حكم وأحكام

بقلم
الهادي بريك
صلاة الجماعة بين مصلحة الدّنيا وثواب الآخرة
 الأحاديث النّبويّة الصّحيحة التي تحثّ على صلاة الجماعة مشتهرة بين النّاس إشتهارا كبيرا. ناهيك أنّ صلاة الجماعة ذاتها متواترة تواترا عمليّا معنويّا ثابتا. وهل يدّعي مسلم في أيّ زمان أو مكان أنّه لا يعلم أنّ صلاة الجماعة يعدل أجرها سبعا وعشرين مرّة صلاة الفذّ (الفرد)؟ أضحى هذا معلوما من الدّين بالضّرورة. هذا حكم شرعيّ عمليّ ثابت. مهمّة هذه السّلسلة
(الإسلام : حكم وأحكام) هي على وجه التّحديد والدّقّة إستنباط الحكمة من تلك الأحكام الصّحيحة. وقد تقدّم أنّ الحكمة من كلّ حكم هي روحه وهو وعاؤها، وهي نبضه الحيّ الدّافق وهو جسمها على نحو يموت الحكم موتا معنويّا كلّما فارق صاحبه العامل الحكمة منه. ليس هناك علاقة أشدّ لصوقا وحميميّة من علاقة الرّوح التي تؤمّن الحياة بجسمها الذي يحملها. بمثل ذلك وبالكلّية المطلقة تكون العلاقة بين كلّ حكم شرعيّ عمليّ دينيّ صحيح ثابت وحكمته التي هي مراده ومقصده. ولو لم يكن ذلك كذلك لما كنّا بحاجة إلى علم مقاصد الشّريعة القائم على معنى الإستصلاح. أي نشدان المصلحة. وعندما يفرّط المسلمون في نشدان الحكمة من دينهم ويتعلّقون بالحكم العمليّ فحسب مجرّدا من علّته التي ولدته، فإنّ العيب ليس عيب الإسلام إنّما هو عيب المسلمين.
الدّليل هنا عقليّ لا نصيّ
من يدرس المبحث الأصوليّ المعروف (سبل الكشف عن حكم الشّريعة) يلفى بيسر أنّ تلك السّبل منها ما هو نصيّ. وذلك عندما يشير الشّارع نفسه إلى الحكمة من حكمه العمليّ الشّرعيّ. وذلك في مثل قوله سبحانه ﴿ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا﴾(1) وهو موجود بكثرة ولكنّه ليس مطّردا مع كلّ حكم جديد. ومنها ما هو إستقرائيّ. وذلك عندما يشير الشّارع نفسه إلى طائفة من الحكم مبثوثة منثورة غير مجموعة في سياق واحد. وهو الذي أسموه إستقراء الأدلّة الجزئيّة والكلّيات الفرعيّة إبتغاء بناء قاعدة أصوليّة فقها أو مصلحة. من أمثلة ذلك قول أولئك المستقرئين أنّ الشّارع متشوّف إلى التّحرير الجامع العامّ. ومن تلك السّبل للكشف عن الحكمة سبيل الإستقراء الجامع الموضوعيّ المقاصديّ العامّ، وهو أعلى مراتب الإجتهاد الأصوليّ فقها ومقصدا. وقليل سالكوه سيّما في وكء مسلك من مسالك الحياة ممّا عالجته الشّريعة (الأسرة مثلا)، وأقلّ من ذلك في توفير قواعد مقاصدية ثابتة قطعية. وهو الأمر الذي عارض فيه ابن عاشور نظيره الشّاطبيّ. ولكن يبدو أنّ المنيّة وافته قبل تحرير معارضته تحريرا إيجابيّا. 
المقصود من هذه الفقرة هو تأكيد أنّ الكشف عن الحكمة الدّنيويّة من صلاة الجماعة ليس محلّه النّص المنصوص. ولكن محلّه الإستقراء المحلّيّ الذي يخلص إلى أنّ اللّه سبحانه ما ملأ كتابه بالتّعليم والدّعوة بصيغة الجماعة دوما وبإطّراد لا يتخلّف سوى لتحقيق مصلحة دنيويّة عاجلة تيسّر الحياة إلى الحسنى. ولا ينقص ذلك من أجر الآخرة شيئا كما وعد بذلك خليله إبراهيم عليه السّلام. والمقصود هنا كذلك هو تأكيد ـ بل إيجاب ـ البحث لأجل الكشف عن كثير من العلل والحكم والمصالح التي فوّت في الكشف عنها الشّارع نفسه إلى الإنسان. على الطبيعة المطّردة لتحريك النّظر العقليّ وبذل جهد في تحصيل الحقّ والحكمة والخير. الأصل من كلّ ذلك هو الإعتقاد الأوّليّ الصّارم أنّ كلّ حكم شرعيّ عمليّ أو عقديّ هو مصلحة دنيوية عاجلة ومنفعة مادية قبل أن يكون مثل ذلك ـ بل أزكى وأطيب ـ في الآخرة. من فاته هذا فقد فاته فقه الإسلام حقّا وعدلا قولا واحدا.
الحكمة الدّنيوية العاجلة من صلاة الجماعة
المقصد الأسنى الذي لأجله رغّب الشّارع كثيرا في صلاة الجماعة وحباها بذلك القدر العالي من الثّواب في الآخرة هو ـ نظرا عقليّا مطلوبا وليس نافلة ـ تيسير فرص يوميّة وأسبوعيّة وسنويّة وعمريّة للقاء المسلم أخيه المسلم. من صلّى وحده وهو قادر على شهود الجماعة لا وزر عليه فقها. وليس وعظا ليس هنا محلّه. بل إنّ العادة أنّ المرء إذا صلّى وحده يغتنم حرّيته ليطيل سجودا وإبتهالا وضراعة إذ هو يختلي بربّه سبحانه ومن ذا يكون أكثر قربا منه. فإذا صلّى مع النّاس ـ سواء إماما أو مأموما ـ فإنّه لا تتاح له هذه الفرصة. فهو ملزم بقصر الصّلاة إن كان إماما خوفا على تعسيره أمر مريض أو مسافر أو ذي حاجة كما نبّه إلى ذلك إمام الأئمّة محمّد ﷺ. وإن كان مأموما فهو ملزم بإتّباع الإمام حتّى لو قطع دعاءه الضّارع لقوله ﷺ أنّ من رفع رأسه قبل الإمام فإنّه يخشى عليه أن يمسخ رأسه رأس حمار. والأمر ينسحب ـ إعمالا لعلّة النّهي ـ على من ظلّ ساجدا أو راكعا بعد الإمام. (إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به). 
صلاة المرء إذن فذّا إختيارا لا إضطرارا صحيحة فقها لا وعظا ليس هنا محلّه وهي كذلك تكون أكثر قربا من اللّه، أو هكذا في الأعمّ الأغلب. ورغم ذلك ورد التّحريض على صلاة الجماعة والتّرغيب فيها بتوفير سعر عال، وهو 27 ضعفا. تماما كما لو أنّ مؤجّرا عرض عليك أجرا بوحدة واحدة من العملة المتداولة (يورو أو درهم أو دينار مثلا) وفي الآن نفسه عرض عليك مؤجّر آخر مثله ضعف ذلك سبعا وعشرين مرّة. لا شكّ أنّ العقل هنا يكون حكيما مقاصديّا عمليّا نفعيّا مصلحيّا دون أيّ تفكير ويقود صاحبه إلى العرض الثّاني. 
السّؤال هو : لِمَ نكون حكماء مقاصديين نفعيين مصلحيين عندما يتعلّق الأمر بأجر الدّنيا ولا نكون مثل ذلك عندما يتعلّق الأمر بأجر الآخرة وهو أزكى وأخصب؟ الحصيلة المرّة هي أنّ المسلم المعاصر ـ إلاّ قليلا ـ ينفي عن عقله الحكمة كلّما تعلّق الأمر بالدّين ويكون أحكم الحكماء عندما يتعلّق الأمر بالدّنيا. وما ذلك سوى لأنّه يعتقد أنّ الدّين لا علاقة له بالمصلحة والمنفعة والحكمة والتّجارة وإعمال النّظر. وهذا هو المردى الذي فيه تردّينا.
الحكمة من صلاة الجماعة هي تفعيل الإجتماع
ما حرّضنا الإسلام تحريضا عجيبا على صلاة الجماعة عدا لتيسير لقائنا. وليس لقاؤنا نفسه غاية بل وسيلة. اللّقاء الذي نحرّض عليه خمس مرّات في اليوم واللّيلة ومرّة واحدة كلّ أسبوع (صلاة الجمعة مع إختلاف يسير في هذه) غرضه التّعارف الذي هو مقصد إسلاميّ أصيل لا ينكره حتّى الجاهل لفرط جلائه (لتعارفوا). وليس التّعارف ذاته غاية بل وسيلة. الغرض من التّعارف هو تفعيل الإجتماع البشريّ بيننا ومن ذلك التّفعيل تنشأ المصالح. هذا ينكح هذا، وذاك يشترك مع ذلك في مشروع تجاريّ أو فكريّ، والآخر يخبر عن مريض يعاد وهذا عن قانع لم يعترّ فيعان، وذاك يسأل عن قضية في الدّين أو الدّنيا. وبالخلاصة فإنّ المسجد (إسم مكان وليس إسم مبنى) هو الذي جعله الإسلام ناد يوميّ وأسبوعيّ قارّ يجمع المسلمين ـ أو ما تيسّر منهم ـ لأجل اللّقاء الذي يثمر تعارفا وهذا بدوره يثمر تعاونا وفعل خير. وكلّ ذلك مقتضى بشريّ إنسانيّ ليس خاصّا بالمسلمين إذ يلتقي غيرهم في نواديهم أو بوسائلهم الأخرى. ولكن أيّ دور هنا للصّلاة؟ الصّلاة هنا تكون جامعة لكلّ ذلك الخير المنبثق عن اللّقاء بسببها. يريد اللّه أن يعلّمنا أنّ الصّلاة بصفة عامّة وصلاة الجماعة بصفة خاصّة لا تأتي إلاّ بخير. فهي ملتقى التّعارف والتّعاون والتّعاتب والتّغافر والإشتراك في إدارة الحياة كلّ ممّا يليه. هذا هو منطق الحياة وليس الإسلام هو من جاء بهذا. ولكنّ الإسلام جاء بجعل الصّلاة محطّة يومية وأسبوعية وعمرية (الحجّ) لتكون منطلقا لذلك الخير الدّينيّ والدّنيويّ معا أن يظنّ مسلم مغرور أنّ الدّين لا شأن له بالحياة وألاّ شأن للصّلاة بالدّنيا فيكون علمانيا وهو لا يشعر. بنى اللّه كونه على أساس أنّ النّاس يجتمعون، فلا يستطيع إمرئ واحد منهم أن يحيا بمفرده أو يعيش وحده إلاّ فترات مستقطعة لا مناص منها. إذا كان ذلك كذلك جبلّة عمرانيّة فإنّ الصّلاة هي أنسب محطّة لتفعيل ذلك العمران وتنزيل ذلك الإجتماع الغريزيّ تنزيلا يجعل الحياة طيّبة لا نكدة ولا ضنكا.
كيف تنكّبنا ذلك؟
أجل، تنكّبنا ذلك عندما ظننّا خطأ أنّ الدين شيء والحياة شيء آخر. وأنّ الصّلاة شأن فرديّ خاصّ خالص بالكليّة، وهي كذلك فعلا، ولكن جزئيّا ونسبيّا. وليس مطلقا. تنكّبنا ذلك عندما طعنّا بالثّقافة الغربيّة القائمة على الفرديّة حتّى دينا في الكنيسة. تنكّبنا ذلك عندما أهملنا النّظر في الدّين أصولا وقواعد وقيما وأركانا ومقاصد وحكما وكلّيات، وإستهلكنا أنفسنا في الدّين فروعا وجزئيّات ونصوصا فحسب. أيّ قيمة لصفّ واحد في الصّلاة وألف ألف صفّ في الحياة؟ وأيّ قيمة لتزاحم وتراحم بالمناكب في الصّلاة وحروب مستعرة بيننا في الحياة؟ أيّ قيمة لإمام واحد في الصّلاة وألف ألف إمام في الحياة؟ وأيّ قيمة لتغيير المنكر في الصّلاة (الفتح على الإمام كما يسمّى) وترك لتغيير المنكر في الحياة؟ أيّ قيمة لحرمة المسجد بنزع النّعال مثلا وتلويث المدرسة والمعهد والكليّة والجامعة والمشفى والأسرة قبل ذلك؟ هل نفيء إلى هذه القاعدة الأغلى من الماء الزّلال والعسل المصفّى : إستقامة الصّلاة من إستقامة الحياة، ولا خشوع في الصّلاة إلاّ بخشوع سابق في الحياة. ولا عبرة بصلاة تذرف فيها دموعا كاذبة إذا كنت تذرف بمثل ذلك في الحياة ألسنة مؤذية وأقلاما مسمومة وأيد ظالمة.
خلاصة
لا ثواب على الصّلاة في الآخرة إلاّ بقدر رعاية حكمتها الإجتماعيّة التي تكون قيمتها في حساب ذلك الثّواب أكثر من قيمة صورتها. والدّليل هو قوله ﷺ (إنّما الأعمال بالنّيات) أي : إنّما ـ حصرا وقصرا ـ يثاب المرء في الآخرة أو يعاقب بقدر ما وقر في قلبه من باعث حسن أو سيئ. وليس بقدر ما صحّ من عمله صورة وهيئة فحسب. من أمّ صلاة الجماعة بنية لقاء النّاس والإجتماع بهم وما يقتضيه ذلك أجره في الآخرة أجزل من أجر من أمّها بنيّة أداء صلاة الجماعة فحسب. الإسلام دين معقول مفهوم معلّل مقصّد. وذلك هو معنى قوله سبحانه ﴿دِينًا قِيَمًا﴾(2) أي يحمل قيما من رعاها روعي أجره بمثل ذلك ومن تنكّبها تنكّبه أجره بمثل ذلك. وليس الإسلام دين غير العقلاء، وإلاّ لأرسل إلى البكماوات كما أُرسل إلينا.
الهوامش
(1) سورة النساء - الآية 3 
(2) سورة الأنعام - الآية 161