همسة

بقلم
رضوان مقديش
كرة الثلج ( 2 )
 ليس من حقّ الإنسان ولا من مشمولاته الحساب والجزاء ولكن من حقّ كلّ المجتمعات البشريّة كيفما كانت معتقداتها بل من الضّروري لها تنظيم  العلاقات بين أفرادها وتفعيل قوانين تنعت بـ  «جزائيّة» . وأهداف هذه القوانين لا تنأى عن أسس الرّدع والثّأر والتّحييد وإرجاع الحقّ لأصحابه إن أمكن ذلك.      
وبين فكرة الحساب والجزاء ومبدإ تنظيم المجتمع خيط رفيع ولكنّه بيّن. وقد اقترح الإسلام في هذا المضمار بعض الحدود «الجزائيّة»، أمّا فيما يخصّ العلاقة العموديّة الصّرفة بين الإنسان وخالقه، أي العلاقة التي لا تتداخل مع غيره من أفراد المجتمع، فالقرآن واضح وجلي إذ تبيّن العديد من الآيات البيّنات والمباشرة أن مسألة العقيدة والعبادات شأن بين العبد وربّه ولا يحقّ لأيّ إنسان حشر نفسه بتاتا. الأمر واضح  وجليّ إلاّ لمن يريد أن يعلّمنا إسلاما من وراء القرآن.
يقول تعالى:﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(1) ويقول أيضا :﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(2) ويقول :﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا * أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾(3) ...والأمثلة عديدة …                                               
 والتّكفير إجمالا هو خطأ مركّب؛ خطأ في المنطق وخطأ في المنطقة، فالتّكفيريّون ينتحلون اختصاصا من اختصاصات اللّه وهو الحساب، ويحشرون أنفسهم في منطقة خاصّة ممنوعة عليهم بين اللّه وعبده.                                           
ومسألة الردّة، في نفس السّياق، ولكنّها مسألة شائكة بعض الشّيء رغم وضوح القرآن. فليس فيه ذكر أو إشارة لتشريع حدّ للردّة. المشكل ربّما أنّه في خضمّ التّدافع الحضاري والسّياسي ولدت الفكرة وسيطرت على العامّة وغالب الخاصّة، وأنا من موقعي أقول لن يعلّمني أحد إسلاما من وراء القرآن، حتّى ولو كان من كبار الأئمّة. هذا وإنّي أنحني إكبارا وإجلالا لجلّ الأئمّة الكبار وأعتقد أنّ اللّه سوف يؤجرهم عن سعيهم وتوفيقهم في أغلب الأمور، وسوف  يسائلنا إن ادخرنا جهدا في إصلاح ما لم يتوفّقوا فيه. يقول تعالى :﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ * وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ * هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾(4).
أولا، الآية لا تذكر حدّا للرّدة لا مباشرة ولا تلميحا بل تؤكّد أنّ من يرتدّ ولا يتوب ( فيمت وهو كافر ) فحسابه عند ربه عسير . ثانيا،لسائل أن يسأل:لماذا ذكرت مسألة الردّة في القرآن كحالة ذات خصوصية؟ بكل بساطة أشار إلى المرتدّ كما توعّد سبحانه وتعالى أصحاب المائدة :﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ * فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾(5). وكما قال تعالى:﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً﴾(5) فالمرتد تعرف على الإسلام عن كثب  وسيسائله الله على اساس مختلف مقارنة بمن لم تصله رسالة الإسلام بصفة جلية، وهذه مجرّد إشارات من الله عز وجل حول قوانين المحاسبة، قوانين لا يمكن ولا ينبغي للبشر الإلمام بها واستيعابها فما بالك بالحكم الفعلي.من يجرؤ وينصّب نفسه مكان قاضي القضاة وأحكم الحاكمين؟.وسوف لن أخطئ وأسلك مسلك التكفيريين ولن أبدأ بتوزيع صكوك الغفران ومراتب الإيمان ولكن ولمجرّد الفكرة لو نظرنا إلى عقيدتهم للاحظنا أنها تفتقر إلى النقاء واليقين : النقاء من التعصّب والرياء، واليقين في وعد الله وعدله، فيعجلون ويستعجلون الحساب والثواب والعقاب .
في هذا السّياق، انطلقنا من خلل يبدو بسيطا، والحقيقة أنّ الأغلبيّة الغالبة من الأئمّة الكبار كانوا دائما يحذّرون من التّكفير وكانوا يضعون شروطا صارمة لتفعيل «حدّ الردّة» ( القاضي الشّرعي يحتكر الأمر)، ولكن إذا شُرّع الخطأ ولو بمحاذير وتضييقات كبيرة، لا أحد يضمن عدم الانفلات.فأصبح بعض الهمجيّين التّكفيريين ـ تلقائيّا أو انسياقا لمخابرات وعصابات إجراميّة - يسمحون لأنفسهم بتكفير النّاس وقتلهم وهذه الطامّة الكبرى وهذا نقيض الإسلام. ومرة أخرى ، كرة الثّلج …...كرة النّار 
الهوامش
(1) سورة البقرة - الآية 256 
(2) سورة الكهف - الآية 29 
(3) سورة يونس - الآية 99 
(4) سورة البقرة - الآية 217 
(5) سورة المائدة - الآية 115 
(6) سورة الإسراء - الآية 15