ترنيمات

بقلم
رفيق الشاهد
هل تقبلوني ضيفا عاريًا تمامًا ؟
 نعم! هل تقبلوني ضيفا عاريًا؟ لا تستغربوا، هي دعوة لنفسه علّقها «أحمد» على جداره الفيسبوكي لحضور حوار إذاعي أو تلفزي بإحدى القنوات التّونسيّة وطنيّة كانت أو خاصّة قائلا:«هل من قناة تقبل بضيافتي للحديث كمواطن عار تمام من كلّ الالتزامات المهنيّة والوظائف السّياسيّة والمجتمعيّة والهيئات الدّستوريّة، ومن كلّ ما يمكن أن يميّزني غير المواطنة؟»
وفي توضيح آخر : «أي أن تتقبّلوني ‏‏كما أنا عاريا إلاّ من الحياء، متستّرا برداء المواطنة دون سواه. لن أكون بحضوركم لا رجلا ولا امرأة، لا مسنّا ولا طفلا وبلا لون ولا دين ولا رابطة لفئة ولا لجهة، ولن أمثّل قطاعا مهنيّا ولا سلكا ولا حركة ولا حزبا، ولا منتميا لأيّ هيكل نقابي ولا مهني محدّد. سأكون أنا ذلك المواطن التّونسي لا غير. ومثلي كثيرون يُعدّون باثني عشر مليونا». 
«أحمد» ذكيّ ويهتم مثل العديد من التّونسيين بالشّأن العام ويتابع الأخبار والمنابر الإعلاميّة باهتمام شديد لعلّه يفهم ما يحدث في بلاده والبلاد العربيّة وما حولها من تحوّلات أصبحت تتوالى بوتيرة عالية يصعب على المختصّين والسّياسيين أنفسهم تكهّن نتائجها ومآلها. 
أمام تضارب الأخبار بين زائفة وحقيقيّة، ازدهر الإعلام الذي فقد عذريّة النّزاهة وأصبح لا يهمّه أن يتخبّط «أحمد» وغيره في الضّبابيّة المعتّمة. 
كلمــا قـام في البــلاد خطيب *** موقظ شعبه يبغي صلاحــه
اخمدوا صوته الالهي بالعسف *** أماتــوا صداحــه ونواحــه
هكذا على لسان «أبي القاسم الشّابي»، كلّما اراد أحد قدّيسي الإعلام التّخفيف من حدّة العتمة باستضافة شخصيّات بصفتها السّياسيّة أو الوظيفيّة ومسؤوليتها بإحدى الهيئات أو أحد الأحزاب، وتسليط بعض الأضواء لتوضيح ما هو غامض، فإذا بهذه الشّخصيّات تنزع ملابسها الواحد تلو الآخر على أنغام رقص التّعرّي وهي موضة جديدة أصبحت تتفاخر بها القنوات التّلفزيّة التّجاريّة. ولكنّ هؤلاء لا يصلون الى النّهاية، لأنّ العري في نظرهم عار، ونسوا أنّ التّعرّي أفظع من العريّ نفسه، فلم ينجحوا لا في الإثارة ولا في الإقناع، ولم يخلفوا وراءهم بعد خروجهم إلاّ الاستياء.
رمى «أحمد» صنّارته وطعّم الشّصّ بالعراء التّام لعلّه يعلق بصحفي فطن ذكي يصطاد الفرص ويلهث وراء السّبق الصّحفي. ها قد أغراه وفي ظنّ أنّه سيجازى منه إن وقع، حيث سيكون أفضل وأصدق من كلّ من سبقوه وتمّت محاورتهم. سينقذ حواره الذي سيدعى اليه دون شكّ، القناة التي ستستضيفه من تدنّي مستوى مشاهدتها. وأمكنه أن يستشعر نجاح الحصّة من عنوانها «الضّيف العاري تماما» الذي يتوقّع الاعلان عنه في ومضات إشهاريّة تتردّد لعدّة أسابيع.
بقي «أحمد» يترصّد حركة القصبة التي نصبها بكل حذر وصبر. وفي يوم من الأيام اهتزّت قصبة صنّارته التي لم يتخلّ عنها اعتقادا منه لا في نزاهة الإعلام وصدق الاعلاميين لأنّ الصّادقين منهم -مع الاسف- قليلون ولكنّه عوّل على ركوضهم خلف الإثارة، فزوّقها وجمّلها وجعلها جذّابة  تتبختر جيئة وذهابا على حافة الطّريق، تُوزع على من اهتم الدّلال بالغمز وبالمفضوح . 
تلقّى مكالمة أولى وثانية فثالثة وتلتها لقاءات وحديث وترتيبات طالت أشهر عديدة وولد المشروع بعسر وخرج الإعلان الأوّل بالحلقة المثيرة للجدل باستضافة الرّجل العاري تماما وأعيد نشره بانتظام في ساعات الذّروة وتداولت الخبر الصّحف والمجلاّت بالرّيبة والاستنكار، وتضاربت الأفكار واحتدت بين الفيسبوكيين لمعرفة هذه الشّخصيّة الوقحة والمثيرة للغضب والاستهجان. وكلّ يوم ترتفع على الشّبكة وتيرة الاستنكار وحدّتها ويعلو نسق التّهديد والوعيد والدّعوة الى التّظاهر. وقبل يومين من موعد الحلقة ومع تواصل بثّ إعلان الإشهار في أوقاته المعتادة، اجتمع نفر من المحتجّين، وبدأ عددهم يتزايد الى أن أصبحت مظاهرة اختلف تعداد المشاركين فيها بين الشّرذمة والآلاف بحسب مصدر الخبر. 
وأخيرا لا يعرف «أحمد» إن كان قد اصطاد هذا الصّحفي أو هو الذي اصطاده ليجعل كلّ منهما الآخر  في ورطة وحدهما يتوقّعان مداها. ووجد «أحمد» نفسه في مكتب الصّحفي يطمئنه ويؤكّد له نسبة المشاهدة القياسيّة المنتظرة. كما هنّأه مسبقا بالنّجاح بعد ما شوهد من تجييش للرّأي العام حتّى أصبح الحدث «استضافة الرّجل العاري تماما» شأنا عامّا لا يستثني أحدا. العري والحياء خبزنا اليومي يقتات منه الجميع.
تقدّم «أحمد» يشقّ الصّفوف دون عناء لدخول مقرّ القناة وسط هيجان المتظاهرين المتسلّحين بهواتفهم الجوّالة لتسجيل الحضور ونقل ما يستجدّ من أحداث مثيرة أملهم أن يتعرّف كلّ منهم  على الضّيف العاري قبل الآخرين، وأن يكون هذا العاري من الوجوه المألوفة. وما إن وصل الى مكتب الاستقبال وقد عرّف بنفسه وشوشة، اصطحبه أحد الأعوان على جناح السّرعة إلى الكواليس ليتعهّد به فريق الاعداد الذين يبدو أنّهم تعوّدوا على سرعة التعامل مع الضيوف على اختلاف أمزجتهم وبين فرشة المساحيق والتنبيهات بان يفعل كذا وان لا ينسى كذا ونداءات الاستعجال، كان «أحمد» بين أيدي المضيّفين والمضيّفات هادئا رصينا كأنّه مصارع أو ملاكم يستعدّ  لاعتلاء الحلبة واثق أنه حتى منتصرا سوف لا يخرج منها دون لكمات وكدمات.
 وعلى سماع إعلان المنشّط والتّرحيب بالضّيف العاري تماما، دخل «أحمد» الى الأستوديو كما تمّ الاتفاق، ووجد نفسه يتطلّع الى الحضور الكثيف والهتافات الضّوضائيّة والتّصفير الهمجي. على الشّاشة بدا «أحمد» كاملا عاريا في صورة ملأت الشّاشة بدائرة ضبابيّة رُكّزت حول عورته. مرّت أمام عينيه بسرعة على شاشة ضوئيّة أخرى رفعها أحد المعاونين تعرض أرقاما ضوئيّة حمراء عددها سبعة بل ثمانيّة، لم يتمّكن من قراءة هذا العدد القياسي لمشاهدي القناة على المباشر. 
جلس واستمع إلى حزمة الأسئلة التي طرحها المنشّط جملة واحدة كما اشترط «أحمد» منذ التّفاوض. أبدى اهتماما كبيرا عند الاستماع، وما أن أتمّ المنشّط أسئلته وأعطى للضّيف الكلمة، نزل «أحمد» من كرسيّه العالي وخرج من الاستوديو كما دخل، وعلى الشّاشة بدائرته الضّبابيّة يغادر المنصّة كما اتفق له دون أن ينطق بكلمة.