بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
كنوز التراث (1/4) الثّقافة ذاكرة ومشروع
 ليس من المبالغة القول إنّ أبا عثمان عمرو الجاحظ(1) يظلّ معاصرا لنا رغم أنّ أكثر من عشرة قرون تفصلنا عن الفترة التي عاش فيها وألّف فيها كتبه ورسائله العديدة في الفكر والعلم والأدب. 
كان من عشاق الكتب، يقرأ بذكاء ودون ملل ما اتصل بالشّعر والفلسفة والكلام والتّاريخ والطّب، فضلا عن ارتياده مجالس العلم في البصرة وعن سعيه إلى سوق المربد الأدبيّة لينصت إلى الشّعراء والأدباء وإلى العرب الخلّص وما يروونه من أشعار ونوادر وأخبار. لذلك كانت آثاره مجسّدة لثروة معرفيّة وثقافيّة هائلة في تنوّعها إذ اعتنت بمسائل العقيدة الإسلاميّة والمنطق والجغرافيا والعلوم ممتزجة بقضايا حضاريّة واجتماعيّة كالتّعليم وصناعة القُوّاد ومناقب التّرك والسّود، إلى جانب الاهتمام بالجواري والقيان والجدّ والهزل والأدوية والأغذية.
في ذلك كان الجاحظ ابنا للبصرة في قرن من قرونها الزّاهية، متشرّبا روح تلك الحاضرة التي تلتقي فيها مُدخلات الثّقافة العربيّة مع جهود التّرجمة في حرص أكيد على تمثّل الثّقافات الفارسيّة والهنديّة خاصّة من أجل توسيع آفاق الفكر والأدب واللّغة والرّواية. 
كان معاصرا للحظته التّاريخيّة بكلّ وهجها، إذ كان معبّرا عن حركة وعي فكري يمكّن من معرفة العصر بقطع النّظر عن الانسجام مع أوضاعه أو عدمه. كان ذلك يتيح لكلّ من ينصت إليه أو يقرأ آثاره أن يكتشف بنفسه قدراته الخاصّة بما تدفع إليه تلك الآثار من ضرورة إيجاد مسافة بين الإنسان المثقّف وبين ما يُعرض عليه. 
ذلك ما جعل عموم كتبه ومؤلّفاته متميّزة بآليّة التّنوع في الاهتمامات والتّفاعل بين القضايا الفكريّة والثّقافيّة والحرص على تفعيل عقله وعقل القارئ بالتّركيب بين التّندّر والتّفكّه وبين البحث والتمحيص والنّقد.
هذا ما جلب على الجاحظ نقمة الفكر المتخصّص الأحادي، الواثق في نظره، الرّافض الخوض في القضايا المتشابكة لمراجعتها وإعادة النّظر فيها. كان يثير حفيظة أصحاب ذلك الفكر، فيدفع بهم إلى أشدّ التّضايق من هذا النفَس المكرّس لروح الجدل الثّقافي الذي لا يمكن أن يورث- في نظر أولئك الخصوم- إلاّ حرصا على الانفكاك عن رابطة الجدّية والتّقليد والالتزام. لقد كانوا ينظرون حتّى إلى هزله بعين السّخط، لأنّ الهزل في مواقع الجدّ يؤدّي إلى إبراز التّناقضات الكامنة ويكشف عن دقيق التّباينات، فيكون سبيلا لإذكاء العقليّة النّقديّة. 
خلاصة موقف الجاحظ هو الإعلان عن عقم التّخصّص المقيت بالانخراط في مختلف مجالات الفكر ليضحي ناقدا أي أكثر إنسانيّةً، فلا يفهم الجدّيّة على أنّها وثوقيّة مطلقة أو تزمّت فكري.
هذا ما جعله يقول: «اعرف مواضع الشَّكّ وحالاتها الموجبة لها لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وتعلَّم الشَّك في المشكوك فيه تعلُّماً، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرُّف التَّوقُّف ثُمَّ التَّثبُّت، لقد كان ذلك مما يُحتاج إليه. ثمَّ اعلم أنَّ الشَّكَّ في طبقاتٍ عند جميعهم، ولم يُجمعوا على أنَّ اليقين طبقات في القوَّة والضَّعف»(2).‏
هكذا كان الجاحظ يصنع جمهورا يترقّب المعرفة ويسعى إليها لكون رجل البصرة أتاح لذلك الجمهور أن يكتشف من خلال المعرفة والثّقافة خصوصيّته الإنسانيّة التي تجعله مشرفا على موقع متميّز في العالم. لقد اتضح بذلك أن غاية الثّقافة عند الجاحظ هي تربية وعي ذاتي بالاتجاهات العامّة في الحضارة تمكّن المثقّف أن يختار بينها ويقف موقفا نقديّا منها. من ثمّ ربطت ثقافة الجاحظ بين من يستوعبها وبين أخصّ خصوصيّات الإنسان ألا وهي التّاريخ. 
كتب في مؤلّفه «الحيوان» عن وظيفة الكتب وما تحقّقه من توارث الخبرة والحفاظ عليها ومن المساهمـة في تنميتة التّراث الثّقافي للمجتمعــات. قـال: «ينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا كسبيل من كــان قبلنا فينا، على أنّا قـد وجدنــا من العبرة أكثر ممـا وجـدوا كما أن من بعدنــا يجــد من العبرة أكثر مما وجدنا، فما ينتظر العالمُ بإظهار ما عنده وما يمنع الناصرَ للحــق من القيـام بما يلزمه...ولولا جياد الكتب وحسنُها لما تحركـت همم هؤلاء لطلب العلـم ونزعت إلى حب الأدب وأنِفتْ من حــال الجهــل ...ولذلك قـال عمر رضي اللّه عنه: «تفقهـوا قبـل أن تسـودوا»»(3). 
لقد أصبح الكتاب مع الجاحظ أكثر من مجرّد أداة لنقل المعرفة وتبليغها، إذ غدا مستودع الأمانة التي يحمل بها الإنسان قدَر المجتمعات الحيّة في أن تكون ثقافتها معبّرةً عن حركيّة تضمن لها التّطوّر والنّمو. 
بترسّخ هذا المعنى تتجاوز الثّقافة مجرّد أن تكون جملة عناصر رمزيّة واعتقاديّة وأخلاقيّة وسلوكيّة فرديّة ومجتمعيّة، لتصبح بفضل هذه العناصر فاعليّةً تحمل مسؤوليّة تطوير المجتمعات، وإبداع صيغ وحلول ومشاريع حياة جديدة. 
هي بذلك تتجاوز مجال التّراث السّاكن، إذ تصير ذاكرة حيّة تصوغ مشروعا مستقبليّا قطبُ الرّحى فيه هو الإنسان.
إنسان ثقافة الجاحظ هو ذلك الكائن المدرك أنّ ماهيته في فاعليّته في التّاريخ الذي يتجاوز سرد أحداث الماضي، ليكون المجال الأوضح لتحقيق التّحوّلات الفكريّة والمجتمعيّة والتّغييرات العالميّة. إنّها ثقافة التّجاوز الدّائم لما عليه الأفراد والمجتمعات.
هكذا مكّن تراث الجاحظ، بما تميّز به من تنوّع معرفي وجدليّة فكرية ورؤية إنسانيّة، أن يخلّد  الجاحظَ فيجعل منه معاصرا لنا لأنّه كشف لكلّ قارئ في كلّ أوان ما يميّزه عن سائر الكائنات.
هذا ما نجده بيّنا في «رسالة المعلّمين» حيث يقارن الجاحظ بين الحرص على الحفظ وما ينتجه من تقليد وبين تنمية العقل وما ينجم عنها من إبداع ورقيّ.
يقول:«أجمعوا على أنّهم لم يجدوا كلمة أقلّ حرفا ولا أكثر ريعا ولا أعمّ نفعا ولا أهجى لمن ترك التّفهّم وقصر في الإفهام من قول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه تعالى عليه: قيمةُ كل امرئ ما يُحسِن. وقد أحسن من قال: مذاكرة الرّجال تلقيحٌ لألبابها وكرهت الحكماء والرّؤساء وأصحاب الاستنباط والتّفكير جودةَ الحفظ لمكان الاتكال عليه وإغفال العقل من التّمييز حتّى قالوا: الحفظ عَذْقُ ( قطع) الذّهنِ، لأنّ مستعمل الحفظ لا يكون إلاّ مقلّدا والاستنباط هو الذي يفضي بصاحبه إلى بَرَد اليقين وعزّ الثّقة... والقضيّة الصّحيحة والحكم المحمود أنّه متى أدام الحفظ أضرّ ذلك بالاستنباط» (4). 
الهوامش
(1) أبو عُثْمان عُمَرُو بن بَحر بن مَحْبُوبٌ بن فَزارَة اللَّيْثِيّ الْكِنَانِيّ الْبَصَرِيّ المعروف بالْجَاحِظ (159 ه ـ 255 ه) أديب عربي كان من كبار أئمّة الأدب في العصر العباسي، ولد في البصرة وتوفي فيها.
(2) الْجَاحِظ، كتاب الحيوان، الجزء 6،تحقيق وشرح محمد هارون، الناشر: مصطفى البابي الحلبي مصر، ط.2 - 1967 ، ص 36 
(3) الْجَاحِظ، كتاب الحيوان، الجزء 1،تحقيق وشرح محمد هارون، الناشر: مصطفى البابي الحلبي مصر، ط.2 - 1967 ، ص.ص 86-87
(4) رسائل الْجَاحِظ،الجزء 3 - الرّسالة الثانية في المعلّمين،شرح محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلميّة، ط 2000 ، ص 25