حكم وأحكام

بقلم
الهادي بريك
الحلقة الثّانية : فنون التّصوير والرّسم والنّحت
 ثبت من سنّته ﷺ أنّه حمل بشدّة على المصوّرين. حتّى وصل الأمر إلى حدّ لعنهم. وعندما نجمع فقه الرّواية مع فقه الدّراية كما هو حالنا في هذا العمل، فإنّا ـ وبعد التّأكّد من صحّة هذه الأحاديث ـ نبحث عن الحكمة من هذا النّهي المغلّظ، ونستنبط المقصد منه. ذلك أنّ كلّ أحكام الإسلام ـ سيّما خارج الدّائرة العقديّة والتّعبّديّة ـ معلّلة، مقصّدة، مفهومة، معقولة. وهذا ما لم تختلف فيه كلمة العلماء والفقهاء من قديم وحديث. وذلك لأجل إعادة وصل كلّ أمر وكلّ نهي خارج تلك الدّائرة بعلّته. والثّمرة هي نزول ذلك الحكم على محلّه المراد، نزولا يحقّق العدل والقسط وليس الجور والقهر.
في موضوع التّصوير ومشتقّاته نعلم أنّ التّصوير المعهود في تلك الأيّام هو تصوير الأصنام، أي نحتها من طين أو حجر أو خشب أو تراب أو أيّ شيء يجعل منها جسما يُعبد ويعكف عليه. قطعا مقطوعا لم تكن هناك في تلك الأيّام أيّ صيغة أخرى من صيغ التّصوير نحتا وتشكيلا ورسما عدا تلك الصّورة. النّاس أمّيون وحياتهم أدنى إلى البساطة، فلا أقلام ولا أوراق ولا ألوان ولا ألواح ولا جدر، ولا أيّ شيء يغري بالتّصوير والنّحت والرّسم عدا ما تعلّق بالأصنام .
ومن شرط الصّنم أو الوثن أن يكون جسما له ظلّ كما يقال، سواء شيّد على قبر أو على غير قبر. من هنا، لا يحتاج المرء إلى ذكاء وقّاد حتّى يعلم أنّ التّصوير الذي إستحقّ اللّعن إنّما هو تصوير الأصنام. سواء بغرض بيعها إذ هي سلعة رائجة وسوق نافق، أو بغرض عبادتها. هذا الأمر هو الذي جاء الإسلام لمقاومته ومحاربته، وليس له رسالة أخرى أعظم من تلك الرّسالة. كما أنّ الحديث عن التّصوير هو حديث عن عبادة تلك الصّور. ويشترك في ذلك الإثم الكبير المصوّر ـ الذي يوفّر مادّة الشّرك لكلّ طالب حتّى لو كان المصوّر نفسه غير ذلك وهو نادر ـ  كما يشترك في العمليّة العابد نفسه. 
ومن خصائص التّشريع الإسلاميّ ـ وخاصّة في السّنّة بسبب صبغتها العمليّة ـ أنّه يذكر وسيلة الشّيء المأمور به أو المنهيّ عنه، أو يذكر صيغته أو شكله، وغير ذلك ممّا ييسّر الفهم لكلّ مستمع. ومن ذا، فإنّ التّمييز بين الوسيلة في كلّ أمر وكلّ نهي وبين المقصد والغاية قيمة مهمّة تغذيّ العقل الباحث عن الحقّ والحكمة، وليس يخلط بين وسيلة وغاية وغيب وشهادة وعموم وخصوص. وعند العودة إلى القرآن الكريم نفسه بحسبانه الحاكم المطلق وبدون أيّ منازع على السّنّة، وعلى ما يأتي بعدها بالكلّية، فإنّا نجد أنّه يذكر أنّ الجِنّة الذين سخّرهم اللّه سبحانه لخدمة سليمان عليه السّلام يصنعون له فيما يصنعون تماثيل. قال سبحانه: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ﴾(1). ما هي التّماثيل التي كان يصنعها الجنّ لنبيّ اللّه سليمان عليه السّلام. لا نعلم. ولكنّنا نعلم أنّ التّمثال هو صورة جسميّة لها ظلّ وأبعاد مادّية يحاول صنّاعه محاكاة الحقيقة. ولذلك سمّيت تماثيل، كأنّها أمثلة حقيقيّة لذلك الشّيء المنحوت. قطعا لم تكن ممّا يخدش الحياء من مثل الأعضاء التّناسليّة. ولم تكن ممّا ينحته المشركون في مكّة من مثل ما كانوا يخرصون حول الملائكة زاعمين أنّها بنات اللّه سبحانه. ولم تكن كذلك تعظيما لأشياء تُنافي التّوحيد. ذلك أنّ الرّجل الذي لأجله ينحت الجنّ تلك التّماثيل هو نبيّ، رسول، ملك، عابد، جاء برسالة التّوحيد الإلهيّة كما جاء إخوانه بها من قبله ومن بعده. هنا لا يمكن إستخدام قالة يحتمي بها الذين يريدون تحكيم أهوائهم في الإسلام، أنّ ذلك من شرع من قبلنا. أي أنّه كان يجوز لسليمان عليه السّلام أن تكون له تماثيل أمّا نحن فلا. لماذا؟. لأنّ الأمر هنا عابر للزّمان والمكان. إذ هو عقيدة معقودة وتوحيد موحّد. الإيمان (العقيدة بالصّيغة الإسميّة الحديثة) هو هو. فلم تكن تماثيل سليمان عليه السّلام ممّا يتناقض مع عقيدة التّوحيد أو أيّ ركن من أركانه وخاصّة السّتّة المعلومة. فلا مناص لتلك التّماثيل إذن أن تكون لما ليس فيه تعظيم لغير اللّه سبحانه وليس فيه ما يناقض فطرة الحياء. ومن ذا فإنّ القرآن الكريم نفسه ـ وهو الحاكم على كلّ شيء حتّى السنّة نفسها وحتّى عندما تصحّ تلك السنّة كلّ الصحّة ـ يقرّ نحت تماثيل ليس فيها لا تعظيم لغير اللّه سبحانه وليس فيها ما يصدم الحياء العامّ. ومؤكّد أنّ تماثيل سليمان لها وظيفة ما، وظيفة جماليّة أو إجتماعيّة. وفي كلّ الأحوال فإنّها تنتمي إلى فنون التّصوير والرّسم والنّحت وما نسمّيه نحن اليوم الفنون التّشكيليّة. 
تلك هي منظومة الإسلام في تشريعه، أي تحكيم القرآن الكريم أوّلا، ثمّ السّنّة عندما تصحّ ثانيا، ثمّ تنداح بعد ذلك إجتهادا عقليّا في ضوء ذينك الأصلين المحكّمين. أمّا الأخذ بالحديث فحسب حتّى وهو صحيح وخاصّة مع تجاهل حكمته أو الجهل بها، فهو لا يليق بعقل باحث عن الحقّ والحكمة. 
ومن ذا جاءت حملته ﷺ ضدّ المصوّرين في إطار حماية عقيدة التّوحيد قيمة وشكلا، وفي إطار قطع كلّ السّبل والذّرائع التي تشجّع عبادة الأصنام والعكوف حول الأوثان. الحكمة العظمى من نهيه الصّحيح ﷺ عن التّصوير هي سدّ منافذ الشّرك وتعظيم غير اللّه سبحانه وحماية رسالة الإسلام الأولى. وعندما نبذنا قرن تلك الحكمة بالنّهي الوارد هنا جمدنا على صيغة النّهي. حتّى برزت رؤوس تحرّم كلّ الفنون المتعلّقة بالتّصوير. وحتّى بعد أن إتّخذ التّصوير أشكالا أخرى وصيغا جديدة بسبب إنفتاح النّاس على القلم والورق، ثمّ إخترعوا وسائل التّصوير الحديثة الملوّنة. ومضى ذلك التّحريم الجاهل يحطّم قيمة الفنون والجمال والزّينة، فلا نحت ولا تشكيل ولا تصوير، حتّى لو كانت الصّورة لوالد معلّقة على جدار بيت ولده. بل حتّى الصّورة الفوتوغرافيّة التي لا مناص منها فوق بطاقات الهويّة، والتي تلعب دورا حاسما في مقاومة الجريمة. وبسبب سيادة مساحات كثيفة من الجهل بين النّاس إنطلت تلك الحيلة الفاسدة على كثير منهم، وأضحت أكثر أسئلة النّاس عن التّصوير. أمّا فنون النّحت والتّشكيل فهي محرّمة قطعا، وما على معلّمي التّصوير في مدارسنا ومعاهدنا إلاّ إعلان البطالة والبحث عن مورد رزق حلال!. ثمّ ظهرت الصّورة الحقيقية الحيّة صوتا وصورة في وسائل الإعلام الحديثة، فاضطرب أمر هؤلاء، هل يقولون بحرمتها أم يصمتون. وتبيّن لكلّ ذي لبّ أنّهم ينعقون بما لا يسمعون وما لا يعلمون، وأنّهم يعيشون في أزمنة غابرة، وأنّهم ضدّ الإتجاه الإسلاميّ في معالجة الحياة وتغذيتها بالخير والبرّ والتّقوى. حتّى الفقه بصفة عامّة لم يكن حاسما في أغلبه في هذه القضيّة، إذ لجؤوا إلى تمحّلات كانوا في غنى عنها من مثل التّمييز بين صورة مجسّمة وصورة غير مجسّمة، وصورة لذات نفس أو روح أو لغير ذات نفس وروح. كلّ تلك تمحّلات تعكس تردّدا، وفتحت بعض الباب لمن جاء من بعدهم من أدعياء السّلفيّة المغشوشة والوهابيّة لنسف ما بقي من علم وفقه. ولو لزم هؤلاء وأولئك النّظام الإسلاميّ القائم على صناعة فقهيّة تتركّب من محطّات ثلاث (إستخراج النّص ـ تشذيبه وتهذيبه لإستنباط علّته أو حكمته أو مقصده الصّحيح ـ تنزيل ذلك الحكم على محلّه المناسب) لكانوا في غنى عن كلّ تلك التّمحّلات. 
الإستقراء الصّحيح قائم على الجمع المحكم بين النّص ومقصده يخبرك بيسر ـ لا تكلّف فيه ـ  أنّ كلّ ما يتعلّق بفنون التّصوير والتّشكيل والنّحت إنّما ينظر إلى مآله. فإن كان فيه تعظيم لغير اللّه سبحانه فهو محرّم، لأنّه مضادّ لرسالته التّوحيدية العظمى. وإن كان يدعو إلى إزدراء خلق الحياء وإباحيّة بهيميّة جشعة فهو كذلك محرّم، وإن كان التّحريم هنا أدنى درجة. وإن كان ذلك الفنّ لا يحمل شيئا من ذلك فهو مباح، بل يكون مطلوبا في بعض الأعمال التّسويقيّة التي هي عمدة العمليّة التّجاريّة. من يظنّ أنّ التّاجر الذي يعرض ملبسا فوق تمثال إنسانيّ يدعو إلى تعظيم غير اللّه سبحانه أو أنّه يقاس على المشركين الذين كانوا يصوّرون الأصنام ويصنعون الأوثان بغاية التّشجيع على عبادة غير اللّه سبحانه؟ ومن يظنّ أنّ من يصوّر حصانا أبيض جميلا أو قطّة أو كلبا أو حقلا أو حديقة غنّاء ذات ألوان متناسقة يدعو إلى مثل ذلك؟ ومن يظنّ أنّ من يعلّق تلك الصّور أو غيرها على جدران بيته يعظّم غير اللّه سبحانه؟ أليس تعليق صور الوالدين حتّى وهم أحياء مدعاة إلى برّهما وتعظيمهما وإكرامهما؟. ألسنا مأمورين بتعظيمهما، وهو تعظيم لا علاقة له بتعظيم الّله سبحانه. تعظيم الله للعبادة. وتعظيم الوالدين لتعظيم الله نفسه سبحانه فهو الآمر بذلك؟ ومن ينحت صورا مشكّلة مجسّمة لإبن خلدون مثلا في عاصمة عربيّة أو لغيره من الرّجال الذين قدّموا للإسلام ولحضارته علوما ومعارف، هل هو يدعو إلى عبادة إبن خلدون أو غيره. هل أنّ ذلك يهوّن من عبادة اللّه سبحانه؟ 
الصّورة اليوم هي لسان الأرض كلّها. وهي ضميره. وكلمة الصّورة اليوم أثقل من كلمة اللّسان بمرّات ومرّات. علينا إذن تحطيم كلّ الفضائيات حتّى التي تعلّم  القرآن الكريم. أليس المصحف نفسه اليوم مصوّرا تصويرا مجسّما؟ ومن يحتفظ بصورة زوجته أو حتّى مخطوبته في حافظة نقوده أو على جدران بيته أو في مكتبه، هل هو يعظّمها تعظيما يخدش عبادة اللّه سبحانه؟ وماذا عن صورة الكعبة التي هي في كلّ بيت؟ ومن ذا فإنّ التمحّل القديم لفقهنا الذي عالج هذه القضيّة في أزمنة أخرى وأمكنة أخرى وملابسات أخرى لم يعد يجدي. والتّمييز إلى حدّ اليوم بين صورة مجسّمة ولها ظلّ وبين أخرى ليس لها ذلك، وبين صورة ذات نفس أو روح أو بغير ذلك هو تمييز عفا عنه الزّمن. والتّصوير الملعون أهله هو تصوير ما يعظّم غير اللّه فحسب. وكلّ فنّ أو تصوير أو نحت أو تشكيل أو تمثيل ليس فيه تعظيم لغير اللّه سبحانه، وليس فيه عدوان على الفطرة بإظهار العورات التي تدعو إلى تدنيس القيم التي بها نحن أناسيّ مكرّمون. كلّ ذلك ليس هو مباح فحسب بل هو واجب جماعيّ تكافليّ في زمن عربدت فيه الصّورة كلّ العربدة وأضحت فيه للجمال والزّينة وفنون التّصوير والنّحت والتّشكيل مدارس ومعاهد وكلّيات ومسابقات. أمّا جعل الإسلام خصما للفنون وعدوّا للإبداع وضدّا للجمال والزّينة والتّعمّق في ذلك والتّشدّق فهو صنيعة الفارغين الذين يريدون سجن الإسلام في شبه الجزيرة العربية قبل خمسة عشر قرنا. كلمة التّصوير نفسها تغيّر معناها بنسبة 180 درجة كما يقال. ومن لا يعي التّطوّرات والتّغيّرات بعلم وفقه ومعرفة وحفظ للأصل الآصل الذي ما جاء الإسلام إلاّ لغرسه ـ وعلى رأسه طرّا توحيد الواحد الدّيان سبحانه ـ فهو يفسد. حتّى لو أشير إليه أنّه داعية إلى الإسلام أو أحد علمائه. العبرة بالدّليل والعلم وليس بقول هذا أو ذاك. فنون التّصوير نحتا وصورة وتشكيلا وصوتا وصورة أضحت اليوم مادّة يدعى بها إلى الإسلام وليست مادّة تخصم التّوحيد.
الهوامش
(1) سورة سبأ - الآية 13