نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
الكتاب إرشاد للعقول التّائهة و علاج للأنفس التّالفة..
 ليست القراءة في الكُتب مجرَّد استجلاءِ للمعاني الفكريّة أو استقصاءً للحقائق الواقعيّة، وإنّما تخطّ فينا طبيعة رؤيتنا إلى العالم وكيفيّة الفعل فيه، فالحضارات القائمة والحضارات المندثرة بدأت سفرها في الوجود انطلاقا من الكتاب، فدوما هناك الإقرار الخالد : «في البدء كان الكلمة». 
إنَّ الكتاب ليس هو تلك التَّوليفات الورقيّة أو الرُّموز المرسومة، إنّه يحمل روحا لطيفة وقُدرة نافذة تخترق قلب الإنسان؛ فتحوّلـه إلى شخـص ذي مبـدأ ورسالــة في الحياة.
إنَّ الكتاب يُغَير القارئ أوَّلا، ويخلق في وعيه حرارة المعرفة، ويَدفع به إلى الفعل والأثر في الواقع ثانيا، وكم يقُصُّ علينا التَّاريخ نماذج حضاريّة وإنسانيّة؛ كان الكتاب هو الأثر الحاسم في تغييرها، فميلاد الأديان ارتبط دوما بالكُتب، التَّوراة في اليَهوديّة والإنجيل في المسيحيّة والقرآن في الإسلام.
وفي التّراث الفكري كانت الكتب دوما عوامل تغيير ووسائل ناجعة لاستخراج الكنوز الدّفينة من ذات الإنسان، وبواعث معينة على استكداد الفكر واستثبات السّلوك على قيم التعلُّم؛ فالكتاب في الأصل هو من يقرؤنا ويُعيد تجديد حياتنا، ولسنا نحن من نقرأه.
إن القارئ الحقيقي هو الكتاب، والمقروء الحقيقي هو نحن، ولذا، فبقدر ما نتّجه نحو الكتاب، بقدر ما نكون محلّ خطاب من خارج الذَّات يرغب في تغييرنا.
خلاصة الأمر : أنّ الكتاب لا يريد إلاّ تغيير الإنسان وتجديده، يبيّن له ويقصُّ عليه القَصَص؛ ويُنَوّعُ في أساليب حواره، تدليلا عقليّا وتخييلا إبداعيّا. والشَّواهد متواترة في السّياقات الثّقافيّة كذلك، ففي سياق الثّقافة الإسلاميّة كان كتاب « تهافت الفلاسفة» الذي كتبه أبو حامد الغزالي، دافعا لابن رشد كي يكتب عنه « تهافت التَّهافت»، وكان كتاب الفيلسوف الألماني  شوبنهاور «العالم كإرادة وتمثل» الدّافع الحاسم لفريدريش نيتشه؛ في النّظر إلى العالم وبناء رؤية تأويلية تُبَوئُ الإرادة منزلة رفيعة، وفي ألمانيا، كان الفيلسوفان «أدورنو وهوركهايمر» يلتقيان وقت المساء في لقاء ثنائي تفاكري  لأجل قراءة كتاب إيمانويل كانط « نقد العقل الخالص»، وما لبث أن انظم إليهما فلاسفة أُخَرْ، فكانت الثَّمرة هي إنشاء معهد البحث الاجتماعي  في سنة 1923 الذي يُعَدُّ اليوم في صورة مدرسة فرانكفورت، وهي حاليا في جيلها الخامس ومن أقوى المدارس تأثيرا في الفلسفة والعلوم الاجتماعية .
إنَّ القراءة هنا هي جمع وضمّ، تجمع النُّصوص والمعاني، وتجمع الأفراد كي تحوّلهم إلى أشخاص فاعلين في المجتمع. ولقد كان مالك بن نبي في الفكر الجزائري يعالج التّيه الفكري عند الشَّباب بالكتـاب، وقد أورد في مذكّرات شاهد القرن كيف أنّ الشّاب «عبد العزيز الخالدي» أثَّرت فيه بعض الاتجاهات اليَساريّـة في مدينة عنابة لمّا كان طالبا في الثّانويّـة، فاختار له «بن نبي» كتاب « هكذا تكلّم زرادشت» كي يحـرّره من سطـوة اليساريّـة ويعيد له الثّقـة بنفسـه، لأنّ الإنسان الأعلى عند نيتشه ضدّ ثقافة الجُموع التي تكره المبدع وضد ثقافة العناكب التي تنادي بالمساواة المسطّحة. وهكذا؛ فالكتاب هو وسيلة علاجيّة للنَّفس التائهة . 
ويجدر القول أيضا، في سياق الدّور الحاسم للكتاب، أن أحد أسباب العنف بين الأفراد، هو فقدان الرّصيد اللّغوي الذي يتواصل به الحوار بينهما، ومعلوم أنّ من يفتقد للكتاب، يفتقد حتما لثروة لغويّة وعقليّة اتساعيّة ، فكان الأسلوب العلاجي لهذه الأنفس التّالفة؛ الإلزام بالقراءة في السُّجون، لأجل تحصيل رصيد من الثّروة اللُّغوية تُعِينُ النّزلاء على تعليم فنّ الحوار والتَّعايش مع الآخرين وتوسيع النَّظرة وترسيخ العفو والتّسامح . 
إنّ الذي يفتقد للكتاب ولم يتعود على القراءة يحمل في ذاته النُّزوع نحو العنف، وفي المقابل، فإنَّ الذي يحبّ الكتاب ويَحمِل نفسه على القراءة، يكون نَزُوعَا نحو الصَّفح والتَّوادُدِ والتَّحَابُبِ والتَّآلف والدّفع بالتي هي أحسن؛ ويكون أكثر استعدادا للبناء وليس للهدم . وأمام هذا فلا عجب أن نجد بعض الفلاسفة اعتبروا أن اللُّغة هي مأوى الكائن أو أنّ روح الإنسان تَسْكُن الحرف وتقيم فيه كما تقيم في العالم .
وإذ عُرفت قيمـة وأهمّيـة الكتـاب، وبانت أدواره العلاجيّــة، فإنّ التّفكير العاجل يكون في رسم أساليب لتشجيع عـادة القـراءة واستثبـات قيمـة الكتـاب في القلب، وانطلاقا مـن موقعي كأستاذ في الجامعة، أقول، بأنّ الجامعة هي مؤسّسة تعليم القراءة، وليست مؤسّسة حشو الأذهان بالمعارف، فالأستاذ الجامعي الذي لا يقرأ، والطَّالب الذي يكتفي بمقرّره الدراسي والمكتبـة التي لا تتجدّد ولا تنفتح أو تقتني الإصدارات الجديدة، تصبّ كلّها في تأخير المجتمع وتنمية تخلفه، وتعطيل قوّة العقل وحركته نحو الإبداع. 
وجدير بالملاحظة في الأخير، أنّ هذا الشّأن الجليل أو المنزلة الرّفيعة للكتاب، لا يُراد منها القراءة لأجلها، وإنّما لأجل التَّغيير الاجتماعي وتحرير العقل من التَّقليد والإتباع والاشتراك مع الغير من أجل إصابة المعرفة النَّافعة نظريّا والتحلّي بالسُّلوك الفاضل عمليّا.