حديقة الشعراء

بقلم
رشيد سوسان
جنّة الغرباء
 (1) شمْـسُ الغَـريـب
طَـافَ الغَريبُ قِفارَ بُلدانِ الْوُجودِ...
لَمْ يَستَسِغْ طُعْماً لِغُربَتهِ، 
وَتـاهَ على أَدِيـمِ الأَرْضِ،
يَبْحثُ عَن ظِـلالِ الشَّمْسِ، 
لا يَرْضَى سِوَى بِزَوالِ لَيْلِ هُمومِهِ،
مِثْلَ الذي عَبثَتْ بِهِ، في البِيدِ،
نَكْسَبَةُ(*) الْمَنـونْ...
أَلْقَى الرِّحـالَ بِقُدسِنا مُسْتَسْلِمَا...
وَأَناخَ في وادِي المَعـارِجِ مُحْرِمَا...
مَدَّتْ لَهُ كُلُّ الْمُـروجِ، بِزَهْرِها، فَيضَ الْهَنَا،
أَلْقَتْ عَليهِ، بِلا شِـراعٍ ظامِئٍ، مُهَجَ السَّمَا.
نَثَرتْ عَليْهِ، حَفـاوَةً، عِطرَ الْوُرودِ، 
وأَلْبَستْهُ، بِعِزّةٍ، تـاجَ الصَّبابَةِ في أَمَـانِ.
غنَّى بِمَقْدَمِهِ الثَّرَى،
نَطقَتْ بِرِحلتِهِ أَسارِيـرُ الدُّجَى،
وَشَدَتْ، بِطَلْعةِ شَمْسِهِ، سُحُبُ الوِصَـالِ تَبرُّكاً،
رَفّتْ بِذِكرِ قُدُومِهِ أَجْفـانُ عَكّةَ، والْخَليلِ،
وغَزَّةُ الكُبرَى تَمـايَلَ نخْلُها،
 وتَحرَّكتْ أَسـوارُ حَيْفَـا،
واسْتَجابَ لَها الْكَنِيـسُ، بِبَيْتِ لَحْمٍ،
فِي حُداءٍ سـاحِرٍ عَجَبِ...
رَأى الْغريبُ حَفاوَةَ التّرحيـبِ، ثُمَّ جَثَا،
بَكَـى، وبَكَـى، لِفَرحةِ مـا رَأَى...
أَلْقَى الرِّحـالَ بِقُدسِنا مُستَبْشِراً،
وتَعَطَّرَتْ أَفْياءُ أَقْصـانا بِغُربَتِهِ...
وَسعَتْ لِتَحضُنَهُ، بِعشْقٍ خـالِصٍ،
أُمُّ الْقِـبَـابْ.
****
(2) كـانُوا هُنـا
يا جنّةَ الغُرَبـاءِ، يا قُدْسُ...
كانوا هُنا، واسْتَنسَرُوا بِبلادِ بَابِلَ والْخليـلْ.
كانوا هُنا... صَلَبُوا هُنا...
زَرعُوا فُصـولاً مِن فُنـونِ الْحِقْدِ،
مِن شَررِ الدَّمـارْ.
ثَكنَـاتُهُـمْ دَبَّـتْ هُنا...
وقِلاعُهُـم أَرْخَتْ بِكَلكَلِها عَلى كُلِّ البِلادْ...
أنّـاتُـنَـا سُمِعَتْ هُنا...
كَمْ أَرْهَبُـوا... كَم أَرْعَبُـوا...
وعَلَى قُلـوبِ الأَبْرِياءِ وعَهْدهِمْ، 
بِعُهُـودِهمْ، قَد أَسْدَلُوا.
هَذِي بَقـايـا بَطشِهِمْ: 
قَد سَطَّرتْ حِممَ الْهَـوانِ،
وأَبْطَلَتْ غَضَبَ النِّجَـادِ.
هَذِي حُصـونُ حَصادِهِمْ، 
قَدْ سُيِّجَتْ بِجدارِ إِسْمِنْتٍ جَبانِ.
هَذي رَزَايا ضُعْفِنا
خَجَلاً تُطِـلُّ:
مِن الـرَّوَابِي والتُّـرابْ.
****
(3) صُحُفٌ مُطَهَّـرَة
يا جَنَّةَ الغُرَبـاءِ، يا مَسْرَى السَّـلامْ...
أَنّـاتُنا، في القُدْسِ، قَدْ سُمِعَت مَـدىً،
مُستَشْهِـدُون هُنـاكَ، أَيْتـامٌ هُنـا...
أَسْـرَى، بِلا خَوفٍ،
فَدَوْا أَرْضَ الرِّباطِ بِلا سِلاحِ...
جَرْحَـى هُنـاكَ، مُرابِطُـونَ هُنـا...
وَمنْفِيُّـونَ، فِي وَضَحِ النَّهـارِ،
يُسافِرُونَ، وَلَيلُهُمْ أَمْرٌ جَديـدُ.
ثَكْـلَى هُنـاكَ، وَلاجِئُـونَ، بِرُوحِهمْ، 
بَذَرُوا: مَفـاتِيـحَ اللِّـقَـاءِ.
هُم أَوْفِيـاءُ مَضـوْا،
بِلا أَدْنَى شِقَـاقٍ، قَد قَضَـوْا...
قَد جَـرَّعُـوا، قَسْراً، مَرارَةَ جُرحِنا...
وَأَذاقَهُم ذِئْبُ الْغَضا جَمْراً أَحَرَّ مِنَ الْغَضَا...
بِصُدورِهِم دَوْمـاً تَصَـدَّوْا،
دافَعُوا، في شِرعَةٍ، عَنْ أَرضِنـا...
ما صالَحُوا، مُستَصْغَرِينَ، عَدُوَّهُمْ...
قَدْ أَسْرَجُـوا، بِتَنافُسٍ، أَرْواحَهُمْ شُهُـبـاً...
بَثُّـوا صَلِيـلَ سُيـوفِهِمْ سُفُـنـاً...
زَرَعُـوا، بِأَكْنـافِ الحَرامِ، شَـذَا جَمـاجِمِهِمْ،
فَأَنْبَتَ زَرْعُهُمْ فَتْحـاً، يَعُمُّ الْعالَمِيـنَ،
وَيُعْجِزُ الأُدَبـاءَ وَصْفُ ظِـلالِـهِ.
بَذَرُوا عِظـامَهُـمُ هُنـاكَ،
وَطَـرَّزُوا صُحُفـاً مُطَهَّرةً رَوَيْنـاها،
وَأَنشَدْنَا مَغازِيهَا كِتاباً لِلْخُلـودِ،
وَمَـأْرِزاً يَأْوِي الْغَريـبَ،
وَجَـنَّـةً تَـتْـلُو بِإِعْـزازٍ:
نَشيـدَ الْعَنْدَلِيـبْ.