ﴾(3).
إنّ امرأة فرعون أنموذج للنّفس الرّضيّة التّقيّة التي لم يتمّ زواجها من قِبل روح طاهر، فصبرت واتقت واتجهت إلى خالق الرّوح تعالى طالبة أن يبني لها عنده بيتا في الجنّة. والبيت كما نعلم، رمز الزّوجيّة وموطنها.كما طلبت أن ينجّيها اللّه تعالى من فرعون وعمله، وأن ينجّيها من القوم الظّالمين. فقد رفضت حينئذ، أن يقارنها الشّيطان أي فرعون، ولم يكن له منها إلا ّعلاقة المساكنة الظّاهريّة الاجتماعيّة الشّكليّة، أمّا في الباطن، فهي نفس عذراء قانتة لربّها، منتظرة لوعده الذي سيهبها من كرمه وسيزوّجها بمن شاء من عبيده المكرمين الأطهار، وهو تعالى على كلّ شيء قدير. 
ولقد يزداد هذا المعنــى توضّحا عندمــا نتبيّن أنّ العلاقة بين فرعون وامرأته لم تثمر أطفالا، وفي ذلك إشارة قرآنيّة عميقة إلى أنّ فرعون كائــن عقيم. كيف لا وهو شيطان رجيــم من أسوأ الشّياطين. يدلّنا على عقم فرعـــون قول امرأتــه له لمّا عثرا على موسى عليه السّـلام، بعد إذ حمله اليـمّ إليهمــا:﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ، لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾(4)                                                                                                                                                                                                                                                           
يتبين من المثلين السّالفين عديد الحقائق الأساسيّة والخطيرة بشأن النّفس الإنسانيّة: 
فأولا: إنّ النّفس الإنسانيّة محلّ قابل لفعل الرّوح أو فعل الشّيطان. وهي في حال كونها منفعلة قابلة، تعبّر عن الحقيقة الأصيلة العبديّة للإنسان ولكلّ مخلوق على الجملة. فكلّ مخلوق هو منفعل بالضّرورة، وهو محلّ بما هو مصنوع مخلوق مبني من قبل ربّه تعالى. ولذلك كان الإنسان في جوهره  نفسا قبل أن يكون روحا. ولذلك قال تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰاحِدَةٍ﴾(5).
فالإنسان أصلا هو نفس ذكرا كان أم أنثى، أي أنّه مخلوق قابل منفعل، متأثّر، عَدَمٌ بالأصالة، وليس وجودا إلّا بإيجاد ربّه له تعالى، قال اللّه لزكرياء لمّا استغرب كيف يهبه اللّه الابن وهو عقيم وامرأته عاقر:﴿قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾(6). 
والإنسان بما هو نفس، أي بما هو عبد للّه مخلوق من قِبَله، هو واحد في أوصافه، متّحد في حقائقه. فالعبوديّة حقيقة الإنسان ذكرا كان أم أنثى. ولا تغيير البتّة في الأوصاف العبديّة الموضوعيّة التي تتجاوز قدرات الإنسان. إنّها المعطيات الأولى لمعنى الوجود الإنساني وحقيقته. ولذلك كانت النّفس الواحدة التي خلق اللّه النّاس منها هي الجسد. فهي جسد واحد عبدي مخلوق مسوّى من قبل اللّه تعالى أظهر فيه عجيب صنعه وغرائب تركيبه، وقدّر فيه أقواته، وبنى فيه وشيد وزخرف ونجّد، فجاء أعجوبة الوجود. هذا الجسد الإنساني الذي تلوّن بكلّ لون، وتزخرف بكلّ زينة، وظهر بكلّ مظهر، وأظهر وأخفى، هو عندي أغرب خلق شهدته إلى اليوم، ولست أدري إن كنت سأشهد أغرب منه في حياتي هذه الفانية مع إيماني أن ما عند اللّه كثير،  وأنّه ما يعلم جنود ربّك إلاّ هو. 
هذا الجسد الذي علمنا اليوم وبفضل اللّه ومن خلال جهود العلماء من خفاياه الكثير، ولعلّ ما خفي أكبر وأغرب، هو عين النّفس التي تتلوّن بألف لون، وتظهر بألف شكل، ولكنّها للعليم، ليست إلاّ نفسا واحدة ولا تحمل إلاّ رسالة واحدة: أنّها أمة اللّه. فالجسد وجود موضوعي بالكامل، صنعه اللّه تعالى وتحكّم في صنعه، وأظهره كما يريد، وأخفى منه وأظهر، وجعل له السّر والعلن، وأنطقه وأنامه، وأضحكه وأبكاه؛ سبحانه جعل فيه القلب والعقل والفرْج ، سبحانه أقام أركانه ورفع بنيانه، وجمع فيه بين أعلى عليين وأسفل سافلين، سبحانه جعله قابلا لأن يكون جنّة الصّالحين، ومأوى للشّياطين، سبحانه تجلّى فيه بجبروته، وظهرت فيه عزّته وأنّه صاحب أسرار الوجود، وأنّه القاهر فوق عباده. فهو آية الآيات وما الإنسان فيه ذرّة في فلاة. فإن شاء أن يكون فيه ضيف اللّه فله ذلك، وإلاّ فهو فيه الأسير والطّريد الشّريد، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
يظهر الجسد كوجود موضوعي مطلق الموضوعية، ليس للإنسان إلا أن يسكنه حيث أسكنه اللّه فيه، وليس له إلاّ أن يقبل بوضعه فيه حيث كرّمه اللّه ورفعه ووضعه في قلب هذه المملكة. وما على الإنسان وقد كرمه اللّه واجتباه، إلاّ أن يلهج صباح مساء بحمد اللّه وشكره، وأن لا يلتفت إلى اليمين ولا إلى الشّمال، بل عليه أن يعبد ربّ الدّار. فإن علم حقيقة الدّار، وأنّها من صنع ربّ أوحد قاهر قهار، قام بالمطلوب، ونفى عنه وهم الرّبوبيّة، وتنحّى عن الادّعاء والقيوميّة، وفهم حقيقة النّفس وأنّها أصلا مخلوقة للّه وليست له، وأنّه لا يملك منها شيئا أصلا، وأنّه إن كان أوجد فيها فإيجاد التّشريف والتّكليف والمنّ والعطاء من قبل اللّه تعالى، فلا يجوز له أن يدّعي الامتلاك لذرّة منها، وإنّما هو بحسب التّعليم القرآني خليفة لا يتصرّف في ملك اللّه إلاّ بأمره وتأييده. وإن تلاعبت به الأوهام، وظنّ أنّ النّفس نفسه، والدّار ملكه، وقام فيها إلها متحكّما، فإنّه حينئذ الشّيطان المارد، والخلق المفسد الفاسد الذي يظنّ أنّه قادر على الدّار، وما هو قادر على شيء أصلا. 
إنّ النفس للّه، وهي إن تغيّرت في التّجلّي فلمزيد الإيهام والإبهام والابتلاء، وللّه أن يبتلي خلقه بما شاء هو الملك الحكم العدل لا راد لحكمه. فيتصوّر الغرّ أنّ هذا الجسد الأنثوي أو الأبيض أو الأشيب أو الصّغير...الخ، جسده الخاصّ، بل ويراه بعين الوهم مخالفا لبقيّة الأجساد وما هو للعين البصيرة كذلك. وضمن الرّؤية التّأويليّة العميقة يبرز الجسد هيكلا واحدا ونفسا واحدة هي بيت اللّه تعالى وحرمه الآمن ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾(7). فمن سكنه حيث أسكنه اللّه، نعم فيه بالنّعيم المقيم ﴿وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾(8). ومن تصوّر أنّه قادر عليه، وأنّه مالك للأرض لا يراجع في ذلك أحدا ولا يستشير ولا يعبأ بسلطان فوق سلطانه، لا يلبث أن يتخطّف من الأرض، وأن تحمله الشّياطين إلى أسوأ مكان فيها إلى حمأة الرّذيلة والعهر، وإلى مهاوي العفن وموطن الخبائث، نعوذ باللّه من شرور أنفسنا. فمعنى قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰاحِدَةٍ﴾ أنّ الجسد الإنساني واحد هو مملكة اللّه تعالى، وأنّه وجود موضوعي ليس للإنسان أن يناقشه أصلا، وإنّما هو مسكن يسكنه الإنسان المؤمن راضيا به قانعا بما رزقه اللّه فيه، ويقوم فيه بواجب الاستخلاف كما قرّر اللّه وقدّر. حينئذ ينعم هذا المؤمن بالحياة الطّيبة فلا تنغلق عليه الأرض، ولا يشعر بوطأة ولا بتعب ولا نصب. أمّا من يزعم القيوميّة على نفسه، ودليل ذلك في الظّاهر الزّعم بأنّه صاحب جسده ومالكه والمتصرّف فيه كما يحلو له، فإنّه يتلاعب بملك اللّه المحجّر على اللّعب، وما يتلاعب في الحقيقة إلاّ بنفسه. وهو عندما يتوهّم الحرّية ويدّعي امتلاك جسده ما امتلكه وأنّى له ذلك، وإنّما تلاعب بروحه فحوّلها من مقامها إلى مقام آخر لا علم له به، وذلك معنى الشّرك.  هذا المخلوق البائس الذي يزعم القيوميّة على نفسه لا يعتبر، وإلاّ فهل نحتاج إلى علم كبير لكي نعلم أنّ الجسد يتصرّف بحسب مشيئة خالقه. فهو محييه وهو مميته، وهو مسقمه وشافيه، وهو مذكره ومؤنّثه وهو مضحكه ومبكيه، وهو الذي مدّ ظلّه ولو شاء لجعله ساكنا، سبحانه ظهرت آياته في كلّ شيء.
فإذا صحّ أنّ النفس واحدة، علمنا حينئذ أنّها لا تختلف بالأصالة من إنسان إلى آخر. فالإنسان واحد بالأصل، وإنّما يختلف النّاس بحسب من يزاوجونه ويقارنونه، وهنا نصل إلى الآية الأخيرة من سورة التحريم لتزيدنا توضيحا: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾(9). 
تبرز مريم ابنة عمران كأنموذج صاف واضح للنّفس التي انغلقت على حقائقها الإلهيّة، ورفضت الإضافة إلى ما بنى ربّها وأسّس فيها، وأحصنت فرجها وصدّت عنه الطّامعين الذين يعَِدونها ويتوعّدونها بالأكاذيب والأوهام والخرافات. هاته النّفس التّقيّة النّقيّة التي لم تدّع تألّها في المملكة، بل حفظت السّر وأرخت السّتر، ولم تتلاعب بما حجّر اللّه وبنى، ولم ترض أن تهتك بكارة السّتر والعفّة والإحصان احتراما لحرمات اللّه، جازاها اللّه خير الجزاء بأن زوّجها خير زوج هو روح اللّه تعالى الذي ملأها خصبا ونورا وحياة تجسّدت كلّها في المسيح عيسى ابن مريم روح اللّه وكلمته وعبده. 
تولد الكلمة إذن، عندما تنكح الرّوح نفسا طاهرة، وتكون حينئذ معجزة وآية جديدة من آيات اللّه.
إنّ النّفس التي يقارنها الرّوح يولّدها الكلمة ويخصبها بأسرار اللّه، ويملؤها بأعطياته وإكرامه.
 أمّا النّفس التي تبغي (البغيّ)، وتبرز علامة بغيها عندما تهتك السّتر (البغاء)، فتدل بذلك على التّحكم والتّجاوز لما حدّ اللّه وحرّم ، ولذلك جاءت هذه الآيات البيّنات في سورة التّحريم. هذه النّفس حريّة بأن تحرم النّجاة، وجديرة بأن تكون زوج أوّل شيطان،  وعندما يقارن الشّيطان النّفس فإنّه لا يرعى فيها إلاًّ ولا ذمّة، إنّه حينئذ يفرض عليها عريا مطلقا تبرز فيه كلّ سوءاتها، ويدخل عليها كلّ الزناة والعتاة فيطمع فيها أتعس الخلق، فتصبح أنموذجا للشّقاء وأمة للعبيد، وكانت قادرة على أن تكون في منعة وحصانة.
الهوامش
(1) سورة التحريم - الآية 11 
(2) سورة القصص - الآية  4
(3)  سورة النازعات - من الآية 23 إلى الآية 26
(4) سورة القصص - الآية  9. نحن لا نجزم أن امرأة فرعون المؤمنة هي نفسها التي ربّت موسى عليه السّلام وأشفقت عليه، فالفراعنة كثيرون. إلاّ أنّ سياق التّأويل يتلاءم مع هذا التّحليل ويدعّم هذه المقاربة، فإن كان حقّا فمن فضل اللّه تعالى ومنّه وهدايته، وإن كان خطأ فمنّي، وحسبي أنّي أسوق جهدي هذا كلّه تحت شعار الاجتهاد والمقاربة مع التّسليم للّه سبحانه بأنّ العلم له وحده.
(5) سورة الأعراف  - الآية 189
(6) سورة مريم  - الآية 9
(7) سورة آل عمران - الآية 97
(8) سورة القصص - الآيتان 57 - 58
(9) سورة التحريم  - الآية 12