بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
من التّفسير إلى التّفكير - سورة الفيل أنموذجا الحلقة 3 : قصّة الفيل في الموروث التّاريخي 2/2
 يشير «محمّد المسيّح» إلى أنّ معركة تعرف باسم «أفاراير» قد وقعت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة للميلاد وكانت بين جيش الفرس السّاسانيين والأرمن وهي المعروفة بأصحاب الفيلة. وكان جيش الأرمن يدين بدين المسيح. وفي هذه المعركة انتصر الأرمن بالرّغم من قلّة عدّتهم وعددهم. فكان هذا الانتصار دعما لدينهم وعقيدتهم. ومازال الأرمن إلى يوم النّاس هذا يقيمون الاحتفالات تخليدا لانتصارهم على الفرس في كلّ سنة وبالتّحديد في شهر فيفري ويسمّون هذا الاحتفال بعيد القدّيس «فارطان ماميكونيان» لأنّ هذا البطل ومن معه استشهدوا في لقائهم مع الفرس في سبيل الأرض والعقيدة. 
ويروى أنّ معركة أخرى جرت بين الأرمن والفرس سنة إحدى وتسعين وخمسمائة للميلاد وكان بهرام الفارسي(2) قد استخدم فيها الفيلة، وهي معركة تُسمى بمعركة «بلاراثون». وتشير بعض الرّوايات إلى أن محمّد بن عبد اللّه الّذي سيكون نبيّا آنذاك كان عمره عشرين سنة. إلاّ أنّ الرّوايات الفارسيّة تعمد إلى الاستفادة من ربط ولادته بحادثة الفيل، حيث جرت معارك ضدّ الأرمن الّذين كان يحكمهم موشق الثّاني. وقد عمد المؤرّخ «سيبيوس»(3) إلى ذكر نص الرّسالة الّتي بعث بها القائد بهرام إلى الملك موشق الثّاني وهي الّتي يهدّده فيها بالقضاء على قوّته وقوّة بيزنطة الّتي تدعّمه بواسطة الفيلة. كما أورد هذا المؤرخ ردّ موشق الثّاني على بهرام. وفي هذا الصّدد يشير «محمّد المسيّح» إلى أنّ نص هذه الرّسالة محفوظ في معهد ماتدنداران للمخطوطات القديمة في أرمينيا. وقد أطلق اسم «بهرام» على ستّة ملوك ساسانييّن(4). ويلاحظ أنّه رغم التّقارب اللّفظي بين اسميْ «بهرام» و»أبرهة» فإنّ العلاقة بين الشّخصيْن غير واردة. ولا غرابة في أنّ الاسميْن يتشابهان مع اسم «إبراهيم» في البنية الصّوتية. 
جاء «بهرام» لمهاجمة «فاريدان» بجيش من عشرين ألف رجل ومعه العديد من الفيلة. ووقعت معركة شديدة في سهل «اكسلاماكس» وانتصر الأرمن فيها على الفرس انتصارا ساحقا واستولوا على جميع الفيلة. هرب بهرام مع من نجا من الرّجال إلى بلاده. لقد كانت معركة شرسة لكنّ الرّب ساعد على هزيمة الفرس إذ تمّ سحقهم ولم يعرفوا طرق الفرار رغم ذهابهم إلى ضفاف الفرات لتحصين أنفسهم، لكنّ المياه الّتي انتفخت حملت معها العديد من الفارّين مثل سحابة من الجرّاد ولم ينجُ إلاّ عدد قليل(5). إنّ استعمال الفيل في المعارك، ولاسيّما في الغابر منها يجد له أثرا، فقد أشار «جون إم. كيستلر»(6) في كتابه «حروب الفيلة» إلى أن قصّة الإسلام ارتبطت بحادثة الفيل سنة إحدى وسبعين وخمسمائة للميلاد. وفي كتابه هذا يذكر تفاصيل المعركة المعروفة بين مكّة واليمن وما بينهما من احتقان ديني(7). وفيه أيضا ذكر لحروب الأفيال على امتداد أكثر من ثلاثة آلاف عام. فإذا تفاخرت الجيوش الآسيويّة بقوّتها، فإنّ الرّومان قد تفنّنوا في إرسال الأفيال إلى جانب جحافلهم الأسطوريّة. وقد اعترفوا بأنّ هذا الحيوان قد ساهم في انتصاراتهم. وللفيلة أدوار منسيّة في النّهوض بالحرب. والتّاريخ قد سجّل هذه الأدوار المهمّة المتمثّلة في التّخزين والتّجريف وشحن البضائع. كلّ ذلك قبل اكتشاف المركبات والبارود. والمؤلّف يعالج ما تضطلع به الفيلة من إخافة الأعداء وما تعلّق بها من حيَل الحرب. والفيل نوع من الحيوان شاهد على الكثير من التّضحيات، يقاتل من أجل حياة الأسياد، وهو اليوم في أشدّ الحاجة إلى الحفاظ على حياته.  
إنّ الطّريف في قصّتيْ بهرام وأبرهة، المشار إليها آنفا، بالإضافة إلى التّقارب الحاصل بين اسميْهما في المستوى الصّوتي كامن في التّشابه القائم في علاقتهما بالسّلطة المركزيّة، إذ انقلب الرّجلان على الحاكم. فأبرهة تمرّد على النّجاشي وبهرام انقلب على الملك الفارسي «خسرو الثّاني» الّذي حكم بين سنتيْ 590م، 628م، والّذي تحالف مع المسيحيين للإطاحة بالعدوّ المشترك وهو القائد بهرام. وثمّة نقطة التقاء أخرى بين القصّتيْن تتمثّل في المآل الّذي صار إليه الرّجلان فبهرام انهزم أمام التّحالف البيزنطي الفارسي وأبرهة تحطمت جيوشه أمام الطّيور غير المنتظرة. 
ولقد أشار المؤرخ «سيبيوس» في تاريخه إلى أنّ بهرام أرسل رسالة يهدّد فيها موشق الثّاني بعدم التّحالف مع «خسرو الثّاني» الّذي قوّى من جانبه حين استعان بجيش الرّوم. وكانت رسالته تنهض على التّهديد  تحذيرا من مساندة «خسرو الثّاني» معتبرا أن كنوز البلاد كافية لنا جميعا وهي طريقة في الإغراء. وفي الحالة الّتي لا تتجاوبون فيها معي بناء على عدم ردّكم على رسالتي الأولى، فإني سأوّجه لكم غدا فيلة ثائرة يركبها جنود مسلّحون تسليحا جيّدا وسيُمطرون عليكم رماحا من الحديد ونبالا مرسلة من أقواس موترة جيّدا بزنود شُبان أقوياء موجهة لخسرو ولكم.
 وإزاء هذه الرّسالة المفعمة بالتّهديد ردّ موشق الثّاني بجواب يفيض بالطّاقة الإيمانية والثّقة باللّه، ونصّ هذه الرّسالة الردّ هو: «لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا. واللّه يعطي النّصر لمن يشاء. فعليك أن تشفق على نفسك لا علينا، فأنت طاغية وجاحد لا تعتمد على اللّه، ولكن على قوّة فيَلتك. إنّي أؤكد أنّه، إذا أراد اللّه، فغدا سترى حربا قويّة وسيطوق الشّجعان والأبطال، وسيهجمون عليك وعلى فيلتك مثل سحاب السّماء من الأعلى. سينقضّون عليك مثل البرق اللاّمع والرّعد القاصف. أبطال مسلّحون يركبون خيولا بيضا «بلقا» ومسلّحين برماح قويّة يمرّون وسط الجنود مثل البروق الّتي تحرق أشجار الغابة الخضراء أو اليابسة بالنّار الّتي تسقط من السّماء على الأرض، إذا أراد اللّه، فإنّ ريحا قويّة ستعصف بجيشك وتذروه من التّراب المتطاير في الهواء»(8).
إنّ الدّارس يلحظ الفارق النّوعي في طبيعة الخطابيْن الوارديْن في الرّسالتيْن: الخطاب الأوّل حربي تهديدي والخطاب الثّاني ديني مسالم. ولا غرابة حسب محمّد المسيّح في أن تكون الرّسالة الرّد من صناعة أحد الرّهبان الّذي أراد إضفاء صبغة القداسة الرّبانيّة على بعض الحروب بواسطة جنود من السّماء، مبرّرا ذلك بكونه معتقدا معروفا عند أهل الكتاب مثلما ورد في كتاب «المكابييّن الرّابع» الّذي يشير إلى قصّة الحاكم الاغريقي الطّاغية «أبولونيوس» حاكم سوريا وفينيقيا وهو الّذي اضطهد اليهود. وفي هذا الكتاب ورد: «وما أن وصل أبولونيوس حتى أعلن أنّه جاء بأمر الملك سلوقس ليضع يده على مال الخاصّة الّذي وُضع في كنز الهيكل. لمّا سمع شعبُنا هذا الكلام تذمّر واحتجّ، واعتبر ظلمًا فادحًا أن يُسلب أولئك الّذين سلّموا ودائعهم إلى الكنز المقدّس، وفعلوا كلّ ما في وسعهم لكي يمنعوه، فتوجّه أبولونيوس إلى الهيكل مهدّداً. فاجتمع الكهنة والنّساء والأولاد في الهيكل، وتوسّلوا إلى اللّه ليحمي المكان المقدّس الّذي يتنجّس وإذ كان أبولونيوس داخلاً مع جيشه المدجّج بالسّلاح ليسلب المال، ظهر من السّماء ملائكة يمتطون الجياد ويرتدون الأسلحة اللمّاعة. فامتلأوا خوفًا ورعدة، وسقط أبولونيوس شبه ميت في رواق الأمم. ورفع يديْه إلى السّماء، وتوسّل باكياً إلى العبرانيّين، ليصلّوا من أجله، ويُرضوا القوّات السّماويّة. قال إنّه أخطأ، وهو يستحقّ الموت. فإن نجا أنشد أمام البشر جميعا بركات المكان المقدّس. تأثّر عظيم الكهنة أونيا بهذه الأقوال، وخاف أن ينسب الملك سلوقس موت أبولونيوس إلى مؤامرة حاكها البشر، لا إلى غضب اللّه، فصلّى من أجله  فنجا أبولونيوس بمعجزة، ومضى يُخبر الملكَ بما حصل له»(9). ويذكر هذا الكتاب قصّة أخرى شبيهة بالقصّة السّابقة  وهي حكاية  «بطليموس فيلوباتير» الّذي هدّد اليهود وتوعّدهم بالانتقام. فأمر بأن يُداس أولئك اليهود بأقدام خمسمائة من الفيلة الثّملة. فلما حان وقت التّنفيذ لقتل اليهود، صلّى هؤلاء إلى اللّه بقيادة كاهن عجوز يُدعى «أليعازار»، فنزل ملكان من السّماء أفزعا الفيلة فتحوّلت إلى جنود الملك وقتلت عدداً منهم، ممّا جعل الملك يندم ويتوب إلى اللّه ويُطلق سراح اليهود.
ونخلص ممّا سبق إلى أنّ حروب الفيَلة تعود إلى تاريخ قديم وهي حروب مكرّرة بين الفرس والرّوم. وأنّ النّصر الإلهي حاضر بقوّة ولاسيّما إذا تعلّق الأمر بالاعتداء على المعالم الدّينيّة. والنّتيجة هي حجم الانتقام الإلهي من الأعداء الظّالمين بطريقة تفوق المقاومة البشريّة. وضمن هذه القصص الحربيّة الّتي تُستخدم فيها الفيَلة، تتنزل علاقة اليمن المسيحيّة بمكّة وهي علاقة متوتّرة. وهذه العلاقة ستمثّل إطارا ملائما أمام المفسّرين لاستثماره في تفسير سورة الفيل. ومن غير المستبعد أن تتكرّر الأحداث في التّاريخ بصورة متشابهة أو متقاربة أو أن تُنسج القصص بَعديّا من بعض المؤرّخين أو القصّاصين لتمثّل إخراجا مناسبا لظاهر النّصّ المقدّس الّذي هو ليس بكتاب تاريخ. ولغته إيحائيّة غير معنيّة بالتّحليل والتّوسع. ومن غير المستبعد أنّ قصص الفيَلة في العهديْن القديم والجديد هي الّتي تركت أثرا وجّه حركة التّفسير الأولى وجهة تحتاج إلى مزيد المراجعة والنّقد. 
الهوامش
(1)محمد المسيح باحث و عالم مخطوطات مغربي من مواليد مدينة فاس انتقل إلى اوروبا عام 1989 و عمل في جامعات عديدة مهتم في التاريخ الإسلامي المبكر.
(2) بهرام هو اسم مشترك أُطلق على ستة ملوك ساسانيين، ذكره أبو تمّام في شعره. وهو اسم ملك في الدّيانة الزرادشتية، واليوم العشرون من السّنة الشّمسية. وهو يعني عند الفرس كوكب المريخ. انظر شاكر كسرائي، قاموس فارسي عربي، الدار العربية للموسوعات، بيروت، لبنان، ط1، 2014، ص92.
(3)سيبيوس هو مؤرخ وأسقف أرميني عاش بين سنتيْ  634 و661 للميلاد في بلاد أرمينيا، و قيمة كتبه تعود إلى  معاصرته الأحداث الّتي أرخ لها رغم ما حما حول هذه الكتب من شكوك في نسبتها إليه. لقد سجّل هذا المؤرخ تاريخ أرمينيا والبلدان المجاورة لها في القرن السادس للميلاد ولاسيّما سيادة الساسانيين على أرمينيا حتّى مجيء الفتخ الإسلامي سنة 661م. نُشر كتابه في التّاريخ أوّل مرّة سنة 1851 في اسطنبول.V. Jannic Durand, Ioanna Rapti et Dorota Giovannoni , Armenia sacra - Mémoire . chrétienne des Arméniens (ive–xviiie siècle), Somogy/ Musée du Louvre, Paris,2007.                            
وانظر حسيبة عيادي، كتاب «تاريخ هرقل» أقدم مصدر لتاريخ الفتوح الإسلامية عرض ونقد وتقييم، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، مقال منشور بمجلة آفاق العلوم، عدد7228، بتاريخ جانفي 2019، ص ص71،63. 
(4)  Encyclopédie de l’islam, éditions  maisonneuve  et Larose S.A, 1991, CL.HUART-H.MASSé, article « BAHRAM », p967   
(5)      V.Frédéric Macler, Histoire D’Héraclius par L’évêque Sébéos, traduite de l’arménien et annotée, Paris imprimerie nationale, Ernest Leroux, 2011, chap1, pp3,6                                                          
(6)جون إم. كيستلر كاتب حر يدير شركة صغيرة. حصل على شهادة في اختصاص الفيلة من مركز الحفاظ على الأفيال في تايلاند.
(7) V.John.M. Kistler, war elephants, Amazon. Com, Inc                
(8)     Sebéos, histoire d’Héraclius, traduite de l’Arménien et Annotée par Frederic Macler, Paris, Impremerie nationale, Ernest Leroux,  Editeur, rue de  Bonaparte, 28, chap1, p3 et suivante                                                             
(9) سفر المكابيين الثّاني، 5،18.