أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
تطوّر نظريّات الحركة الحلقة السّابعة: مسألة الأجسام الثّلاثة المقيّدة
 مقدمة وتعريف
في الحلقة الأولى تحدّثنا عن نشوء قوانين الحركة ومن ثمّ صعدنا في الحلقة الثّانية نحو مسألة جسمين كأبسط مسائل الميكانيكا السّماويّة على الإطلاق ومع ذلك فهي غير محلولة حلاّ تامّا وصريحا في الزّمن، ثمّ أكملنا الطّريق والتّطبيق في الحلقات التّالية، وفي هذه الحلقة نستعرض واحدة من أروع المسائل الكلاسيكيّة في الميكانيكا السّماويّة ومن أبهي مسائل العلم على الإطلاق، وبسببها نشأت علوم جديدة مثل الأنظمة الدّيناميكيّة، ونظريّة الفوضى، والتّوبولوجيا، وتطوّرت علوم كانت قد نشأت من مسائل سابقة مثل طرق حلّ المعادلات التّفاضليّة خصوصا مع نظريّة الاقلاق. وهي تُعرف بمسألة الأجسام الثّلاثة، وفيها تتمّ دراسة حركة ثلاثة كتل تتجاذب فيما بينها M3, M2 ,M1  وإذا اعتبرنا أنّ أحد هذه الأجسام الثّلاثة M3 صغير جدّا بالمقارنة بالجسمين الآخرين، بحيث أنّ حركة ذلك الجسم المتناهي في الصّغر لا تؤثّر فى حركة الجسمين الآخرين وإنّما هو الذي يتأثّر بهما معا، سمّيت بالمسألة المقيّدة وإذا اعتبرنا أن M2 ,M1 تدوران فى مدارات دائريّة حول مركز الثّقل المشترك سمّيت المسألة المقيّدة الدّائريّة للأجسام الثّلاثة. وكلّ ذلك تبسيطات للمسألة كي نتمكّن من حلّها بشكل  تقريبي، وحتّى مع هذه التّبسيطات فالحلّ وإن كان أثبت وجوده إلاّ أنّه غير معروف في صورته الصّريحة أي الحصول على مواضع الأجسام الثّلاثة كدوال في الزّمن. على المستوى الرّياضي، تتعلّق مشكلة الأجسام الثلاثة بحلّ نظام من ثلاث معادلات تفاضليّة عاديّة غير خطّية من الرّتبة الثّانية تعطي مواضع  الأجسام الثّلاثة (جسمين كبيرين مثل (الشّمس – الأرض) أو (الأرض – القمر) والجسم الثّالث المتناهي في الصّغر) أو أي نظام آخر كدوال في الزّمن. ومن الممكن استخدام أي مجموعة من الإحداثيّات لتمثيل المواضع مثل الإحداثيّات الكارتيزيّة أو الاسطوانيّة أو الكرويّة، فإذا أخذنا M1 على أنّها كتلة الشّمس MS وأخذناM2 على أنّها كتلة الأرض ME وأخذنا M3 على أنّها كتلة القمر MM ، فإنّ هذه المعادلات تأخذ الصّورة التّالية:
الإحداثيّات الدّوارة
ما هو أفضل نوع من المتغيّرات التي يجب استخدامها لحلّ هذه المسألة التي تبدو سهلة وبسيطة،لكنّها على العكس من ذلك تماما، وكأنّها الرّدع الحقيقي للغرور البشري؟، فعندما تقترب ولو من بعيد من النّموذج الحقيقي للظّاهرة الطبيعيّة لا يمكنك إلاّ التّسليم بأنّ قدراتك محدودة بل ومحدودة جدّا. فهل من الأنسب أن تصف هذه المتغيّرات المواضع والزّوايا النّسبيّة بين كلّ جسمين من الأجسام الثّلاثة؟. هل ربّما يكون من الأنسب استخدام أنواع مختلفة من أنظمة الإحداثيّات الدّوارة Rotating systems؟، وهل من الممكن الاستفادة من الكمّيات الثّابتة في مشكلة الجسمين غير المقلقة؟. 
العديد من هذه الأفكار تمّ طرحها في القرنين الماضيّين لحلّ هذه المسألة. وفي جميع الحالات، كان المنهج المتّبع لحلّ مشكلة الأجسام الثّلاثة هو أن يقوم الباحث بصياغة المشكلة بالمتغيّرات المختارة. ويحدّد الوسيط الصّغير والذي عند مساواته بالصّفر، فإنّ المشكلة ستنهار فورا وتؤول إلى شكل سهل للحلّ. ثمّ يقوم الباحث بفك متسلسلة قوي في هذا الوسيط، مع الاحتفاظ بعدد من الحدود ذات التّأثير على الحلّ. وعلى الرّغم من كلّ هذه الجهود المبذولة لحل المسألة، لم نحصل على إجابات جيّدة بشكل مرضي. 
المسابقة الملكيّة 
كان ملك السّويد والنّرويج «أوسكار الثّاني» Oscar II شغوفا بالعلم وخصوصا بالرّياضيّات، فقد التحق بالبحريّة وهو في سنّ الحادية عشرة وأحبّ الرّياضيات حبّا كبيرا، وعند التحاقه بجامعة Uppsala درس الرّياضيات فيها. وفي عيد ميلاده السّتين اقترح عليه صديقه الرّياضي «ماجنوس جوستا ميتاج ليفلر» إقامة مسابقة «ملكيّة» علميّة حول إمكانيّة إيجاد حلّ تحليلي لمسألة الأجسام الثّلاثة وذلك بافتراض أنّ القوى المؤثّرة هي قوى الجذب المتبادل بين الأجسام الثّلاثة فقط. مع إمكانيّة التّبسيط بافتراض أنّ كتلة أحد الأجسام صغيرة جدّا بحيث تتأثّر بقوى الجاذبيّة النّاشئة عن الجسمين الآخرين ولا تؤثّر تلك الكتلة المتناهية في الصّغر في حركة الجسمين الكبيرين.  تبارى في تلك المسابقة كلّ الأسماء اللاّمعة في العلم وقتها وإلى يومنا هذا، لكنّ الجائزة كانت من نصيب المهندس والرّياضي الفرنسي «هنري بوانكاريه» بالرّغم من أنّه لم يستطع حلّ المسألة، لكنّه برهن على استحالة حلّها حلاّ تحليليّا تامّا في إطار ما هو معروف من رياضيّات في حينها وخصوصا عدم توفّر زمر التّماثل التي تولد ثوابت الحركة والتي بدورها تمكّننا من التّنبؤ بمستقبل الحركة داخل هذا النّموذج. وإلى يومنا هذا لم يكتشف زمر تماثل تخصّ ذلك النّوع من المسائل التّطبيقيّة. أدّى برهان «بوانكاريه» عن عدم نظاميّة المسألة إلى إكتشاف نظريّة الفوضى chaos  theory والبداية الحقيقيّة للتّوبولوجيا كعلم «topology» بل وللأنظمة الدّيناميكيّة أيضا «dynamical systems» . 
بعض الحلول الخاصّة: نقاط الاتّزان
ظهرت مشكلة الأجسام الثّلاثة عام 1680، وحينها أظهر «إسحق نيوتن» أنّ بإمكان قوانين الجاذبيّة التي اكتشفها أن تصف طريقة دوران جسمين تساهم الجاذبيّة في اتّصالهما، كحال كوكب يدور حول نجم مركزي. غير أنّه لم يتمكّن من التوصّل إلى حلّ لمسألة الأجسام الثّلاثة التي تدور حول بعضها بعضاً. وفي القرن الثّامن عشر، توصّل «لاجرانج» و«أويلر» إلى بعض الحلول الخاصّة لهذه المسألة وسمّيت هذه الحلول بحلول نقاط الاتزان. وعام 1970 وبمساعدة الحواسيب الإلكترونيّة، توصّل الفرنسي «ميشال هينون» والأميركيّ «روجر بروك»، إلى مزيد من الحلول. وحتّى وقت قريب، جرى تصنيف حلول مسألة الأجسام الثّلاثة ضمن ثلاث فئات هي: فئة «لاجرانج-أويلر»، وفئة «بروك-هينون»، وفئة الرّقم ثمانية، مع الإشارة إلى أنّ الفئة الأخيرة توصّل إليها الأميركي «كريستوفر مور»، من معهد سانتافي، في العام 1993. وترجع تسمية الفئة الأخيرة بالرّقم ثمانية إلى أنّ مدارات الأجسام الثّلاثة يُشبه الرّقم ثمانية 8. ويبدو حلّ «لاجرانج-أويلر» أكثر بساطة، لأنّه يقترح أنّ هذه الأجسام تدور على غرار ما تفعل مجسّمات الأحصنة في دوّامة الأطفال التي تنصب في منتزه للألعاب، إذا فصلت بينها مسافة متساوية. في المقابل، يقترح حلّ «بروك-هينون» أنّ جسمين يندفعان ذهاباً وإياباً باتجاه الدّاخل، فيما يدور الجسم الثّالث حولهما من الخارج.
حلول «لاجرانج - أويلر»
تمكن «لوينارد أويلر» من حلّ المسألة في صورة خاصّة جدّا مكّنته من معرفة ثلاث نقاط في فضاء الكتلتين الكبيرتين (أي في المستوي المداري لكلّ منهما) تتميّز هذه النّقاط هندسيّا بأنّها تقع على الخطّ الواصل بين الكتلتين الكبيرتين، وفيزيائيّا بانعدام محصلة القوى المؤثّرة علي الجسم المتناهي في الصّغر عندها في نظام الإحداثيّات الدّوارة، ممّا حدا بالعلماء إلى تسميتها بنقاط الاتزان الخطّية. تقع هذه الحلول المتّزنة عند  L1 ,L2, L3  على الخط الواصل بين الجسمين الكبيرين في الشّكل المقابل. تمكن «لاجرانج» بعد ذلك من إيجاد حلول أخرى غير التي أوجدها «أويلر»، فوجد نقطتين ليستا على الخطّ الواصل بين الكتلتين الكبيرتين وإنّما في مستوي الحركة المدارية للجسمين الكبيرين بحيث تعمل مثلث متساوي الأضلاع مع الكتلتين الكبيرتين وهما L4, L5. 
في هذه النّقاط الخمسة، إذا كان لدينا جسمان كبيران يدوران في مدارات دائريّة حول المركز الكتلة المشترك لهما ينتج من هذا النظام وجود خمس نقاط  في الفراغ، بحيث إذا وضع جسيم ثالث صغير الكتلة (كتلته مهملة من الممكن أن يكون محطة فضائيّة) في إحدى هذه النّقاط، فسوف يظلّ في هذا المكان بالنّسبة إلى الجسمين الآخرين، كما يشاهد في إطار الإحداثيّات الذي يتحرّك بسرعة زاوية مساوية لسرعة دوران الجسمين الكبيرين حول مركز الكتلة المشترك لهما. نجد أنّ المجال التّثاقلي لكلّ من الجسمين الأولين «الكبيرين» يتوازن تماما مع قوّة الطّرد المركزي عند هذه النّقاط الاتزانيّة، ممّا ينتج ثبات الجسم المتناهي في الصّغر بالنّسبة للجسمين الكبيرين(1). في الحلقة القادمة سنتطرق إلى موضوع استقرار تلك النّقاط الهامّة جدّا للدّراسات الفضائيّة.
الهوامش
(1)  C. Murray and S. Dermott, Solar system Dynamics, Cambridge University Press, 2000.