الأولى

بقلم
فيصل العش
دردشة مع صديق قديم
 التقيت به صدفة بإحدى مقاهي المدينة،عرفته من أوّل وهلة رغم العقود التي فصلتنا عن آخر لقاء لنا داخل أسوار الجامعة ورغم التّجاعيد التي غزت وجهه، فقد تفارقنا وهو في العشرينات من عمره وها هو الآن كهل على أبواب الشّيخوخة. تبادلنا التّحية والسّلام وتعانقنا طويلا، فعلاقتنا لم تكن عابرة. كنت أشاركه السّكن نفس الغرفة في المبيت الجامعي، نتقاسم الطّعام والشّراب والأحلام والآلام، لمدّة ثلاث سنوات بالتّمام والكمال. كان سعيدا بلقائي وكنت أسعد لأنّني كنت في حاجة ماسّة إلى من يُنسيني اللّحظة وهمومها ويُعيدني من خلال ذاكرته إلى سنوات الثّمانينات، أفضل الفترات عندي وأحلى الأيّام رغم قساوة الظّروف المادّية وتهديدات «البوب» والبوليس السّياسي في اللّيل والنّهار.
في تلك الفترة يا سادتي، كانت الحياة الجامعيّة مليئة بالحركيّة والنّشاط وكنّا مع اهتمامنا بدراستنا نمارس السّياسة والعمل النّقابي ولا نغفل لحظة واحدة عن نقاش فكريّ أو عرض مسرحيّ أو أمسية شعريّة. كانت الجامعة معقلَ نضال كلّ المعارضين لنظام بورقيبة وحزب الدّستور وكان الصّراع الايديولوجي على أشده بين الإسلاميّين واليساريّين بجميع مللهم ونحلهم، وبالرّغم من شدّته التي قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة تبادل العنف، فقد كان ذلك الصراع دافعا لمراجعة الأفكار وتطويرها ونقد القديم وتثويره. 
كنّا نسابق الزّمن في قراءة الكتب الفكريّة الوافدة علينا من الشّرق والغرب في محاولة لفهم واقع التخلّف الذي تردّت فيه أمّتنا العربيّة الاسلاميّة والبحث عن طريق الخلاص والتقدّم والرّقي، لأنّ حلمنا كان أكبر بكثير من «القطر» أو «الأمّة التّونسيّة» التي كان النّظام البورقيبي يروّج لها. لم تعد كتب السّيد قطب وحسن البنّا والمودودي تُشفي غليلنا وتُجيب عن تساؤلاتنا الحارقة، فاستنجدنا بمالك ابن نبيّ لنبحث من خلال أسس علم النّفس والاجتماع وسنّة التّاريخ في مشكلة المسلمين في محاولة لفهم قابليّتهم للإستعمار، وتعلّقنا بما كتبه علي شريعتي لنعود إلى ذاتنا وندعو إلى النّباهة ونقاوم الاستحمار، وتلقينا بنهم كبير أفكار محمد عابد الجابري لنتعلّم نقد العقل العربي ونهتمّ بمناقشة القضايا الحضاريّة الكبرى ونعبّر عن رفضنا «للعقل المستقيل». وبين هذا وذاك كنّا نحاول استيعاب ما كتبه حسن حنفي حول التّراث والتّجديد  لتحطيم طابوهات أفكارنا القديمة المقدّسة للتّراث، وقرأنا «اقتصادنا» و«فلسفتنا» للمرجع الشّيعي الكبير محمد باقر الصدر وحاولنا فهم التفسير الموضوعي للقرآن الكريم وكنّا نخصّص جزءا من المنحة الجامعيّة لشراء الكتب وصحيفة «الرّأي» التونسيّة التي كانت عنصرا أساسيّا في غذائنا الفكري والسّياسي والأدبي.
قرأنا الكثير وتحاورنا أكثر لكنّنا لم نغفل عن دراستنا وعن أحلامنا في الحصول على الشّهادة الجامعيّة وفي شغل يوفّر لنا المال ويُخرجنا من حالة الفقر التي كان عليها أغلبنا. قرأنا لعديد الفلاسفة والمفكّرين لكنّنا قرأنا أيضا روايات «مدن الملح» لعبدالرحمان المنيف و«الياطر» لحنّا مينه و«الحبّ فوق هضبة الهرم» لنجيب محفوظ و«طوق الحمامة» لابن حزم الاندلسي، فقد كان في القلب مكان للحبّ والعشق وكان من بين أحلامنا أن تنجح علاقاتنا الغراميّة وتؤول إلى زواج ممنون وتكوين بيت سعيد.
هكذا كنّا أنا وصديقي الذي التقيت به وثلّة من الطّلبة في الثّمانينات، مزيج بين الطّالب والمناضل وبين المفكّر والعاشق وبين المتمسّك بهويّته والمنفتح على العصر بما يحتويه من تحدّيات ومكاره. ورغم صراعنا المتواصل مع الطّلبة اليساريّين إلاّ أنّنّا كنّا مؤمنين بأنّنا في خندق واحد وأنّ جميعنا يحلم ببلد يطيب فيه العيش ولا يجد الفقر فيه سبيلا.
غير أنّ صديقي كان له حلم لم أشاطره إيّاه وهو الهجرة إلى ألمانيا. كان مبهرا بالألمان وما حقّقوه رغم تدمير دولتهم خلال الحرب العالميّة الثّانية وتقسيمها إلى جزئين، كان مغرما بمتابعة أخبار هذا البلد والاطّلاع على جزئيّات تاريخه ويحلم أن يهاجر إليه ليواصل دراسته الفلسفيّة هناك نظرا لما للمدرسة الفلسفيّة الألمانيّة من ريادة. وقدّر اللّه أن لجأ إليها هاربا من بطش الطّاغية بن علي وزبانيته وتحقّق بذلك حلمه وتأكّدت الآية القرآنيّة التي كان دائما يردّدها على مسامعي عند الشّدائد والأزمات ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(1).
أعادها علي بمجرّد جلوسي إليه في المقهى ثمّ انفجر ضاحكا ثمّ بكى بحرقة. سألته:« مالذي يبكيك وقد حقّقت أحلامك؟». قال:«صحيح أنّني حقّقت ما كنت أحلم به وزيادة، لكنّني أبكي هذا الوطن الذي وجدته في حالة أسوأ من الحالة التي تركته عليها. أبكي بلدي الذي لم أعد أعرفه، أيّ جريمة شنعاء اقترفها الطّاغية خلال سنوات حكمه؟وأي فشل مُني به الحكّام الجدد في تحقيق أحلام هذا الوطن؟». هدّأت من روعه وذكّرته بأنّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، ونحن خلال العشريّة التي تلت حكم الطّاغية لم نغيّر شيئا ليتغيّر واقعنا إلى الأفضل، بل انغمست نخبنا في صراعاتها السّياسيّة، فضاع الوطن وتبخّر الحلم. وفي محاولة منّي إخراجه من حزنه، طلبت منه أن يحدّثني عن الحياة في المهجر أين يعيش.
بدأ صديقي يحدّثني عن الثّورة العلميّة الحاصلة في ألمانيا وعن البنى التّحتية الرّائعة التي شملت مختلف المجالات وعن الرّفاهيّة التي يعيشها المواطن وعن حقوق الإنسان والحرّيات، وعن انغماس الألمان في العمل والإنتاج، وعن الثّقافة والفنّ والرّياضة والإعلام. أطنب في الحديث عن نسب النّمو وغزو الألمان للأسواق العالميّة وعن جودة الإنتاج واحترام المواطن للقانون وكيف يقوم بواجباته قبل المطالبة بحقوقه وعن نظافة المدن والقرى، ثمّ عاد من جديد ليتساءل عن السّبب الذي يجعلنا مختلفين عنهم وعاجزين حتّى عن تحقيق عشر ما أنجزوه، والحال أنّ لدينا الحضارة والدّين والتّاريخ ولدينا شعب أغلبه شّباب يتّقد حيويّة ونشاطا. 
لم يعد لديّ مجال للمناورة مع صديقي لتفادي الحديث عن واقعنا المؤلم، فقد أبدى حرصا شديدا على معرفة أسباب تخلّفنا وفشلنا. فسألته باستنكار: «وهل في ألمانيا قضاء مستقلّ وعادل؟» فأجاب: «بالتّأكيد». فسألته ثانية:«وهل يولي النّظام الألماني أهمّية للإنسان كمواطن؟» فأجاب: «وهل في ذلك شكّ؟». أحلته بسرعة على الدّولتين المسلمتين تركيا وماليزيا اللّتين تنتميان إلى حضارتنا وكيف أستطاعتا أن تحوّلا تخلّفهما إلى تقدّم وازدهار وفقرهما إلى غنى لأنّ لديهما قضاءً مستقلّا وعادلا ولديهما نظاما يقوم على احترام المواطن وتقديره. فالدّاء يكمن أوّلا في غياب العدل وحيثما غاب العدل حلّ الخراب. ويكمن ثانيا في احتقار أفراد الشّعب، خاصّة الفقراء والمحرومين منهم، فلا يعتبرون مواطنين بل رعايا. 
إن معيار تقدّم الدّول وقوّتها هو مدى القيمة التي توليها لمواطنيها، فكلّما ارتفعت قيمة المواطن ارتفعت مكانة الدّول وهيبتها، ولا يقف ذلك عند حماية المواطن من المخاطر وتقدير حرمة جسده حين يصيبه مكروه، بل يتعدّاه إلى الاعتناء بصحّته وتعليمه وغذائه واعتباره صاحب الشّأن أولا وأخيرا. 
لذلك فإنّه لا يمكن الحديث عن تنمية وتطوّر وازدهار للدّول العربيّة الاسلاميّة ما لم تتغيّر نظرة حكّام هذه الدّول إلى مواطنيها، فمن دون تقدير قيمة المواطن والرّفع من شأنه واعتباره الهدف والغاية من كلّ برنامج أو قرار يتّخذ، فإنّ هذه الدّول لن تقدر على تجاوز واقع المهانة والتبعيّة الذي تعيش فيه. 
لقد بنى المسلمون دولة عظيمة وحضارة انتشرت شرقا وغربا في بضع سنين على أنقاض أكبر امبراطوريتين كانتا تتقاسمان العالم لأنّهم انتصروا لقيمة الإنسان ورفعوا من شأنه. أنظر إلى قول رسول اللّه ﷺ مخاطبا الكعبة أثناء طوافه بها: «ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند اللّه حرمة منك، ماله ودمه» (2) 
انظر إلى عظمة مدلول كرم رسول الله ﷺ زعيم هذه الأمّة، كيف رفع من قيمة الفرد في المجتمع المسلم وجعل حرمة ماله ودمه أعظم عند الخالق من حرمة الكعبة، بيته الحرام. 
وانظر إلى حديث الرسول ﷺ حين قال: «لَزوال الدّنيا أهون عند اللّه مِن قتل رَجل مُسلم»(3) . لقد كانت قيمة المؤمن (المواطن في ذلك الوقت) كبيرة عند القائمين على أمور المسلمين لذلك كان النّاس يحسّون بالعزّة والكرامة ويعتزّون بالإنتماء للدّولة التي تسهر على حرمتهم، فكانوا خير سند لها وخير جنود لإعلاء راياتها. 
وعندما انحرف الحكّام عن مسلك رسولهم واستعبدوا النّاس بالسّوط والسّيف ضاربين بالقيم الانسانيّة النّبيلة التي أتى الإسلام ليجذّرها ويرفع من شأنها عُرْضَ الحائط واتبعوا طريق الاستبداد، ضعفت شوكتهم وأصبحت دولهم أوهن من بيت العنكبوت وأفل نجم حضارتهم، فتداعت عليهم الأمم كما يتداعى الجياع على قصعة الثّريد واللّحم.
الإنسان الذي لا هيبة له، والذي لا يشعر بحرص الدّولة على خدمته وضمان أمنه وقوّته، لا يمكن أن يكون عنصرا فعّالا في الإنتاج والبناء، ولا يُنتظر منه العطاء والتّضحية إذا ما فقد إحساسه بالمواطنه والانتماء. إنّ هيبة الدّول يا صديقي من هيبة مواطنيها، وأمنها من أمنهم، وكرامتها من كرامتهم وشرفها هو شرفهم. وعندما تتغيّر المعادلة من حاكم ورعيّة إلى مسؤول ومواطن، عندها سيغيّر اللّه حالنا إلى أحسن حال.
الهوامش
(1) سورة البقرة - الآية 216 
(2) رواه ابن ماجه عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنها 
(3) رواه الترمذي والنسائي ، وصححه الألباني