ونفس وما سواها

بقلم
د. سعيد الشبلي
أسرار النّفس البشريّة: قراءة قرآنيّة الحلقة الثّانية: النّفس والرّوح
 ما هي هذه النفس التي شهد عليها الإنسان؟ إنّها واللّه أعلم، الجسد. وقد جاء في لسان العرب أنّ من معاني النّفس : الجسد. فالإنسان وهو في مستوى الرّوحانيّة المحضة، أشهد على نفسه قبل أن يقارنها فأجاب: بلى إنّ اللّه ربّي. فتكلّم بحقائق الوحدانيّة الصّافية المحضة، ولم يكترث باعتبارات النّفس وهي موطن الكثرة ومجال الكون والفساد. غير أنّ مرحلة اقترانه بهذه النّفس سوف لن تكون رحلة سهلة ولا عبورا يسيرا، بل سوف يثقل السّر حتّى يخفى، وسوف تنتاب الغفلة الشّاهد، بل سوف يغفل عن حقائقه ويغيب في أهواء النّفس لكي تظهر ذات أخرى مصنوعة من مادّة هذه النّفس ذاتها، إنّها النفس الأمارة بالسّوء. صنعت في مصنع النّفس وهي لا ترى إلاّ نفسها ولا تعرف وجودا منفصلا عن النّفس وعن آبائها وأجدادها. فتاريخ النّفس الأمّارة بالسّوء، تاريخ الآباء والأجداد، وتاريخ الزّمان والمكان. وهي أمام هذا التّاريخ، قابلة مصنوعة سلبيّة لا تستطيع رفض شيء ﴿إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾(1). 
ضمن نصّ الرّوح هناك رسالة واحدة وحيدة، هي التّوحيد الخالص. وضمن نصّ الجسد هناك أكثر من رسالة. فقد مُكِّن الشّيطان أيضا من الكلام داخل هذا النصّ ومن استعمال مصطلحات هذا الكتاب. ولذلك كان خطاب الجسد خطاب الزّمان والتّاريخ والقبل والبعد، والآباء والأولاد. إنّه خطاب النّسبيّة بكلّ انشطاراته وإمكاناته وتنوعاته. وبصرف النّظر عن طبيعة هذا الخطاب، فإنّ المفروض في حالة شهادة الرّوح على الجسد (النّفس)، أن يتوحّد المعنى والهدف، وأن تتوحّد الشّهادة للّه؛ لذلك سمّيت الشّهادة توحيدا أي دمجا للرّوح والنّفس في شهادة واحدة أنّه لا إله إلّا اللّه. وليس من المفروض البتّة أن تكون النّفس أصلا في حالة معارضة لمشروع الرّوح ولمقتضى رسالته، بل إنّها قابلة للاطمئنان أصلا، أي الاطمئنان إلى الحقّ الذي جاء به الرّوح. 
غير أنّ النّفس تدخل عليها الآفات من كونها مستعدّة لسماع أكثر من خطاب، فأذْنها ليست محجّرة على شيء، بل هي قابلة لسماع كلّ شيء، قادرة على أن تسمع اللّه، كما هي قادرة على أن تسمع الشّيطان: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا،فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾(2).. إنّها قد سوّيت على هذه الشّاكلة: السّماع والوعي عن الجميع، وفي النّهاية يكون موقفها ونوعيتها بحسب من تسمع عنه وتأخذ منه؛ فإن أخذت عن الرّوح كانت مطمئنة، وإن أخذت عن الشّيطان كانت أمّارة بالسّوء لأنّه يربّيها تربية السّوء. 
ليست النّفس في ذاتها إلاّ محلاّ قابلا، ولذلك ماثلت الجسد وظهرت فيه. فصحّ أنّ النّفس هي الجسد، لأنّ الجسد في ذاته لا معنى له، ولا يوجد ما يفصله أصلا عن الأجساد الأخرى. ولا ينفصل الجسد بالفعل ويتميّز إلاّ بحسب ما يتوفّر فيه ويرسخ في أعماقه، أي بحسب ما يسكنه من وعي أو لاوعي. ومن حقيقة أو زيف ومن وجود أو عدم. 
إنّ الجسد وجود موضوعي ليس قابلا للقيمة أصلا؛ وما تطرأ عليه القيمة وأحكامها إلاّ من قِبل ما يسكنه؛ فإن سكنه الرّوح وظهر فيه بآثاره كان نفسا مطمئنّة، وإن سكنه الشّيطان وظهر فيه بآثاره كان نفسا أمّارة بالسّوء. وهذا الكلام عن الجسد يصدق على الحياة الدّنيا؛ فهي ليست خيرا بذاتها ولا شرّا بذاتها، وإنّما بما يفعله الإنسان فيها، وكذلك الزّمان والمكان. والخلاصة أنّ النّفس ليست متّهمة بالأصالة ولا مزكاة بالأصالة، إنّها وجود موضوعي أو تجلّ موضوعي لما يقرّ فيها وما يستقرّ في أحشائها. هذا إذا أخذنا النّفس على أنّها الجسد.
جاء في القرآن العظيم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾(3). وجاء أيضا:﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ، فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ»﴾(4)، وجاء في سورة التكوير ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾(5).
ما هي هذه النّفس الواحدة التي انشطرت فيما بعد لكي يخلق منها زوجها؟
وما هو أو من هو هذا الزّوج الذي جعل من النّفس الواحدة ليسكن إليها؟ ولماذا يسكن الزّوج إلى النّفس؟ ولماذا يتغشاها؟ وما هو الحمل الذي حملته؟ فهل سبقت النّفس (الأنثى) الزّوج (الذكر) حينئذ على عكس ما يتصوّر الكثيرون؟ أم أنّ الحقيقة خلاف ذلك؟ ولماذا تزوّج النّفوس يوم القيامة؟ وما معنى تزويجها ؟
القرآن صريح في أنّ أصل البشر نفس واحدة خلق منها اللّه زوجها، وفي آية أخرى جعل منها زوجها على ما بين الخلق والجعل من التّمايز. فاستصناع الزّوج واستخلاصه من النّفس تمّ بالخلق، أي بالتّكوين والاستخلاص من ذات النّفس. فدلّ بذلك على أنّ مكونات الزّوج ليست غريبة عن مكوّنات النّفس، بل منها أُخذت. هذا الزّوج الذي استخلص من النّفس سوف تمثّل له النّفس مصدر سكينة واطمئنان. ﴿وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا﴾(6). فالنّفس أسبق في الخلق من زوجها، والحديث هنا عن الأنثى والذّكر. فالأنثى من الذّكر والذّكر من الأنثى وليس هناك ما يدلّ على أسبقيّة الذّكر إلاّ بقدر ما يمكن أن توحي الآية بأسبقيّة الأنثى، وخاصّة عندما نلاحظ قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ، فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا ...﴾(7)
فالزّوج الذّكر هو الذي يتغشّى الأنثى عادة حيث يكون البادئ بعمليّة المباشرة. والحمل يكون من الأنثى والإثقال يكون من جراء حملها، ناهيك أنّ السّكينة جاءت في أكثر من آية لتدلّ على خاصّية الكيان والوجود الأنثوي. ومن نفس الجذر سكن نجد المسكن وهو المحل الذي يسكنه الإنسان. يقول تعالى ﴿وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾(8). ويقول ﴿ فَتِلْكَ مَسَٰكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلَا قَلِيلاً﴾(9).
فالنّفس التي يسكن إليها الزّوج بمثابة المنزل والمسكن الذي يأوي الإنسان، فثبت أنّ النّفس محلّ يسكنه الزّوج، وأنّ هذا المحلّ قابل للإخصاب بحسب الزّوج. وكما يتغشّى الزّوج زوجه (نفسه) فتحمل، فكذلك تكون الأرض بالنّسبة لماء السّماء محلاّ للقبول وللتّأثير، حيث ينشأ عن نزول الماء حصول الخصوبة وظهور الثّمر. وكذلك استعمل اللّه تعالى نفس مصطلح السّكن في هذه العلاقة ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّٰهُ فِى ٱلْأَرْضِ﴾(10). فالنّفس والمسكن والأرض واللّيل حيث يقول تعالى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا﴾(11)، ويقول ﴿وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾(12)، كلّها مَجَالٍ لمعنى أساسي واحد معنى القبول والاستفادة والأخذ والسكون إلى الزوج. ولذلك، لا معنى للمسكن بدون ساكن، بل إن غاية وجود المسكن إيواء الساكن. ولا معنى لوجود الليل بدون النهار، فغاية سريان الليل بلوغ الصباح وظهور النهار. ولا معنى ولا قيمة للأرض بدون ماء. فمبدأ حياة الأرض يكون بنزول ماء السماء.
فالنفس تطلب الزّوج ولابدّ. ولا معنى لوجود النّفس وحدها أصلا، بل إنّ بناء النّفس وهيكلها لا يكون له معنى إلاّ بافتراض الزّوج. فالنّفس بناء لا يعقل إلاّ بزوجه. فزوج النّفس هو عاقلها أي هو الذي يعطيها معناها من حيث هو الذي يولّد المعنى فيها، وينشئ الخصب والولادة، ويظهر الكامن من إمكاناتها ومن أسرارها. وعليه، فإذا كانت الأنثى نفس الذّكر، فإنّ الإنسان بجمعيته في الاعتبار نفس واحدة هي محلّ لعاقلها وهو اللّه تعالى الذي لا يفهم لها معنى من دونه، و لا يرتجي منها خصب إذا لم يتولّها سبحانه وتعالى بالنّصر والتّأييد والنّفخ والّتسديد. فما هو هذا الزوج ؟
تكشف قصّة مريم العذراء عليها الصّلاة والسّلام عن حقيقة الزّوج الذي يقارف النّفس ويتغشّاها، وينشأ عنه بذلك الحمل والولادة. يقول تعالى:
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾(13).
ويقول تعالى: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(14)
ويقول تعالى مختتما سورة التّحريم: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾(15).
يتبيّن من قصّة مريم العذراء العفيفة التي أحصنت فرجها، أنّ الزّوج الذي أحبلها هو الرّوح، وهو روح اللّه تعالى الذي تمثّل لها بشرا سويّا.
فمريم ابنة عمران هي في الاعتبار النّفس التّقيّة النّقيّة القانتة، أي التي لم تشرك بربّها أحدا، والتي لم تجعل للشّيطان عليها سبيلا. فلمّا أحصنت فرجها وهو في الاعتبار المحلّ القابل فيها، أي منعته عن شياطين الجنّ والإنس، تهيّأت بالقنوت للّه لقبول نفخ الرّوح الإلهي الذي تمثّل بشرا سويّا من أجل إيناسها وكي لا تفزغ، وإلاّ فهو الرّوح الذي نزل على الأنبياء بالرّسالات من قبلها ومن بعدها. فالنّفس الرّضيّة التّقيّة القانتة لا زوج لها إلاّ الرّوح، روح اللّه الأقدس المبارك.
وبالتّأكيد، فإنّ النّفس المبتذلة والبغي الفاسقة زوجها الشّيطان جنّا أم إنسا. يقول تعالى عن يوم القيامة ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾(16). فالتّزويج للنّفوس في يوم القيامة يكون بمن كان لها قرينا ومن كان لها زوجا في الدّنيا.
 نخلص إلى أنّ النّفس محلّ قابل للزّوجيّة، وأنّه بطبعه يطلب الزّوج، وهي مسكن يطلب السّاكن، وليل يطلب نهاره ﴿يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتٍ بِأَمْرهِ أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾(17). فإذا ثبت ذلك، كانت المعضلة حينئذ مرتبطة بالزّوج. فالزّوج الذي يمكن أن يطأ النّفس ويزاوجها ليس واحدا؛ حيث أنّ هناك أكثر من زوج يطلب النّفس وينازع على مزاوجتها ومقارنتها. وإذ كنا رأينا أنّ الزّوج الحقيقي الذي تستحقّه النّفس الرّضيّة هو روح اللّه في حالة مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها، فإنّ زوج النّفس البغي التي لا تعرف للشّرف معنى، هو قرين الجنّ من الشّياطين. يقول تعالى في المنافقين والكافرين ﴿وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَٰنُ لَهُ قَرِينًا فَسَآءَ قَرِينًا﴾(18). ويقول أيضا: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾(19). 
جاء في لسان العرب:«القرين : الأسير (...) والقرين المصاحب...وفي الحديث: ما من أحد إلاّ وكلّ به قرينه أي مصاحبه من الملائكة والشّياطين، وكلّ إنسان فإنّ معه قرينا منهما، فقرينه من الملائكة يأمره بالخير ويحثّه عليه، ومنه الحديث الآخر: «فقاتله فإنّ معه القرين. والقرين يكون في الخير الشّر(...)
والقَرَنُ والقرين: البعير المقرون بآخر، والقرينة النّاقة: تشدّ إلى أخرى (...)والقرين: صاحبك الذي يقارنك ، وقرينك، والجمع قرناء. والقرنان: الذي يشارك في امرأته كأنّه يقرن به غيره (...)
والقَرُون والقَرُونة والقَرِينة والقرين: النّفس، ويقال :أسمحت قَرُونه وقَرينه وقَرُونته وقرينته أي ذلّت نفسه وتابعته على الأمر (...) وقرينة الرّجل: امرأته لمقارنته إياها»(20) 
يتأكّد من خلال ما تقدّم ممّا جمعه العلامة ابن منظور، أنّ القرين هو المصاحب، كما أنّ الحديث المروي إذا صحّ يدلّ على أنّ كلّ إنسان وكلّ به قرينه. وهذا الحديث يجد مصداقه في القرآن على كلّ حال. ويتبيّن كذلك أنّ العرب استعملت للنّفس اسم القرين والقرون والقرينة والقرونة من حيث أنّ النّفس لابدّ أن تقترن بزوج.
إنّ القرآن يستعمل القرين في المعنى السّلبي أي الشّيطان المزاوج للنّفس الكافرة. ويذمّ اللّه أولئك الذين قارنهم الشّيطان جزاء بسوء أعمالهم ﴿وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَٰنُ لَهُ قَرِينًا فَسَآءَ قَرِينًا﴾(21) . ولا ريب أنّ ورود هذه الآية في سورة النّساء ليس اعتباطا، بل لدلالات وأبعاد وحقائق.. إنّ هذا القرين الفاسد من الشّياطين يطالب بحقّه في النّفس الإنسانيّة إذا أعرضت عن ذكر الرّحمان ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾(22) . فمقارنة الشّيطان للنّفس الإنسانيّة مشروطة بغفلة هذه النّفس عن ذكر اللّه تعالى؛ حينئذ تكون مسكنا مباحا للشّيطان يعبث فيه ويفعل فيه ما يشاء. ولا تشعر النفس بسوء أفعال القرين وبالتّعاسة الكاملة والهلاك الذي أوردها فيه إلاّ عندما تأتي ربّها. حينئذ تعلم كم كانت جاهلة ومستلبة وتائهة وضالة: ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾(23) .
إنّ النّفس لا هويّة لها بنفسها أو في نفسها، وإنّما هويّتها تبدأ بمن يقارنها، لتظهر بثمرة المقارنة واضحة جليّة. ولذلك قال تعالى عن مريم ابنة عمران: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(24) . إن قوله تعالى «وَالَّتِي» إضراب عن الاسم لأنّه لا معنى له، وتأكيد على جوهر حركة وفعل هذا المحل «أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا». إنّ قوّة النّفس الحقيقيّة وفضيلتها الأساسيّة في إحصان فرجها، لأنّ النّفس هي أساسا فرج قابل للإحصان كما للانفراج والبغاء. فإذا أحصنت النّفس فرجها، انتمت حينئذ إلى نوعيّة خاصّة من النّفوس الطّاهرة النّقيّة، وحقّ أن يزوّجها الرّحمان بأكرم ما لديه: روحه المقدّس الأقدس. يقول تعالى «فنفخنا فيها من روحنا». فهنا يتّضح بجلاء أنّ النّفس محل فارغ يتطلّب الملء، فلا يقع النّفخ في الحديد مثلا، وإنّما يقع النّفخ في الأوعية الفارغة القابلة لدخول الهواء فيها. ولا يكون النّفخ إلاّ من فُرجة في المنفوخ فيه. فلمّا نفخ اللّه تعالى فيها من روحه امتلأت وحملت وأثقلت، وأجاءها المخاض، وولدت. فماذا ولدت ؟ لنستمع إلى المولود يتكلم بنفسه: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(25).
الجواب كان جاهزا من لدن المولود ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾. لقد ولدت مريم عبد اللّه أي المخلوق الذي صنعه اللّه على عينه؛ فالعبوديّة هنا عبودية الخضوع والامتثال والحمد والشّكر، وليست العبوديّة بالمعنى العام أي الخلق فقط، والتي تستوي في الاعتراف بها طوعا أو كرها كلّ الكائنات. 
إنّ عبد اللّه عيسى بن مريم، هو الإنسان الخاضع للّه، وهو ابن مريم وثمره نفخة الرّوح. فوالده الرّوح الإلهي هو الذي أخصب والدته مريم عليهما السّلام. فعلمنا أنّ مُذكِّر النّفس هو الرّوح على سبيل اليقين، وأنّ أكمل أنواع الزّوجيّة زواج النّفس التّقيّة بالرّوح. حينئذ يكون المولود آية بإذن اللّه، ويكون مباركا. أمّا النّفس الخبيثة البغي التي أباحت الحرم الشريف وتركته عرضة للرّائح والغادي، فهي أحرى أن لا تلد إلاّ الخبيث من الخلق، وأن تنجب الثّمرة الحرام والنّبت النّكد. جاء في الكتاب العزيز: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾(26).
إنّ الشّيطان لا يسعى لتوليد النّفس أصلا، بل يسعى إلى تعقيمها وقطع رحمها وإجداب أرضها. فإن أخرجت نبتا، فلا يخرج إلا نكدا والعياذ باللّه، ولذلك حقّ لنا أن نتشاءم كمسلمين من عمليّات تعقيم الأرحام، وأن نرى فيها عملا شيطانيّا لا فأل فيه ولا خير فيه (27). 
وإذا كان الشيطان يقارن النفس البغي فيصمها بالعهر، ويجعلها مطيّة كل راكب من الإنس والجنّ وذلك عبر التخويف أو الإغراء، فلا تستعصي عليه وعلى أعوانه، فإنه يطمع ولاشك في تعرية كل نفس إنسانية وفي مقارنتها. ولذلك نجد النفس الناجية تتحدث عن القرين الذي كاد يرديها، وتطّلع يوم القيامة من شرفات الجنّة فتراه وحده في سواء الجحيم، فتحمد الله على ذلك، ويكون ذلك من أسباب سعادتها، يقول تعالى عن أصحاب الجنة وما يتحاكونه فيها ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾(28).
هذا موقف حقّ يتبيّن فيه حال عباد اللّه المخلصين. وهنا نعرف معنى أن يكون الإنسان عبدا مخلَصا. إنّ الخلاص الحقيقي إنّما يكون من القرين الذي يسعى في مقارنة النّفس وإخضاعها قصد إذلالها وإفسادها باطنا وظاهرا والعياذ باللّه.  ترفض النّفس المؤمنة مقارنة الشّيطان (القرين)، وحينئذ تصبح عبدا للّه مخلصا لا تلد بإذن اللّه إلاّ عبدا مخلصا.
إنّ الزّوج يكون من جنس النّفس ومن نفس طينتها، فإن كانت نفسا حصينة تقيّة كان الزّوج روحا طاهرا، وإن كانت النّفس فاسدة كان الزّوج خبيثا فاسدا. لذلك قال تعالى في سورة النور ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾(28).
ابتدأ اللّه بذكر صفة النّفس «الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ» و«الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ»، فدلّ على أنّ نوعيّة النّفس جاذبة لنوعيّة الزّوج والقرين. فالنّفس الطّيبة يستحيل أن تجتذب خبيثا، والنّفس الخبيثة يستحيل أن تجتذب طيّبا. 
إنّه قانون ثابت : أن لا تقارن النّفس إلا قَرَنَها أو قـِِرْنَها الذي يحمل نفس خصائصها، لأنّه حينئذ يسكن إليها ويفنى فيها ليصبحا نفسا واحدة. فإن وقع تجاوز هذا القانون بنوع من أنواع التّعمية أو الإكراه فاقترنت الخبيثة بالطّيب أو العكس، يبرىء اللّه النّفس الطّيبة من مزاوجة القرين الخبيث كما برّأ امرأة فرعون من كونها قرينة له وزوجا حتّى لو كانت في واقع الأمر امرأته. ويبرئ سبحانه الرّوح الطّاهر من مقارنة النّفس الخبيثة كما برّأ نوحا ولوطا من امرأتيهما وما كانتا تفعلان.
الهوامش
(1) سورة الأعراف- الآية 173 
(2)  سورة الشمس - الآيتان 7 و8
(3)  سورة النساء - الآية 1
(4)  سورة الأعراف - من الآية 189 إلى الآية 192
(5)  سورة التكوير - الآية 7
(6)  سورة الروم - الآية 21
(7)  سورة الأعراف - الآية 189
(8)  سورة لإبراهيم - الآية 45
(9)  سورة القصص - الآية 58
(10)  سورة المؤمنون - الآية 18
(11) سورة الأنعام - الآية 96
(12) سورة النحل - الآية 80
(13) سورة مريم - من الآية 16إلى الآية 21
(14) سورة الأنبياء - الآية 91
(15) سورة التحريم - الآية 12
(16) سورة التكوير - الآية 7
(17) سورة الأعراف - الآية 54
(18) سورة النساء - الآية 38
(19) سورة الزخرف - من الآية 36 إلى الآية 39
(20)  لسان العرب، مجلد 13،، مادة قرن، ص ص 331 _ 341
(21) سورة النساء: 38
(22) سورة الزخرف : 36
(23) سورة الزخرف: 38
(24) سورة الأنبياء: 91
(25) سورة مريم - من الآية 30 إلى الآية 35
(26) سورة الأعراف - الآية 58
(27) يذهب الفقهاء في معظمهم إلى القول بإباحة تنظيم النّسل إذا ما اقتضت المصلحة ذلك، ويستندون في هذه الإباحة إلى أدلّة لابأس بحجيتها مثل أعمال الصّحابة الذين أثر عنهم استعمال طريقة « العزل» وهي أسلوب من أساليب الإضراب عن الإنجاب. أمّا التّحديد الكامل للنّسل وتعقيم الأرحام، فعمل لا يباح شرعا إلاّ لضرورة قاهرة دخولا تحت قاعدة الضرورات تبيح المحظورات.
(28)  سورة الصافات: 50-57
(29) سورة النور: 26