همسة

بقلم
محمد المولدي الداودي
في المدرسة
 -أحيانا الجروح الصغيرة تترك ندوبـا عميقـة وظـلالا من الأحـزان لا تخفى.
 رفعت بصري متأملا وجه صديقي القديم وهمست:
-لم تكن جروحا صغيرة..فقط كنّا صغارا.
كنا صديقين متلازمين لا نفترق إلاّ ليلا أو حين المبيت ..صباحا تأخذنا الطّريق إلى المدرسة متعرّجة متثائبة ككلّ صباحات القرى..نشقّ معا سهولا وهضابا نتّبع سطور الصبّار حتّى إذا بلغنا المدرسة وسمعنا صيحات الحارس نندسّ في جموع التّلاميذ التي جاءت بهم دروب القرية البعيدة وفجاجها.يصفّق الحارس بيديه من بعيد، فيجتمع كلّ التلاميذ في صفّين أمام قسمين تطوّع الرّجال في تلك القرية ببنائهما، فقد خيّر أبناؤهم ممّن سبقوا هذا الجيل الانقطاع بسبب البعد ومشقّة السّير إلى المدارس ..
حين يصطفّ التّلاميذ متباعدين إناثا وذكورا يسير المدير محاذيا للصفوف، فتنحبس الأنفاس في الصّدور، فإذا رأى إعوجاجا قوّمه بصفعة يتبعها تأوه مكتوم، ثمّ يختار فتاة وفتًى من الصّفيّن يرسلهما لدائرة اسمنتيّة يتوسّطها عمود حديدي، ثمّ يأمر الجميع بالنّشيد وعيونه لا تغادر الوجوه تبحث عمّن يتلعثم في القراءة..يرفع التلميذان العلم فإذا استوى في أعلى العمود صفّق الحارس مرّتين، فيستقبل المعلّمان التلاميذ في كلّ قسم.
ندخل القسم ثمّ نتّجه إلى ركن فيه لنختار مقعدين في آخره ثم نجلس، وقبل الانطلاق في الدرس يشرع المعلّم في الطواف بين الصّفوف، فيرفع التّلميذ قبضة يديه مبرزا أظافره وتمرّ قبضة يد المعلّم فوق رأسه، فإذا سمعنا أزيز المقصّ فوق رأس أحدهم علمنا أنّ ضحيّة من ضحايا القسم وقعت بين يديه، فتأخذنا رغبة في الضّحك ولا نضحك خوف بطشه..
كان الطّقس في ذلك اليوم ممطرا غاضبا في شتاء بارد قاس، وفي ذلك الصبّاح دفعتنا الأمّهات إلى المدرسة دفعا ولم نكن نريدها، فالطّريق وحلة والسّير شاقّ ..سرنا في الطّريق نحاذي كروم الصبّار ونتجنّب البرك وخنادق الماء تسيل تغمر الحفر، فلا نراها، وكنّا إذا انزلق أحدنا تمتدّ له يد الآخر تنقذه..ابتلّت ثيابنا وأحذيتنا وكنّا نشعر بالماء والوحل يتسرّب بين أصابع أقدامنا، واشتدّ معها البرد حتّى لا نكاد نحسّ ..طالت الطّريق إلى المدرسة وقلّ الكلام بيننا وإن كان فهو ارتجاف لا يكاد يبين حتّى بلغناها ..الحارس ينهر من قدم من  التّلاميذ ويدفعهم إلى خلع أحذيتهم قبل دخول الأقسام، فتقع الأرجل الصّغيرة على أرضيّة اسمنتيّة مدبّبة لبروز الحصى جامدة باردة، فنرفعها قليلا بعد الجلوس على جانبي الطّاولة، فنشعر ببرودة الحديد القاسية..بدأ المعلّم في طوافه بين الصّفوف يتأمّل الوجوه الشّاردة والأجسام المتلحّفة في بعض من ثياب مبلّلة ما تزال تنزف ماء ..ارتفعت قبضات الأيدي الصّغيرة المرتعشة لا يقدر التّلاميذ على جمعها وتفحّصها المعلّم ثمّ هوت العصا تزيد من الأوجاع، وكان صوت وقوعها على الأصابع مريعا مخيفا ترتجف له الأبدان المرتجفة في الثياب المبللّة..
كنّا نجلس في ذلك الرّكن في المقعد الأخير توقّف قرب صديقي واخترق بيده شعره وهمهم بكلام لا يكاد يسمع ثمّ سمعنا صوت المقصّ يحفر أخدودا غائرا في رأسه ..تساقط الشّعر على أرضيّة القسم وبعض منه على يديّ، ثمّ سمعنا صوته هائجا يأمره بالوقوف..كانت ساقاه ترتجفان وصوته غائب في دموعه ..ما تزال ثيابه تنزف ماء، ومايزال جسده الصّغير يرتجف بردا وخوفا ..وقف يكاد يسقط حين التفت إليه كلّ التلاميذ ورأى في أعينهم إشفاقا كبيرا ..أمره بالتقدّم إلى المصطبة الاسمنتيّة في أوّل القسم ..تعثّرت خطواته وأقدامه الحافية ترسم أشكالا باكية ..نظر إليه ثمّ نظر إلينا جميعا وقال «هذا هو الدرس لهذا اليوم..» ثمّ دفعه نحو الباب يأمره بالخروج..
لا أعلم كيف جمعت قبضتي يدي وألقيت بهما على الطّاولة، فاهتزّ لصوتهما القسم واستدار نحوي مندهشا مستغربا، وسار نحوي مسرعا، فأسرعت نحو الباب وامتلأ القسم ضجيجا، وأطلّ المدير من مكتبه وصار جميع من في المدرسة خارجا، واقتفى الحارس آثارنا ملوّحا بعصاه يتوعّدنا بإعلام عائلتينا..
سرنا في كلّ المسالك نتحاشى النّاس ثمّ جلسنا في مكان بعيد نرقب المدرسة حتى إذا خرج التّلاميذ وساروا في طرق العودة إلى ديارهم عدنا نطلب المغيب، ولم يكن صديقي يحدّثني حديثه وإنّما شغله الصّمت عن الكلام ..كان بيتهم وسطا في القرية وحين بلغناه ودّعته ثمّ أكملت المسير ..في طريقي إلى بيتنا كنت أسمع كلاما وصراخا يرتفع من بيت صديقي وكنت في خلوة من الطّريق فآذنت لوجعي بالبكاء..
صباحا لم أجده كعادته في كلّ يوم ..ناديته ثمّ رفعت الصوت بالنّداء..صوت أمّه الخافت يتعالى من البيت « إنّه مريض لا يقدر على المسير..»
أضحى ذلك الأمر عادة من عاداتي ..أتوقّف قليلا عند بيته، فتجيبني أمّه كعادتها «إنّه مريض لا يقدر على المسير..»
الآن..أعدت النّظر إلى صديقي القديم ..تأمّلت كرسيّه المتحرّك ..رفعت بصري نحو رأسه..الشّعر أبيض خفيف والوجه مملوء بالنّدوب الصّغيرة..
احتضنه كثيرا كثيرا ..
أحيانا الجروح الصّغيرة تترك ندوبا عميقة وظلالا من الأحزان لا تخفى.