شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
د. المهدي المنجرة
 في الثّالث عشر من هذا الشّهر تحلّ الذّكرى الثّامنة لوفاة ضيفنا الذي يعتبر أحد أبرز مفكري الأمّة العربيّة الإسلاميّة في العصر الحديث وأحد أكبر المراجع العربيّة والدّوليّة في القضايا السّياسيّة والعلاقات الدّوليّة والدّراسات المستقبليّة. ارتقى إلى العالميّة وأصبح مفكّرا كونيّا إنسانيّا بعد اعتراف أشهر المفكّرين الأمريكيّين المعاصرين «صامويل هنتغتون» بأنّه قد سبقه إلى اكتشاف مفهوم «الحرب الحضاريّة»وهو مصطلح من المصطلحات الفكريّة التي غدت حاضرة بكثافة في كتابات وبحوث علماء الاجتماع والسّياسة والعلاقات الدّوليّة منذ تسعينات القرن الماضي. 
ومع علوّ كعبه في اختصاصه، فقد كان نموذجا للمثقّف العضوي المنخرط في المجتمع بمواقفه وآرائه. تبنّى القضايا المناهضة للعنف والإقصاء والتكبّر واستعباد الناس ودافع عنها واشتهر بدفاعه المستميت عن القيم الإنسانيّة وقضايا الشّعوب المقهورة وحرّياتها، إلى جانب مناهضته للصّهيونيّة ورفضه للتّطبيع، وسخّر كتاباته لمحاربة ما أسماه بـ «العولمة الجشعة». إنّه العالم المغربي «المهدي منجرة» الذي غادرنا عن سنّ يناهز 81 عاما  بعد معاناة طويلة مع المرض.
ولد «المهدي» سنة 1933م بالرباط في أسرة ترتبط أصولها بالسعديين ونشأ في بيت (اليوم مقر لحزب الاستقلال) ووسط عائلي تطبعه القيم المسلمة والدعوة الإصلاحية، إذ كان محيطه من الرجالات الوطنية والدعوة الإصلاحية مثل الفقية محمد بلعربي العلوي الذي كان صديقا لوالده فاحتك الطفل في سنواته الأولى بعالم الوطنية، ورافق والده إلى دار جده المريني حيث كانت تجرى الاجتماعات التي يقيمها العلماء.
بعد أن أنهى دراسته الابتدائيّة والثانوية التي لم تخل من المصادمات مع المسؤولين الفرنسيين بسبب معاداته الاستعمار، سافر إلى الولايات التحدة الأمريكيّة ليتلقى دراسته الجامعية في البيولوجيا والكيمياء بجامعة « كورنيل». غير أن ميولاته السياسية والاجتماعية دفعته إلى المزاوجة بين دراسته العلمية من جهة، والعلوم الاجتماعية والسياسية من جهة ثانية، فدرس العلوم السياسية وحصل على الإجازة فيها وفتحت إقامته بأمريكا عينيه على العمل الوطني والقومي. ومن هذا المنطلق كان انشغاله بمكتب الجزائر والمغرب بالأمم المتحدة، كما تحمل رئاسة رابطة الطلاب العرب. وبعد حصوله على الإجازة في البيولوجية والعلوم السياسية، تابع دراسته العليا بإنجلترا وحصل هناك على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية والعلاقات الدولية بجامعة لندن.
المنجرة من الأساتذة المغاربة الأوائل الذين قاموا بتدريس العلوم الاقتصادية والسّياسية بجامعة محمد الخامس بالرّباط منذ سنة 1958، وتقلّد عدّة مناصب مهمّة داخل وخارج المغرب منها تعيينه مستشارا لأوّل بعثة مغربيّة لدى الأمم المتّحدة وتولّيه منصب مدير عام للاذاعة والتّلفزة المغربيّة، وساهم في إحداث الفيدراليّة الدّوليّة للدّراسات المستقبليّة، وأسّس المنظّمة المغربيّة لحقوق الإنسان. كما أسّس أوّل أكاديميّة لعلم المستقبليّات وترأّس الفيدراليّة العالميّة للدّراسات المستقبليّة (1976-1981) ثمّ شغل عضويّة لجنتها التّنفيذيّة، وترأس الجمعيّة الدّولية للمستقبليّات (فوتوريبل)، وشغل عضويّة الجمعيّة المغربيّة للمستقبليّات، والمجلس التّنفيذي للجمعيّة العالميّة للتّنمية (1985-1988)، وأكاديميّة المملكة المغربيّة، والأكاديميّة العالميّة للفنون والعلوم، والأكاديميّة الأفريقيّة للعلوم، والأكاديميّة الأوروبيّة للعلوم والفنون والآداب، والجمعيّة العالميّة للمستقبل، والاتحاد العالمي للمهندسين المعماريين، ومنتدى العالم الثالث، ونائب رئيس جمعيّة الصّداقة بين المغرب واليابان.
ألف «المهدي المنجرة» أكثر من 80 اصدارا وعددا لا يحصى من المقالات والدّراسات في العلوم الاقتصاديّة والسّوسيولوجيا ومختلف قضايا التّنمية، وحاضر في عدد من دول العالم خصوصا في اليابان والولايات المتّحدة، وساهم في إقرار مناهج التّعليم لعدد من الدّول الأوروبية.
اشتهر الرّاحل بكتابته الرّصينة التي قدّم من خلالها مجموعة من الطّروحات والقراءات المستقبليّة للآفاق السياسيّة والاجتماعيّة في العالم العربي الإسلامي، وكان من القلائل الذين تنبؤوا بسقوط بعض الأنظمة العربيّة، وبقيام انتفاضات شعبيّة في بلدان العالم العربي قبل عقدين من الزّمن من حدوث الرّبيع العربي ومن مؤلفاته «نظام الأمم المتّحدة» و«من المهد إلى اللّحد» و«الحرب الحضاريّة الأولى» و«الإهانة في عهد الميغا امبرياليّة». 
ينطلق المهدي المنجرة في أطروحته من مقولة «الضّغط يولّد الانفجار»، ولأنّه كان على يقين من أنّ الشعوب العربية تعيش هوانا وظلما يتجاوز مستوى الاستغلال إلى مستوى الإذلال. ولأنّ الإنسان بطبعه لا يقبل بالذّلّ والاستمرار فيه، فقد تنبّأ بأنّه سيثور لا محالة. ومثلما تنبّأ بحرب الخليج، التي سمّاها الحرب الحضاريّة الأولى، تنبّأ «المهدي المنجرة» بالرّبيع العربي والثّورات العربيّة منذ العام 2006، في كتابه «الانتفاضة في زمن الذّلقراطيّة»، معتبرا أنّ الانتفاضة الفلسطينيّة الثّانية ما هي إلّا مقدمة لانتفاضات عربيّة عامّة وعارمة، سوف تعمّ جميع الدّول ما لم تلجأ إلى الدّيمقراطيّة، باعتبارها نظاما إنسانيّا كونيّا لا محيد عنه. 
لقد ابتكر «المهدي» مفاهيم فكريّة جديدة مثل «الاستعمار الجديد» و«الميغــا-امبرياليّة» وفضح في كتاباته جشع «النّيولبراليّة-الامبرياليّة الجديدة» المتوحّشة، ودافع عن حقّ الشّعوب في التّنمية المستقلّة، وكتب عن نظام دولي منشود يقوم على العدالة والإنصاف والكرامة لكلّ الشّعـوب والمجتمعات. نظام يقوم على بناء الإنسان لأنّ «بناء الإنسان .. يأتي قبل بناء كلّ شيء».