شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
المفكّر والباحث الياباني «توشيهيكو إيزوتسو»
  في الرابع من مثل هذا الشهر (ماي) من سنة 1914، ولد ضيف هذا الركن، المفكّر والباحث الياباني  «توشيهيكو إيزوتسو» بمدينة طوكيو في اليابان. وهو باحث ولغويّ وأستاذ جامعيّ، درَّس في معهدِ الدِراساتِ الثقافيةِ واللّغويةِ بجامعةِ «كيو» في طوكيو (1954-1968)، وفي المعهد الملكي لدراسة الفلسفةِ في طهران، وفي معهد الدّراسات الإسلاميّة من جامعة «مكجل» في مونتريال بكندا، وكان عضوا في الأكاديمية اليابانيّة وأستاذا فخريّا بها.   
ألف العديد مِنْ الكُتُبِ عن الإسلامِ وعن الدّيانات الأخرى، وعن اللّغة والتّصوّف، وكان موهوباً جدّاً في تَعلّم اللّغاتِ الأجنبيّةِ، وكان على معرفة دقيقة بالعربيّة، والفرنسيّة والألمانيّة، فضلاً عن الإنكليزيّة، وهو من أوائل من ترجم القرآن الكريم إلى اللّغة اليابانيّة، وترجمته معروفة بدقّتِها اللّغويّةِ، وما زالَتْ إلى اليوم مشهورة ومرجعا معتمدا في الأعمال العلميّة.
بالإضافة إلى تلك التّرجمة المميّزة للقرآن، فإنّ لـ «توشيهيكو إيزوتسو» العديد من المؤلّفات حول الإسلام باللّغة الإنقليزيّة تُرجم منها إلى العربيّة : « بين اللّه والإنسان في القرآن: دراسة دلاليّة لنظرة القرآن إلى العالم.»(في ثلاثة أجزاء)، و«المفهومات الأخلاقيّة - الدّينيّة في القرآن»، و«مفهوم الإيمان في علم الكلام الإسلامي»، وقد قام بترجمة الكتب الثّلاثة أ.د. عيسى علي العاكوب، وصدرت التّرجمات بالتّرتيب سنة 2007 و2008 و2010. وهناك ترجمة أخرى للكتاب الأول بعنوان: «اللّه والإنسان في القرآن، علم دلالة الرّؤية القرآنيّة للعالم»، أعدّها الدكتور هلال محمد الجهاد، وذلك عن المنظمة العربيّة للتّرجمة عام 2007.
لـ «توشيهيكو إيزوتسو» أيضا بالإنقليزيّة كتاب «دراسة مقارنة للمفهومات الفلسفيّة الرّئيسة في التّصوّف والطّاويه» (1984)و«اللّغة والسّحر»(1956). أمّا باليابانيّة فقد ترك لنا المؤلّفات التّالية: «تاريخ الفكر الإسلامي» و«الفلسفة الصّوفيّة» و«الثقافة الإسلاميّة» و«الوعي والذّات» و«الكون وأضداد الكون»، وهي تنتظر من يترجمها لتعمّ الفائدة الجميع. 
ينتمي «توشيهيكو إيزوتسو» الذي توفّي في غرّة جويليّة 1993 إلى مدرسة المستعربين اليابانيين الذين يرفضون بشدّة تصنيفهم كمستشرقين ويفضّلون مصطلح الدّراسات العربيّة في اليابانيّة بعد أن حمل مصطلح «الاستشراق» وزر المواقف السّلبيّة التي عرّضت أصحابها للنّقد الصّارم حتّى من جانب الباحثين المنصفين أو الموضوعيّين في الغرب نفسه، ولهذا كانت أعمال «توشيهيكو إيزوتسو» مضادّة للاستشراق الغربي بشقّيه الأوروبي والأمريكي وبعيدة كلّ البعد عنها، فقد استطاع أن يشرح الإسلام في سياقاته الدّينيّة – الرّوحيّة والحضاريّة معًا لبقيّة العالم، على نحو أكاديمي .
وقد تميزت أعماله بالموضوعيّة والحياد العلمي والإنصاف والدقّة والاحترام للقرآن والإسلام، وقد تجلّى ذلك في اعتماده المباشر على اللّغة العربيّة وإتقانه الدّقيق لتفاصيلها، ورفضه دراسة المفاهيم القرآنيّة من خلال لغات أخرى. فهو يقدّر اللّغة العربيّة، ويرى أنّها مزوّدة بأدقّ تفاصيل النّحو والمعجم اللّغوي، وهناك الكثير من المراجع المتّصلة بفقه اللّغة، وحقل التّفسير القرآني خاصّة، ويؤكّد اعتماده هذه المصادر كمساعدات قيّمة في درسه الدّلالي وفي دراسته للقرآن الكريم، إضافة إلى الشّعر الجاهلي الذي يعرف بدقّة معانيه ومفرداته الغريبة، وهي معرفة لا تكاد توجد عند كثير من الباحثين العرب.
 اشتغل «إيزوتسو» على المفاهيم الأخلاقيّة في القرآن، وقسّمها إلى ثلاثة أصناف: صفات اللّه الأخلاقيّة، صفات تحدّد موقف الإنسان من اللّه ومبادئ السّلوك بين أفراد البشر. وسعى في أبحاثه إلى تأسيس أرضيّة معرفيّة جيّدة لقراءة القرآن الكريم والثّقافة التي أشاعها، من خلال دراسة دلاليّة للقرآن هدفها البحث عن رؤية القرآن لكيفيّة بناء عالَم الوجود، وما هي المكوِّناتُ الرّئيسةُ للعالم، وكيف يُرْبَط بعضُها ببعض، فيكون عِلْمُ دلالات الألفاظ وتطوّرها، في هذا المعنى، نوعاً من عِلْم وجود محّدد وحيّ ومتحرّك. ويرى «إيزوتسو» أنّ الكشف عن الرّؤية القرآنيّة للعالم يعتمد على دراسة ما يسمّيه التّعابير المفتاحيّة في القرآن وهي الكلمات الرّئيسة التي تمثّل مركزاً في فهم موضوع معيّن أو حقل دلالي تنتمي إليه مجموعة أخرى من الكلمات. ويستحضر حقيقة أنّ لكلّ كلمة معنى وضعيّاً أساسيّاً لا يتغيّر بتغيّر الاستعمال، ومعنى سياقيّاً يضفي على الكلمة معاني جديدة قد تقطع مع معناها الأصلي وتصبح كلمة جديدة كليّاً في معناها، وهذا شأن المفردات القرآنيّة. وقد خصّص كتابه«مفهوم الإيمان في علم الكلام الإسلامي» للتحليل الدّلالي لمصطلح «الإيمان» ولمفهومات مفتاحيّة أخرى مرتبطة به. لاسيما وأنّه يرى أنّ مفهوم الإيمان هو الأهم بين المفهومات الكلاميّة في الإسلام، وقد أثار مناقشاتٍ حادةً منذ القرون الأولى.
أدرك «إيزوتسو» البعد الروحيّ العميق للإيمان، وأنّه يحتاج إلى معالجة مختلفة، إذ المسائل الكلاميّة العقليّة ليس في وسعها معالجة مسائلَ الإيمان التي عمرت قلوبَ المسلمين على امتداد العصور معالجة شاملة . وهو يرى  أنّ المعالجة الكَلاميّة [نسبةً إلى علم الكلام] لمفهوم الإيمان أقربُ إلى مُلامسة الجانب الخارجيّ الشّكْليّ للمسألة؛ ذلك لأنّها معالجةٌ عقليّة لمسألةٍ وِجْدانيّة ضاربة الجذور في أعماق النّفس. لكنّ هذا الخارجيّ الذّهنيّ، فيما يرى، تجلٍّ ذاتيّ لـ«الدّاخليّ». 
هذا اللون الجديد في الدّرس القرآني يمكن اعتباره تطويراً عميقاً في أكثر من مجال في العلوم الإسلامية، فهو يسهم في تطوير مناهج التفسير الموضوعي، كما يمكن اعتباره لوناً من الدرس البلاغي للقرآن، وفي إطاره الأسمى هو درس للفلسفة الإسلامية التي يقدمها القرآن للعالم، ومنهجية التغيير التي احتواها القرآن وتجسدت في عصر نزوله.