نقاط على الحروف

بقلم
جواد أحيوض
قراءةٌ في تحدِّياتِ التّراث بينَ الإقصاءِ والتّكامل: موقف الجابري الفلسفي من أبي حامد الغزالي (4/4)
 خلاصة الموقف الجابري
اتضح إذن موقف الجابري من الغزالي. هذا الموقف الذي ليس في جوهره إلاّ مساندة ابن رشد في هجومه على الغزالي، والاّ كيف نفسّر رفض هذا الأخير للسّباب الذي استعمله الغزالي مع الفلاسفة ليستعمله هو نفسه مع الغزالي!! 
فنعته بالجاهل والشرّير والمبرسم (=علة يُصاب صاحبها بالهذيان)(1)،  بل إلى درجة أنّ ابن رشد، يغضب فيحكم على كتاب «التّهافت» للغزالي، بأنّ أَلْيَقَ لفظٍ يناسب هذا الكتاب هو «التّهافت بإطلاق» الذي يعني في جوهره: أنّ عمل الغزالي كلّه يمكن أن يُضرب في الصِّفر، بهذا المعنى! وهذا يتناقض مع ما التزام به في مقدمة كتابه «تهافت التّهافت» حين قال: «فإنّ الغرض من هذا الكتاب أن نبيّن مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التّهافت لأبي حامد الغزالي، في التّصديق والإقناع، وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان» (2) 
ففي كلامه هذا ما يدل بقولٍ صريح على أنّ كتاب الغزالي فيه نسبة معيّنة ترقى إلى البرهان واليقين. فلماذا إذن هذا الهجوم العنيف؟ وما هي تبريراته؟ علماً أنّ الغزالي حدّد هدفه بدقّة في كتاب التّهافت، بأنّ المقصد منه، «تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة، وظنّ أنّ مسالكهم نقيّة عن التّناقض، ببيان وجوه تهافتهم، فلذلك لا أدخل في الاعتراض عليهم الاّ دخول مطالب منكر لا دخول مدّع مثبت، فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعا بإلزامات مختلفة»(3)، وعيَّنَ الى جانب ذلك المسائل التي يريد إبراز تناقضات الفلاسفة فيها، وذلك من جملة علومهم الالهيّة والطّبيعيّة(4)، وهذا المقصد سرعان ما أعاد الغزالي إبرازه بين دفّتي الكتاب، كلّما قيل له من طرف الفلاسفة: «فقد عولتم في جميع الاعتراضات على مقابلة الإشكالات بالاشكالات» ليجيبهم بهذا الأمر، في أنّ: «المعارضة تبيّن فساد الكلام لا محالة، وينحل وجه الإشكال في تقدير المعارضة والمطالبة. ونحن لم نلتزم في هذا الكتاب إلاّ تكدير مذهبهم، والتّغيير في وجوه أدلّتهم بما يبيّن تهافتهم، ولم نتطرّق للذّب عن مذهب معين، فلم نخرج لذلك عن مقصود الكتاب، ولا نستقصي القول في الأدلّة الدّالة على الحدوث»(5)، وبالتّالي فإنّ اللّوم الذي أُلقي على الغزالي، ليس سوى تحصيل حاصل، أو بعبارة أخرى حكم على فراغ، حيث وُجِّه اليه النّقد على شيء لم يشترطه على نفسه، إذ لا يحقّ مؤاخذة مفكّر ما كيف ما كان نوعه وتوجّهه الاّ من داخل الإطار الذي حدّده لنفسه.
وفوق كلّ هذا، فإنّ لغضب الغزالي وحِدَّة أسلوبه مع الفلاسفة ما يبرّره، ألا وهو الظّرف العصيب الذي كانت تمرّ به الأمّة الإسلاميّة، حيث كان التّمزّق على المستوى القيادي صارخا؛ بانقسام الرّقعة الاسلاميّة سياسيّا، وعلى المستوى الفكري والاديولوجي بتعدّد الفرق، أدّى الى الخروج عن الدّين، وهذا الغضب في الشّرع يُعتبر محموداً؛ (أنْ تغضب إذا انتهكت حرمة من حرمات اللّه).
هناك سياق تاريخيّ مرير كان الغزالي يعيش بين أنيابه، وهذا ما يعطينا الحقّ في أن نفسّر غضب الغزالي، بأنّ له عوامل موضوعيّة تبرّره، بينما غضب ابن رشد على الغزالي كان لأجل الفلاسفة ! وهل يحقّ لعاقل أن يقدّم  الدّفاع عن الفلاسفة قبل الدّفاع عن العقيدة في ظرف تاريخي عصيب؟ وخاصّة أنّ الفلسفة في عهد الغزالي أصبحت مقدّسة أفسدت إيمان النّاس حتّى أنكروا النّبوّة، بل تجرّدوا عن أداء العبادات، فقلَّ من يخوض فيها إلاّ وينخلع عن الدّين وينحلّ عن رأسه لجام التّقوى(6). 
ومن عمق هذا الهجوم الرّشدي على الغزالي، يهجم الجابري بدوره عليه؛ 
- أولا : بإقصائه من التّراث بطريقة غير مباشرة، وهجومه على الفلسفة المشرقيّة المسنَدَة في كلّيتها إلى «الفلسفة السّيناويّة الهرمسيّة» بالضّربة «القاضية الحقيقيّة الواقعيّة» التي وضّحنا معالمها، والمتمثّلة في «القطيعة الابستيمولوجيّة»، بزعامة ابن رشد. وهكذا فالجابري في جميع أبحاثه دافع عن أطروحة مركزيّة، حدّدت، «مسار كلّ مؤلفاته التي سعت إلى تعميقها وتأسيسها وتأصيلها تاريخيّا»(7)، وهي أنّ الرّشديّة شكّلت قطيعة إبستيمولوجيّة مع الفلسفة الإسلاميّة المشرقيّة، السّينويّة والفارابيّة، على المستويات كافّة، المنهجيّة والمفاهيميّة والإشكاليّة، الأمر الذي يجعلها، أي؛ الفلسفة الرّشديّة، مفتاحا لتحرّرنا وتقدّمنا  الفكري والعلمي والسّياسي، نظرا ً إلى ما تميّزت به من روح إصلاحيّة وتجديديّة على مستوى الحكمة، وعلى مستوى الشّريعة، وهكذا يرى الجابري، ابن رشد قد أعاد ترتيب علاقة الحكمة بالشّريعة، كما كشف في مناهج الأدلة في عقائد الملّة، ووضع قواعد لبداية المجتهد ونهاية المقتصد، وبيّن تهافت الخطاب المناوئ للفلسفة(8).
ومجمل القول عند الجابري بشكل قطعي صارم يقرّره في أنّ: «ما تبقى من تراثنا، أي ما يمكن أن يكون فيه قادراً على أن يعيش معنا عصرنا، لا يمكن أن يكون إلاّ رشديّاً (...)، فكلّ من عاش أو يعيش لحظة ابن سينا بعد ابن رشد إنّما قضى أو يقضي حياته (الفكريّة) خارج التّاريخ»(9).
 كيف نخرج من عنق زجاجة هذه القراءة الاقصائية
وعلى ضوء هذا التّحليل، فإنّنا نرى؛ أنّ الفلسفة والفكر الإنساني إجمالاً، عبارة عن  سلسلة مترابطة ومتكاملة فيما بينها، غير مقصورة على شخص بعينه، وبالتّالي فـ«القطيعة الابستيمولوجيّة» نظرة فيها نوع من العنصريّة شئنا أم أبينا، وذلك بسموّ «الفكر المغربي» على «الفكر المشرقي» والأمرّ في هذا، ربط الجابري كلّ الفلسفة المشرقيّة بابن سينا، الذي نسبت اليه «العرفان الهرمسي الحراني»، وهذا الأمر يُسْتشفُّ منه؛ القراءة الجابريّة المجحفة للتّراث الفلسفي، خاصّة على أبي حامد الغزالي؛ الذي شكّل قفزة نوعيّة في تاريخ الفلسفة الإسلاميّة نقداً وبناءً.
فإذا كان «الفارابي» قد نشد الوحدة السّياسيّة -وهذا هو الوتر الحسّاس للجابري باعتباره كان قياديّا سياسيّا واجتماعيّا، حيث كان دمْجُ الفلسفة والدّين وسيلة لبناء دولة الخلافة (= المدينة الفاضلة) على أساس العقل الكوني، [تحقيقاً للوحدة على الصّعيد الواقعي](10). 
وكان «ابن سينا»، ينشد الوحدة الرّوحيّة (=أراد أن يحقّق ما لم يحقّقه الفارابي) حيث كان دمج الدّين والفلسفة، موضوعاً وهدفاً في آن واحد، [تحقيقاً للوحدة على الصّعيد الروحي بعد تعذّر تحقيقها على الصّعيد الواقعي](11). 
فإنّ «الغزالي» جمع بين هذين المعطيين، حيث نشد (الوحدة السّياسيّة/الاجتماعيّة) و(النّفسيّة/الرّوحيّة)، من خلال عدم الفصل بين سموّ العقل والنّفس معاً، إذ كان يحمل في جعبته شموليّة التّوجّه الإصلاحي، الذي انخرط فيه، سواء في الجانب الرّوحي أو الجانب العقلي.
فبحكم تردّي الأوضاع في عصره، والفتور الذي أصاب الأمّة، فإنّ الغزالي استشعر مسؤوليّة التّغيير لحال المجتمع، والتّجديد لأمر الدّين والسّياسة معاً، ولذلك بدأ بالنّظر في نفسه وعمله، وقد وجد نفسه منخرطاً في واقع الأمّة المتردّي، فقرّر الانطلاق في تغيير الواقع، من خلال تغيير الذّات.
أ‌. ففي المجال الدّيني : سعى إلى إصلاح السّلوك التّعبّدي والاجتماعي للأمّة، بـ«إحياء علوم الدّين»(12).
ب‌. وفي مجال المشروع العقلي: فقد قصد به إعادة تشكيل العقل المسلم؛ وذلك بنقض المناهج الفلسفيّة غير المجدية في الإلهيّات، ونقد المنهج الصّوفي اللاّعقلي، -في مسائل (الاتحاد والحلول)(13) التي أفسدت الدّين والعقول-  بمنهج السّعي إلى «التّوحيد الخالص». 
كما أنّ الغزالي تجاوز المنهج الكلامي، محاولا الرّفع من سقف المعرفة بالمنهج البرهاني اليقيني (=القسطاس المستقيم )(14). ولقد حاول أن يستفيد -في إطار التّراكم المعرفي الإنساني- ممّا رآه صالحاً من علوم اليونان، مثل علم المنطق، الذي جعله من العلوم الأساسيّة لميزان العقل. فصنّف في ذلك «معيار العلم» وأدخل مقدّمة منطقيّة إلى علم أصول الفقه، من خلال كتاب «المستصفى».
ت‌. وفي «الفقه والسّياسة»، لم يغيِّب المجال الرّوحي والعقلي في مشروعه الإصلاحي؛ حيث كان يرى أنّ أزمة الأمّة نابعة، من الفصل بين العَالِم والسّياسي، أي؛ بين رجل الفقه والخليفة. فالخليفة مستبدّ في آرائه(15)، والفقيه فقيهان: واحدٌ كرّس نفسه بوقاً للسّلطان، يفتي بما يراه هذا السّلطان، بغية أن يكون قاضياً عنده وينعم بالحضوة والجاه والمال. والثّاني: مستقلّ عن الخليفة؛ له كلمته وشخصيّته، لكن ليست نافعة؛ لأنّه لا يخرج من دائرة الحلال والحرام. ولا يفقه في السّياسة شيئا.
والغزالي بهذا أراد أن يصل بنا الى نظريّة «الفقيه السّياسي» تلك النّظرية التي  لا تفصل السّياسة عن الدّين، والتي يراهن من خلالها على الفقيه كي يكون عالماً بالقوانين الوضعيّة والفقهيّة والعقليّة والسّياسيّة معاً، حتّى يكون موجّها للخليفة، وليس الخليفة هو الذي يوجّه الفقيه، ليُنَظّرَ لتَوَجّهِهِ الذي يريده. وهو الأمر الذي نفهم منه؛ أنّ الغزالي أراد أن يطوّر الفقه من فقه محصور في الأحكام التّكليفيّة، الى فقه أكثر شموليّة، وأن يجعل من الخليفة الذي يحكم بـ«فردانيّته»، خليفةً؛ يحضى ويقوى بالتّوجيه والاستشارة، التي تمنحه القوّة الشّرعيّة، وبالتّالي كسب ثقة المحكومين التي تقوى بها شوكته. 
بل إنّ الغزالي استشعر إلى جانب الفصل بين السّياسة والدّين، مشكلة توجيه العلوم، حيث رأى أنّ؛ ما يوجد عندنا، من الفقه والفقهاء أكثر من حاجتنا، ونحن في حاجة ماسّة إلى علماء في الطّب والزّراعة والهندسة وغيرها(16). 
بعد هذه الاستدلالات من داخل تراث الغزالي الغنيّ، يحقّ لنا أن نتساءل كيف يمكن أن نتجاوزه ؟! بل ونقطع مع «الفلسفة المشرقيّة» على حدّ تعبير الجابري؟!. 
إن هذه القراءة الجابريّة، لا تدفع إلى التّكامل الحضاري الإسلامي، لأنّ التّكامل يعني التّدافع والانسجام الإنساني بما لا يضرّ وبما لا يشعر فيه المرء بالإقصاء، ولا نقصد بالانسجام عدم الاختلاف الذي يعدّ سنّة كونيّة في البشر كي يتسابقوا في الخيرات، وإنّما نعني به تلك الرّوح العلميّة الموضوعيّة التي تتوخّى النّقد الهادف وتنبذ النقد المتطرّف الذي يؤدّي غالبا الى ردود الأفعال والتّعصّب، الذي حاربه الغزالي في زمانه من خلال كتابه «فيصل التّفرقة فيما بين الإسلام والزّندقة» حين وضّح فيه مراتب الوجود؛ التي لا يمكن من خلالها تكفير صاحبها إذا لم يخرج تأويله من حدودها، واضعا الى جانب ذلك قانونا للتّكفير يصعب من خلاله أن نكفّر إنسانا ما. هذا التّكفير الذي كان في المنظومة الاسلاميّة آنذاك في عصر الغزالي أفْتَكَ سلاحٍ توجِّهه كل فرقة الى أختها بأدنى سوء تفاهم واختلاف، ليحدث بعده حربا كلامية لا هوادة لها، والاقتتال بالسّيف في بعض الأحيان(17). 
ونحن نرى أنّه؛ لا فرق بين عصر الغزالي وعصر الجابري؛ من حيث الحرب الكلاميّة، الاّ فرقا شكليّا، يجمع بينهما هذا العامل المشترك المتمثّل في هذه القولة الطّوفانيّة المختزلة؛ «ليس الحقّ الاّ معي ومن معي»، فإذا كانت كلّ فرقة في عهد الغزالي تلعن أختها، وتوجّه اليها سيف الكفر، لتعلن حربها الشّنيعة عليها حتّى تقبل ما تقول به فكريّا، فإنّ الجابري عاد من جديد -في عصر قفز فيه الإنسان الى تقبّل الآخر مع حقّ الاختلاف معه- ليكرّس الحقّ الطّوفاني المتنافي مع سنّة التّدافع، عندما اختزل التّراث كلّه في قطبيّة ابن رشد، الذي عليه مدار الفكر؛ حين أعلن بشكل صريح، أنّ «ما تبقى من تراثنا، أي ما يمكن أن يكون فيه قادراً على أن يعيش معنا عصرنا، لا يمكن أن يكون إلاّ رشديّاً (...)، فكلّ من عاش أو يعيش لحظة ابن سينا بعد ابن رشد إنّما قضى أو يقضي حياته (الفكريّة) خارج التّاريخ»(18).
فالعلم مبني على التّراكم، ونقل الشّعلة من موقد الأجداد لا نقل الرماد ، فلولا الغزالي لما انتج ابن رشد، ولولا ابن سينا لما أبدع الغزالي، ولولا الفارابي لما أعطى ابن سينا، ولولا الكندي لما فاض الفارابي، فلا يمكن بأيّ حالٍ أن نلغي التّراكم المعرفي، بالشّكل الاقصائي التّجزيئي.
الخلاصة والنتائج
- من خلال هذا العرض تبين لنا جليا انّ الجابري، تعامل مع التراث الاسلامي بشكل متعسف، طغى فيه الطرح الايديولوجي على الطرح الموضوعي؛ حيث اختزل التراث الفلسفي في قطبية ابن رشد، وأما ما قبل ابن رشد، فانه خارج التاريخ.
- كما أنّه في معالجته لطرحه الفلسفي الايديولوجي، لم يستطع الوقوف عند تراث الغزالي؛ أي دراسة الغزالي من داخل منظومته الفكريّة المتكاملة، لأنّ هذا الوقوف سيكون محرجا للجابري، لا لشيء الّا أنّ الغزالي لم يحارب الفلسفة إطلاقا، لذلك استعمل الجابري المنهج (الماقبل يفسّر المابعد) و(المابعد يفسّر الماقبل)، حتّى لا يقف على متون الغزالي، التي سوف تكون عائقا أمام القطيعة الابستيمولوجيّة، لذا وقف بالذّات على تراث ما قبل الغزالي، علما أنّ الغزالي انتقد هذا «الماقبل» أي فلسفة الفارابي وابن سينا، كما وقف الجابري على فلسفة ما بعد الغزالي، وفي كلتا الوجهتين «الما قبل والما بعد» أُلغيَ الغزالي من تراث الجابري بالخصوص كأنّه لم يكن شيئا مذكورا.
- وليس غريبا أن يقول محمد المصباحي، أن مشروع الجابري الفكري؛ هو النّقد الذي كاد أن «يرقى الى منزلة الوصيّة المنهجيّة والفكريّة الأساسيّة التي تركها لِلاّحقين عليه، للخروج من عطالة العقل العربي»(19)، الّا أنّ سلاح هذا النّقد، الذي ظهر في جلّ قراءاته التّراثيّة، يختفي لحظة السّفر في المتون الرُّشديّة. ها هنا لا لغة تعلو على لغة الانتصار لمن يعده الجابري «فيلسوف الفردوس المفقود»(20)، الذي يمكن من خلال استلهام فكره تحقيق «حلم المدينة العربيّة القوميّة التّقدميّة الاشتراكيّة»(21).
- إنّ هذا المقصد السّياسي والإيديولوجي المفرط في رشديّات الجابري، هو ما أكّده الباحث التّونسي فريد العليبي، الذي يتّفق مع الجابري في كون «ابن رشد يعدّ مفتاحاً لمقاومة التّعصب الدّيني والأصوليّة»، لكنّه يختلف معه في أنّ هذه «المقاومة» «يجب ألاّ تنحصر في توظيف الرّشديّة، بل أن تشمل الجوانب النيّرة الثّاوية في الموروث العربي، مشرقاً ومغرباً، وما أنجزته الفلسفة والعلوم على صعيد كوني»(22). وهو نفس الأمر الذي قرّره محمد أركون، معلنا أنّه: «لا يصح أن نختار عقلانيّة ابن رشد على الغزالي أو ابن سينا أو العكس، بل، يجب أن نتفهّمها كلّها، ونحسن تفسيرها ونقارن فيما بينها، حتّى نستخرج نقاط الخلاف ورهان التّنازع، ثمّ نقيم مدى تقبُّلها من طرف النّاس أو مدى رفضها، وتتبّع أسباب رواجها أو فشلها في العصور اللاّحقة والبيئات المختلفة، وهذا المنهاج ينقذنا من السّياج الدّغمائي المغلق، ويحرّرنا من مبدأ «الأمّة النّاجية» و«الأمم الهالكة» الذي انبنت عليه كتب الملل والنّحل»(23). 
الهوامش
(1) «تهافت التهافت» (ص23).
(2) نفس المرجع، (ص 122 و35)
(3) تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، ص34
(4) المرجع السّابق، ص38
(5) المرجع السّابق، ص69 و96 و119 و150 و156 و168 و182 و148
(6) أبو حامد الغزالي «المنقذ من الضّلال» نفس المرجع السّابق .(ص 80 و125)
(7) سالم يفوت، «الجانب المنهجي في فكر الجابري» في: أحمد برقاوي [وآخرون]، التّراث والنّهضة: قراءات في أعمال محمد عابد الجابري، إعداد كمال عبد اللّطيف (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004)، ص 44.
(8) «نحن والتّراث» نفس المرجع. (ص 211-259)
(9) «نحن والتّراث» نفس المرجع، (ص 49)
(10) «نحن والتراث»، ص 55-68
(11) «نحن والتراث»، ص 87-165
(12) فريد الأنصاري «التوحيد والوساطة في التربية الدعوية» دار السلام القاهرة، ط1، 2011 (ص 99-100) 
(13) ابو حامد الغزلي، المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، حققه وقدم له فله شحادة، دار المشرق، بيروت لبنان، بدون تاريخ وبدون طبعة، ص 162-171
(14) القسطاس المستقيم (الموازين الخمسة للمعرفة في القران)، كتاب لابي حامد الغزالي، قراءة وتعليق: محمود بيجو، المطبعة العلمية، دمشق، 1993م.
(15) راجع بهذا الشّأن رسائل: الغزالي، أبو حامد «فضائل الأنام من رسائل حجّة الإسلام الغزالي» ترجمها عن الفارسيّة مع شروح وتعاليق الدّكتور؛ نور الدين آل علي، الدّار التّونسيّة للنّشر، 1972.
(16) راجع بشأن العلاقة بين الفقيه والخليفة، وشموليّة العلوم: أبو حامد الغزالي «إحياء علوم الدّين» الجزء الأول. دار المعرفة بيروت، ط:نوفبر 2010 (ص 10-23) 
(17) أبو حامد الغزالي، «فيصل التفرقة فيما بين الإسلام والزّندقة» خرج أحاديثه وعلق عليه؛ محمود بيجو، ط 1-1993.
والكتاب من أوله الى اخره، يتحدث عن هذه الاشكالية، سعى الغزالي من خلالها الى إعطاء الفرصة للمجتهدين حتى يبدعوا دون تكفيرهم من خلال القانون الذي حدده في هذا الكتاب: التحاكم الى قانون التأويل وقانون البرهان. 
(18) نحن والتراث، ص 49
(19) محمد المصباحي، الجابري بين تحديث العقل العربي وتعريب الحداثة، ضمن: الجابري دراسات متباينة، جداول، بيروت، 2011، ص 159
(20) الجابري، نحن والتراث، ص 260
(21) الجابري، نحن والتراث، ص 53
(22) فريدالعليبي، «في رشديات الجابري: قراءة في القراءة» ورقةُ قدمت إلى: العقلانية والنهضة في مشروع محمد عابد الجابري: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012)، الفصل السابع، ص 303
(23) محمد اركون، الفكر الاصولي واستحالة التأصيل/ نحو تاريخ آخر للفكر الاسلامي، ترجمة وتعليق هاشم صالح،
 دار الساقي، ط1-1999،  ص 14