وبعد

بقلم
طه كعنيش
الامتحانات المدرسيّة بتونس بين جدل المعياريّة وزبونيّة الممارسة (1/2)
 نحن في خضمّ وعلى أعتاب إجراء امتحان آخر السّنة، وتختزل المدرسة التّونسيّة حتّى في ظلّ مقاربة التّعلـم بالكفايـات وظائف التّقويـم، في ما هـو جزائـي (تثمين أو تبخيس). ولم تتساءل المنظومة من بعد الثّورة عن أوزار الامتحان المدرسي وقد اقترن بظواهر ملتصقة به مثل الرّسوب الذي نتعامل معه من منطلق اقتصـادي تربـوي(عدد ساعات التّدريس- عدد التّلاميذ في القسم- نسب التّملك الأدنـى والأقصـى- كلفة التّلميذ على المجموعة الوطنيّة...). هل سنستمرّ في التّلويح بالآليّات المقنّنة والمحمولـة على تعميم النّجـاح المدرّسي أو التّبشير بالخطوات المقطوعة في رأسمله سياسة تقييم ذات طابع كمّي جزائي، لا تهتمّ كثيرا بالتّعثر وأسبابـه ولا تفيـد في فهـم عوامـل القصـور المتسبّبـة في تراجـع نسب النّجــاح في المسابقات التّي شاركت تونس فيها مع بعض البلدان العربيّة على المستوى الدّولي؟. هل سنستمرّ في التّستّر عمّا يعتري الامتحانات الوطنيّة من هنّات وتفاقم معدلات الرّسوب والتّسرب المدرّسي ممّا هو دليل على فشل المؤسّسة وليس فشل التّلميذ فحسب؟. 
تلك بعض الأسئلة التّي نتناولها في المقال المتفرع إلى قسمين، منطلقين في الجزء الأول إلى الامتحان ضمن مدوّنة التقييم وإلى بسط ما يروج داخل أسوار المدارس عن معياريّة التقييم وما يحيط به من جدل. ومتطرقين في الجزء الثاني (العدد المقبل) إلى ملامسة مظاهر الزّبونيّة في ممارسة التّقييم ومجابهتها بخلفياتها منتهين إلى وضع إشارات عن معالم التّقييم البديل.  
I- الامتحان ضمن مدوّنة التّقييم:
1-1 في التّقييم المعياري: 
يمكن أن يتنزّل الامتحان المدرّسي بين تقويمين: تقويم أوّل تقليدي لا معياري يرتكز على نظام تنقيط غير منصف ولا شفّاف، ولا يتوفّر على شروط الموضوعيّة التّامّة ربّما لما قد يحتويه من التّعقيد الذي لا يلمّ به إلاّ العارفون بدقائقه. و تقويم ثان يعتمد على معايير ومؤشّرات تتّخذ أساسا لتقدير مدى تحقّق الكفايات في ضوء ما يتحدّد من أداء... ولئن تحدّدت بعدُ، في المنظومة التّربويّة التّونسيّة معالم النّوع الثّاني، فإنّ ذلك لم يدرأ عن التّقييم عند الممارسة من أن يُصاب بداء الانفصام بين المنشود والموجود، وأحيانا بعلل المغالطة والتّغرير، وأحيانا كثيرة بيع وهم التّفوق ودون قدرة على التّمحيص المتبصّر للإشكاليّات والنّقائص للانتقال من صورة النّجاح الباهت إلى تكريس مدلول حقيقي للنّجاح لا يقف عند العنوان.
1-2 التّقييم ممارسة ضبابيّة: 
بغضّ النّظر عمّا يكتنف تقييم عمل التّلميذ من ظواهر سلبيّة، في مقدّمتها الخوف والتّوجس من الامتحان وغير ذلك من الظّواهر اللاّتربويّة، مثل الغشّ والميل إلى العدوانيّة تجاه المدرسة والمدرّسين، فإنّ امتحان آخر السّنة الجزائي، في المنظور البيداغوجي لا يزال قاصرا عن أن  يكون وسيلة  للنّهوض بالمردوديّة وتطوير المخرجات، فضلا عن كونه يرتبط بقيمة تجميعيّة يصعب معرفة وتحديد ما تعنيه وما تعبّر عنه بالضّبط. فالمعدّلات والرّتب النّهائيّة قليلة الفائدة في الكشف عن قدرات التّلميذ الحقيقيّة وفي تشخيص تقدّمه واستعداداته للتّحسّن. 
فإذا ما ارتبط الامتحان بالتّكرّم على المتعلّمين وسنّ قواعد وتشريعات: مثل ما جرى من تطبيق   «قاعدة 25 %في الباكلوريا» والتّي أفضت لسنوات إلى نجاح  ودخول 40 % من المترشحين إلى الجامعة دون استحقاق، ومثل التّسويّة بين المواد والتّخفيض في ضوارب المواد ذات الأصالة في الارتقاء بتفكير النّاشئة بالابتدائي والثّانوي، فإنّ ذلك لا يبعث إلاّ على جعل الامتحان موضع تساؤل وتحت مجهر النّقد  قبل أيّ مراجعة أو إصلاح.
1-3 التّقييم ممارسة زبائنيّة:
إذا انعدم الانسجام والتّكامل بين مكونات العمليّة التّعليميّة، ومواصفات التّقييم المتجانس معه وإذا ارتبط التّعلم باجتياز المناظرة وقامت الفجوة بين التّعلم والتّقييم، وارتهن الأخير في المعدّلات المحرز عليها في المواد، حضرت الزبونيّة وأحدث ذلك اضطرابا في مسارات الاكتساب برمّته وتململا في توظيف التّقييم لتعديل معالم التّكوين ذاته.. بل ما حصل هوّ النّزول به درجة بفعل تقلّص ساعات الاكتساب واعتماد نظام الأفواج خلال سنة كاملة..والأمثلة المستشريّة عن تجليّات الزّبونيّة كثيرة في هذا الصّدد منها تضخيم أعداد المراقبة المستمرة، وعدم احتساب أعداد ضمن الاختبارات النّهائيّة، وإنجاز دروس مكثّفة في وقت قصير لتدارك النّقص الحاصل في اكتساب المقرّر جرّاء الغيابات وطول البرامج، والميل إلى إملاء الدّروس، دون شرح ولا تمعّن في الفهم والتّحليل ولا أشغال تطبيقيّة ولا عروض مناقشة....الخ .
II- المعياريّة وجدلها:
2-1 موقع المعياريّة في الامتحان من منظور البيداغـوجيا الجديدة:
مع أنّ البيداغوجيا الجديدة تحرص على تأطير مواضيع الامتحان، بناء على معاييرَ وطنيّة، مؤصّلة في المنهاج ومفسّرة في الوثائق التّي تمثل الإطار المرجعي، لمقاربات التّعلم بما فيها المقاربة بالكفايات، فإنّ المدرّسين لا يتمثّلون على وجه الدّقة والتّفصيل، ما يتحدّد للمتعلّم أداؤه في مجالات التّعلّم في الجوانب المضمونيّة والمهاريّة التّي سوف يشملها الاختبار، أي ما ينبغي أن يكون أساسَ تعاقد بين المترشّح ومؤسّسة الامتحان. كذلك قد نألف أنّ المترشّح ليس دوما على بيِّنة مسبَقة بما سيغطّيه الاختبار من محاور، ولا يأخذ الممتحن فكرة مرضيّة عن درجة أهميّة كلّ مكوّن من مكونات البرامج المدرّسة، وصلته بالواقع وعالم الشّغل والحياة... وذلك مناكف للبيداغوجيا الجديدة. 
وإنّه من ضعف المؤسّسة التّعليميّة في نظام الامتحانات أنّها تفرز تقويما تختزل وظيفته في ما هو كمّي إجمالي و إشهادي. ويمكن أن يبرّر ذلك لو كانت وظيفة المؤسّسة التّعليميّة، انتقاء النّجباء وتشكيل النّخب فقط، أمّا وهي معنيّة بتأهيل المجتمع للغد فلا مناص لها من  نقد كامل الخيارات ومتابعة  المسار المتّبع لصقل مواهب المتمدرسين و إمعان البحث في « كيف نجحوا ولمَ أخفقوا؟» و إنّه من إحدى عناصر القصور،  أن يركّز النّظام فقط على المحطات الإشهاديّة (نهاية المسار)، أو أن يتعامل مع التّقييمات البينيّة تعاملا ممتدا إلى سابق عهدنا بالتّقييم وربّما على وجه من الشّطط في تعيير عمل المتعلّم بالأعداد التّي تتساقط على ورقات الاختبار وتجرف بعضها لطاولة المزاد حتّى في الاختبار الرّسمي (من يصلح أسرع، يقبض أكثر) ، لاسيّما إذا كان ذلك مقترنا بالاختبارات المفبركة على قياس المتمدرسين والإعداد المقولب للمهارات، لتمكينهم من التّحكم في الكفايات الأساسيّة اصطناعيا وبما يجعلهم غير قادرين على الممارسة المبتكرة ولا المتصاعدة في سلّم التّملك، أي بما يعني  تجاهل قدراتهم والانصياع بمواطنتهم لأساليب مصطنعة في اندماجهم بمحيطهم.
فلولا تساءلنا مع أولى الأمر من المنشغلين بالشّأن التّربوي إن كان في وسع التّلميذ الّذي يعيد القسم أن يعرف لماذا رسب هو وأُسعف غيره، ولا كيف سيتمكّن من تملّك ما فاته ليتفادى رسوبا آخر، وانعكاسات  ذلك على نفسيّته في تجاوز ما أشكل عليه  حتّى يتمكّن من تحسين مروده التّربوي. ولا تجيب المنظومة عن سؤال أين يمضي المتعلّم وهو على أهبة أن يُطرد والحال أنّ أنظمة تربويّة دوليّة تعيد النّظر في الامتحان وتمنع الرّسوب قانونيّا في بعض المحطات على ضرب من التّكريس لمفهوم «مدرسة المواطنة».
2-2 مواضع الالتباس في جدل الامتحان ومعياريتة:
ما يروج عن الامتحان يكاد يُحصر في مجرّد الارتباط العام بالأهداف التّربويّة وبالأهداف الخصوصيّة لمواد التّعلم، ومنها أيضا ارتباط التّقييم بإجراءات شكليّة تُنزّل التّقييم منزلة الظنّ بأنّها عمليّة موقوفة على توفير مقياس اسناد الأعداد وسندات مرفقة بعدد من الأسئلة وبتعليمات للتّحقق من حصول التّعلم، بينما الحقيقة أنّ نظام الامتحانات برمته في حاجة إلى تغيير شامل، لأنّه يثبت باليقين تواضعا في النّتائج، وركودا في المواقف وغبشا فيما ينطوي عليه التّقويم من عديد المتحوّلات السّلبيّة التّي باتت تجعل الامتحان كالسّلعة في السّوق خاضعا لقانون العرض والطّلب. 
اليوم يُطرح تطوير نظام الامتحانات الإشهاديّة (الشّفويّة والتّطبيقيّة والكتابيّة) فكيف ستدقّق المقاربات والمنهجيات المتعلّقة بسيرها؟ وكيف ستعالج الاختلالات من مختلف المناحي، سواء على مستوى مواضيع الامتحانات وكيفيّة إعدادها، أو على مستوى آليات إجرائها وسير العمل داخل القاعات ومركز الامتحان أو على مستوى التّصحيح ومعالجة معطيات الامتحان والإعلان عن النّتائج؟. 
اليوم يُطرح كذلك تطوير بحوث تحليل مضامين الاختبارات ونقد  الممارسات المتّصلة ببنائها أو تمريرها سواء على مستوى التّأهيل الافرادي أو الممارسات الفصليّة ذات الصّلة أو التّحكم المنظومي  في كلّ عملياتها. هل سيبدأ الاشتغال على إتقان تلك العمليّات وتجلية ما هو آكد لنا منها وما هو أفضل للمقيَّمين؟  
(يتبع)