في العمق

بقلم
سعيد السلماني
دواعي ميلاد مبحث أخلاقيّات المناقشة
 مع الانتقال إلى «العصور الحديثة» وبداية تراجع الهيمنة المطلقة للدّين، وبروز العقل كمصدر وحيد للحقّ والخير والعدل والفضيلة، فإنّ الإشكال النظريّ المرتبط بصيرورة القانون وكينونة الواجب وتعارضهما الضّمني سيجد حلّه في بناء صروح الأخلاق العقلانيّة الحديثة وخاصّة فلسفة الأخلاق الكانطيّة.
لكنّ نقدا أساسيّا سيوجّه إلى الأخلاق الكانطيّة-أخلاق الواجب الصّوريّ والأمر القطعيّ، وبالتّالي، تبرز نزعات عقليّة واقعيّة ونفعيّة وأداتيّة تلتصق بالواقع والمجتمع والفرد العينيّ، وترفض مبدأ المتعالي والمفارق. كما أنّ العلوم ذاتها تطوّرت بشكل ألقى بظلال من «النّسبيّة» و«الاحتمال» على كلّ يقين عقليّ أو طبيعيّ ممكن. ومن ثمّ، دخل العالم بالكامل عهد نزع كلّ طابع سحريّ عن وقائعه وظاهراته.
 ووقعت حربان مدمّرتان كانت وراءهما نزعات إيديولوجيّة ضربت في العمق مثُلا وقيما كان يُعتقد أنّها –باسم الحرّية والعقل والتّقدّم- تشكّل «دينا» جديدا وبديلا للإنسانيّة، فساد الإحساس بفقدان المعنى والخراب الرّوحي والعبثيّة واللاّجدوى. فأيّ أخلاق يمكن أن تنبثق من «أرض اليباب»(1)، وأيّة قاعدة أخلاقيّة جديدة ومتجدّدة يمكن التّأسيس انطلاقا منها؟ بل هل هذه القاعدة موجودة أصلا وهذا التّأسيس ممكن تصوّره وحدوثه؟
سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال الخطاطة الآتية: العوامل والدّواعي التي أسّست لمبحث أخلاقيّات المناقشة، ثمّ المعايير والمرتكزات، ونختم بخلاصة مركّزة لما تمّ تحليله ومناقشته.
دواعي ميلاد مبحث أخلاقيّات المناقشة
في هذا السياق المأساوي الممكن التأريخ له انطلاقا من إعلان نيتشه «موت اللّه» إلى إعلان عموم البنيويين «موت الإنسان» إلى إعلان موت «الحكايات الكبيرة» (جان-فرانسوا ليوتارد)، برزت نزعتان فيما يخصّ فلسفة الأخلاق المعاصرة: نزعة من يستهجن أصلا طرح السّؤال في هذا الصّدد منكفئا على الشّذري والمتعدّد والمختلف، ويقف بالتّالي على حافّة العدميّة؛ ونزعة من يريد إعادة البناء لقيم التّنوير الأصليّة : الحرّية والعقل والتّقدّم.
بهذا المعنى يغدو النّقاش العملي أداة ذات مكانة جوهريّة في سَنّ المعايير وتبريرها، لأنّ التّبرير عمليّة بيذاتيّة تداوليّة غير منفصلة عن الاجتماع؛ كما أنّه وسيلة ملائمة لتأسيس تصوّر مجتمع حداثي في عصرنا هذا، عصر تراجع دور التّقليد والعادات في شدّ أواصر العلاقات الاجتماعيّة؛ عصر تعدّد المعتقدات والأعراف والتّجمّعات داخل نفس المجتمع؛ عصر تصاعد النّزاعات الدّوليّة ممّا يهدد الاستقرار والسّلم العالميين؛ عصر تصاعد المصالح  التّجاريّة والاقتصادية؛ عصر الاستغلال المفرط للبيئة وتفاقم الاحتباس الحراري الكوني. 
من هنا تأتي أهمّية أخلاقيّات النّقاش والحوار، فمعاييرهما هي ما قد يكفل التّوازن الدّولي ويدعّم تنمية المجتمعات، ذاك هو رهان أخلاقيّات النّقاش شريطة اجماع الكلّ على قواعد ومعايير وضوابط يلتزم بها المتحاورون في إطار فعل تواصلي.
وقد دعّم «هابرماس» أطروحته هذه بالنّظريّة الحجاجيّة، فاستمد منها القواعد الصّوريّة التي يجب على المتحاورين الالتزام بها قصد تحقيق الاجماع أو اتفاق العقول. ويمكن اجمال دواعي ميلاد هذا المبحث في الآتي: 
أولا: الأزمة الإيكولوجية (آبل)
 ثانيا: اتساع الهوّة بين الشّمال والجنوب (الفقر)
ثالثا: التّحكّمات الصّناعيّة والتّكنولوجيا المختلفة.
رابعا: تأسيس الأخلاق تأسيسا عقلانيّا .
خامسا: أزمة العلم والتّقنية .
سادسا:  التّعدّديّة الثّقافيّة وما تطرحه من تحدّيات أمام التّضامن الاجتماعي (2).  
معايير أخلاقيّات المناقشة:
إنّ «أخلاق المناقشة» في المنظور الذي أسّس له «آبل» و«هابرماس» تقدّم إجراءات ومساطير كونيّة تفرض على المتناقشين -منذ البدء وضرورة- الالتزام بقيم كونيّة شاملة تبرّر الفعل الأخلاقي في حدّ ذاته. إنّ المهمّ ليس «مضمون» الفعل الأخلاقي ولكن صلاحيّته sa validité المستندة بدورها إلى معايير أربعة (3) : 
• المعقوليّة intelligibilité، أي التّخاطب بجمل مركّبة تركيبا صحيحا ومحترمة لقواعد اللّغة المستعملة ومستوفية لشروطها.
• الحقيقة vérité ، أي وصف حالة واقعة موجودة وليست مستوحاة من الخيال.
• الصواب justesse، أي القدرة على تقديم أحكام نقدّية دقيقة ومشروعة حول عالم التّواصل الاجتماعي باعتباره مجموع علاقات موضوعيّة غير مشخصنة ولها شرعيّتها الذّاتية.
• الصدقيّة sincérité، أي التّعبير عن نوايا محدّدة وبطريقة صادقة بعيدة عن التّضليل والكذب والحذلقة الكلاميّة وبدون سفسطة.
ووحدها المعايير القابلة لأن تلقى قبول كلّ المشاركين في مناقشة عمليّة يمكنها ادعاء الصّلاحيّة، وهذا هو المبدأ «ميم» [المناقشة]، ويضاف إليه المبدأ «كاف» [الكونيّة] الذي ينصّ على أن تتوفّر هذه المعايير على مبدأ الكونيّة بحيث تحظى بموافقة الجميع دون ضغط أو إكراه، وتسهّل عمليّة تحمّل النّتائج والتّأثيرات النّاجمة عنه من طرف جميع الأشخاص المعنيين.
وتمثّل هذه المبادئ والمعايير دون شكّ «حالة مثاليّة للكلام» يرى فيها «آبل» قاعدة تأسيسيّة لنوع من التّداوليّة «التّرنسندنتاليّة» بحيث تفرض «أخلاق المناقشة» شرطيّا على الأفراد بمجرد انخراطهم في مناقشة تقوم على أساس المبادئ والمعايير أعلاه. وهذا ما يمثّل نوعا من الفلسفة الأخلاقيّة المفارقة المكتفية بذاتها. 
وعليه يكون عمل الفيلسوف في هذا المنظور التّنبيه إلى التّناقضات الكلاميّة الإنشائيّة التي تعيق ممارسة العقل الحجاجي الكوني لدوره في مجالات التّواصل البشري. وهذا ما ينتقده «هابرماس» الذي يرى أنّ دور الفيلسوف هو وصف المسار الأخلاقي الذي ينشأ ويتكوّن وليس تقريره وفرضه. هذا المسار العينيّ الذي لا يمكن أن يكون إلاّ نتاج فاعلين عينيّين. ومن هنا جاء تطويره –سوسيولوجيّا- لنظرية الفعل التّواصلي.
مرتكزات المعايير الاخلاقية
السّؤال الأساسي لتلك الأخلاقيّات هو: «على أي مرتكز يمكن تأسيس المعايير والأوامر؟»
المعايير الأخلاقيّة هي تلك التي يقبلها أعضاء الجماعة التّواصليّة المعنيّون بها، بحيث تراعي مصالحهم المشتركة ويكون لها طابع كوني. 
كان «هابرماس» يهدف بانفتاحه على النّظريات الحجاجيّة الى تأسيس مبدأ استدلالي في أخلاقيّات النّقاش، يشبه ذلك الموجود في العلوم الحقّة. ومن القواعد التي اقترحها «هابرماس» (4): 
-1  لكلّ فرد قادر على الكلام والفعل نصيب كامل في النّقاش.
-2 لكلّ الحقّ في إثارة أي إشكال أو اعتراض على أيّ تأكيد كيفما كان، ويندرج ضمن هذا الحقّ حقّ الاعتقاد في آراء ما والتّعبير عنها.
-3 لا يحقّ منع أيّ كان من المتحاورين من النّقاش ولا استعمال أسلوب الإكراه عليه.
تفترض جميع هذه القواعد المشاركة والنّديّة بين المتحاورين: لكلّ الحقّ في أن يدلي بدلوه ويفصح عمّا عنده دون تضييق أو مضايقة قصد تحقيق الإجماع.
إضافة الى القواعد السّالفة، زاد «هابرماس» قاعدتين أخريين في صيغة افتراضيّة مفادهما أنّ الدّعاوى المعياريّة للصّلاحيّة تتضمّن معنى معرفيّا، ويجوز التّعامل معها بوصفها دعاوى للحقيقة؛ لذا ضرورة الدّخول في نقاش حقيقي لتأسيس المعايير والأوامر اعتمادا على العقل المتواصل المتحاور وليس على العقل الفردي، وتعني صفة المعرفيّة أنّ الشّيء قابل للقبول أو الرّفض خلال عمليّة الحوار التي هي أخذ وردّ.
إنّ التّركيز في أخلاقيّات النّقاش على أهمّية الحجّة والحجج في صياغة المعايير الأخلاقيّة والاجتماعيّة دفع البعض الى القول بأن أخلاقيّات النّقاش ما هي، في حقيقة أمرها، سوى تداوليّة فلسفيّة صيغت على شكل منعطف لساني تداولي أساسه التّشديد على أهمّية القوّة غير القسريّة للحجّة الأقوى.
تهتم أخلاقيّات النّقاش عند «هابرماس» بمعايير الفعل التّواصلي، وهو أمر لن يتمّ، بالنّسبة لهابرماس الاّ في إطار الدّولة الدّستوريّة، حيث يكون بإمكان المواطنين المشاركين في سياسة تشاوريّة أن يصلوا الى تأسيس معايير تُحظى باحترام الجميع وقبولهم، فالمعايير ليست قرارات شخصيّة، بل هي مؤسّسة على إمكانيّة تبريرها تبريرا عقلانيّا اعتمادا على عمليّة حواريّة حجاجيّة. لذا فخلافا للتّمييز اللّفظي الشّهير بين العقل الخالص والعقل العملي، يعمد «هابرماس» الى دمجهما في بعضهما؛ أي أنّ صلاحيّة المعايير الأخلاقيّة يحكمها تصوّر عملي ذو صلة بممارسة النّقاش والحجاج، أي تقوم في الواقع على الاعتراف بالمعيار في إطار نقاش يعترف ضمنيّا به وتقبله جميع أطراف الحوار، ثمّ أنّ ما يهم «هابرماس» هو سنّ معايير كونيّة قادرة على حلّ المشكلات التي فيها تتخبّط البشريّة وتعمّق ثقافة السّلام بين الأمم والشّعوب. وعليه، فإنّ أخلاقيّات النّقاش، هي في العمق، أخلاق المسؤوليّة، بمعنى؛ أنّ الجميع مطالب بأن يتحمّل مسؤوليّته التّاريخيّة في وضعيّة عالميّة لم تعهدها البشريّة من قبل كما لا يمكن تصوّر نتائجها على الأجيال المقبلة.
نخلص الى القول بأنّ مبحث أخلاقيّات المناقشة عند «هابرماس» يعتبر من بين أهم المباحث الذي عمل على تطويره في فلسفته التّواصليّة، وذلك بالاستناد إلى عدّة مرجعيّات أبرزها: الفلسفة الكانطيّة واللّيبراليّة السّياسية عند «راولز»، لكنّ هذا المبحث الذي اشتغل عليه «هابرماس» لم يكن يتعلّق فقط بما هو أخلاقي، بل بما هو سياسي أيضا، إلى حدّ اعتباره من قبل البعض على أنّه مبحث سياسي صرف، لكنّ «هابرماس» نفى هذا الاعتبار في كتابه «الحقّ والدّيمقراطيّة: بين الوقائع والمعايير» حيث بيّن حدود كلّ من نظريّة «أخلاقيّات المناقشة» وكذا نظريّة «الدّيمقراطيّة التّشاوريّة».
وإذا كانت فترة الثّمانينات من القرن المنصرم قد تميّزت باهتمام «هابرماس» بالفلسفة الأخلاقيّة لتطوير نظريّة الفعل التّواصلي في إطار مبحث أخلاقيّات المناقشة، فإنّ فترة التّسعينات وما بعدها هيمن فيها حضور الفلسفة السّياسيّة في اهتماماته الفلسفيّة، ويعدّ كتاب «الحقّ والدّيمقراطيّة: بين الوقائع والمعايير» أهمّ عمل فلسفي له في هذه المرحلة، فقد اعتبره نقّاده بمثابة ملحق سياسي لنظريّة الفعل التّواصلي، لأنّه طوّر فيه نظريّته استنادا الى مكتسبات أخلاقيّات المناقشة ومنطلقاتها، وتمثّل فكرة الدّيموقراطية التّشاورية أهمّ فكرة أبدعها «هابرماس» في هذا العمل.
الهوامش
(1)  هذه قصيدة مشهورة للشاعر الإنكليزي إليوت.
(2) محمد عبد السلام الأشهب، أخلاقيات المناقشة ،دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع ، ط 1 2013، ص ،23-27.
(3) عثمان أشقرا ، «أخلاق المناقشة وإعادة بناء التنوير» ، http://www.alawan.org
(4)  أفاية محمد نورالدين ، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، الدارالبيضاء، 1991،