فواصل

بقلم
د.مصدق الجليدي
عشرة أدلة على الآخرة
 طرح علي صديقان حائران سؤالا عن مسألة دينيّة اعتقاديّة عويصة على العقل وهي مسألة البعث. فلئن كان وجود اللّه باديا للإنسان في متناول العقل بأدلّة مختلفة، رغم عدم قطعيّة أيّ منها في الحقيقة، فّإنّ مسألة البعث تبدو أكثر استعصاء على العقل لأنّ الحسّ الذي منه ينطلق تشكُّل أولى البنى الذّهنيّة للعقل، لا يفيد أبدا إمكانيّة عودة الحياة لإنسان ميّت. وقد وعدت أحدهما بالإجابة على سؤاله. ولكن كثرة مشاغلي البحثيّة لم تسعفني بالتّفرغ قليلا لهذه المسألة. والآن سأفي هنا بوعدي من خلال تقديم عشرة أدلة على صحة عقيدة البعث، ولكني أنبه إلى أنّ الأدلة التي سأسوقها لا يرقى أيّ منها لدرجة الدّليل القاطع، لأنّه لا يضمن قطع الشّكّ في البعث لدى صاحبه مهما تجرّد من الهوى والعناد. 
لكن باجتماع الأدلّة العشرة يمكن أن يحصل لدى المستمع إلى ندائه الفطري الدّاخلي نوع من الاطمئنان إلى هذه العقيدة الإيمانيّة. ويبقى الإيمان نفسه أقوى الأدلّة الذّاتية عليها رغم أنّه غير قابل للتّبليغ بمنطق العقل وإنّما مستقره الفطرة والوجدان السّليم. 
أولا- أدلة مخاطبة للعقل والوجدان وردت في القرآن الكريم:
1. الدليل الإيماني: التّصديق بالوحي أي بألوهيّة مصدره يفترض التّصديق بكلّ ما جاء فيه من أخبار الغيب، فاللّه لا يخلف الميعاد. والإيمان أيضا بقدرة اللّه التي لا حدّ لها: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا  قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ، وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾(1). 
2. ملاحظة دورات الطّبيعة: هُمودٌ، فإرواءٌ، فعودة للحياة النّشطة وإنبات أو توالد. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا  وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج﴾(2).
3. الدليل الوجودي: انتفاء العبثيّة: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾(3). إذا تأملنا ودقّقنا في ملاحظة ظواهر الطّبيعة والتّاريخ، فسنلاحظ أنّها تتظافر وتتقاطع وتتوالد وتتابع من أجل غايات لا تأتي إلاّ عبر حركيتها الكبرى. فمثلا ظاهرة الأبخرة وتصاعدها من البحار والأنهار والبحيرات خريفا وشتاء وربيعا بفعل الحرارة المختزنة فيها بتأثير من أشعة الشّمس في فصل الصّيف لتتكون منها السّحب، وهبوب الرّياح، وانقداح البروق، وقعقعة الرّعود، وظاهرة الجاذبيّة الأرضيّة والتّساقطات (أمطار- ثلوج- برد) تفضي كلّها في نهاية دورة من دوراتها إلى إرواء الأرض وإنبات البذور والغراسات ونموها وإزهارها وإثمارها. فهذه الظّواهر التي تبدو مفترقة ومتباعدة: احتدام الحرارة في قلب الشّمس بفعل الانفجارات النّوويّة فيها وإرسالها للحرارة للفضاء المحيط بها ووصول تلك الحرارة للأرض، ووجود مساحات مائيّة ضخمة في الأرض تختزن تلك الحرارة، وقابليّة مادّة الماء للتّبخر بفعل الحرارة، ووجود ظاهرة الضّغط الجوّي وهبوب الرّياح وتصادم الشّحنات الكهربائيّة في أعالي الفضاء ...الخ كلّ ذلك يؤدّي إلى نتيجة في غاية الرّوعة والفائدة لحياة الإنسان. 
الأمر نفسه نجده عندما ننظر في أحداث التّاريخ وأحوال المجتمعات والعمران البشري، فهي في نهاية المطاف تتشكّل على نحو منظومة أسباب كونيّة لانتقال الجنس البشري من طور إلى طور، ولكن ليس بطريقة خطّية نسميها التّقدّم، بل بطريقة معقّدة فيها وثبات إلى الأمام وفيها انتكاسات، وصعود أمم ودول وانحطاط وتفكّك أمم ودول أخرى، ولكن في النّهاية هنالك اتجاه عام ولكنّه لولبي المسار كحركة الكواكب نحو التّقدم العام للجنس البشري ورفاهيته وتطوّره العلمي والاجتماعي. فليست أحوال البشر اليوم كأحوال أسلافنا في العصر الحجري أو حتى في العصر الصناعي الأول. وليست أحوال المجتمعات في ما قبل النّظم الدّيمقراطيّة كأحوالها مع الحرّية والدّيمقراطيّة. 
وحتّى في المستوى الرّوحي، فإنّ إنسان هذا العصر مهيّأ لروحانيّة أكثر تسام وتهذيب من إنسان القرون الماضية الذي كان متأثّرا برؤى غيبويّة ساذجة وبعوائق ثقافيّة ومعرفيّة تجعله مثلا يتصوّر اللّه كائنا قابلا للانفعال، فيستشيط غضبا ويضحك حقّا فرحا، ويجازي عباده المؤمنين بعلاقات جنسيّة لا نهاية لها مع الحور العين...الخ، آخذا بظاهر نصوص الآيات والأحاديث. 
خلاصة هذا العنصر هو أنّ كلاّ من الظّواهر الطّبيعيّة والتّاريخيّة والاجتماعيّة محكومة بضربين من العلّة، إحداهما في خدمة الأخرى: علّة فاعلة وعلة غائية. الأولى تكشف عنها علوم الطّبيعة وعلوم الإنسان والاجتماع، والثّانية تُستقرأ ما بعديّا أو تبنى ما قبليّا بفلسفة في الطّبيعة وفي التّاريخ. والعلاقة بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان بينة. فالأول مسخّر للثاني، فيفسد (الإنسان) فيه أو يصلح. فإذا ما انتقلنا الآن إلى مستوى أعم وأشمل منهما جميعا: أي من المستوى الطّبيعي والمستوى التّاريخي، إلى المستوى الوجودي، فسندرك أنّ الوجود بأسره يسير إلى غاية وبحكم مبادئ عامّة له ولا يتخبّط في حركته على غير هدى. ووعي الإنسان هو الذي يضفي معنى على هذا الوجود (الشقّ الطّبيعي محكوم بمعنى مطابق للمبنى، أمّا الشقّ الإنساني فإنّه محكوم بقاعدة: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾(4) و﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا﴾(5). 
الوجود ناشط ومتحرّك ويسير إلى غاية، ولكن في حركته مفاصل من عمل صالح وآخر فاسد، والأفراد والأمم مسؤولة عن دورها في حركة الوجود: هل هو دور مفصلي صالح أم دور مفصلي طالح. والجامع بينهما هو قانون التّدافع الذي يجنّب الأرض في النّهاية الفساد الأكبر. وهو ما نريد به إبطال القول بالعبثيّة والعدميّة. 
4. الدليل اليومي: النوم (الموتة الصغرى) ثمّ القيام. عندما ينام الإنسان نوما عميقا، فإنّه يكون في وضع من غادر إيقاع الحياة في هذه الدّنيا، حيث لا يعي بشيء ممّا يدور حوله ولا يشارك فيه بشيء. ثمّ يستفيق ويدرك بحكم تبدّل الإحداثيّات من حوله، ولو بالنّظر في ساعته أنّه كان نائما نوما عميقا. يقول الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(6).
5. الدليل الإبداعي الخَلقي: إنّ الإنسان النّبيه قبل أن يحتار في ما أخبرت الكتب السّماويّة عن حتميّة البعث بعد الموت، يحتار قبل ذلك في سرّ الحياة. كيف أمكن تكوّن الإنسان انطلاقا من غبار كوني لا أثر فيه للحياة ولا وجود فيه لشروطها. سديم عظيم وكابوس مرعب وكون كان- بحسب الفيزياء الكموميّة ونظريّة البيغ بانغ- طاقة مكثّفة لا تحتلّ حيّزا يمكن أن يرى بالعين المجرّدة ولا حتّى بالمكروسكوب الإلكتروني، إن افترضنا وجود تلك العين وذلك الميكروسكوب، يتوسّع مليارات المرّات ليصبح في حجم كرّة مضرب من الطّاقة المكثّفة ثمّ يتوسّع أكثر فأكثر، وينفجر وتتولّد منه المادّة فإذا بالسّماء مجرّد دخان (سديم). ويتطلّب الأمر مراحل عديدة من الخلق تمتد لمليارات السّنين لتتكوّن بعد الطّاقة الغازات والمواد فالماء فأولى الخلايا الحيّة، وبعدها بملايين السّنين تتخلّق الكائنات المائيّة، فالطحالب والنّبتات الأرضيّة والبكتيريا والجراثيم، فالدّواب والحشرات والطّير وأخيرا يتخلّق الإنسان العاقل وله أسلاف أو أشباه: إنسان جاوة- إنسان بيكين- الإنسان الصّانع- الإنسان النّينتاردالي- الإنسان الدّراغون (سمي الدّراغون لأنّ جمجمته وجدت بواد الدّراغون في الصّين). 
لنبسط الأمر كثيرا ولا نبدأ القصّة إلاّ في وسطها: غبار خليط من غازات وتفاعلات طاقيّة وإشعاعات فمواد أوليّة يخرج منه إنسان ذو دماغ فائق التّعقيد والقدرات الإدراكيّة، وذو حواس متقنة التّركيب وذو أفئدة: غرائز وأحاسيس ومشاعر ومخيلة وذائقة جماليّة وذكاءات متعدّدة وروح، فيعبّر ويفكّر ويعيد بناء العالم من حوله، ويقطع المسافات الشّاسعة ويغوص في أعماق البحار ويطير في الجوّ وينتقل إلى أجرام سماويّة أخرى، كلّ هذا من ذاك الغبار الكوني!  أليس هذا أمرا مدهشا حقّا؟  لنتخيل أنّه في مرحلة السّديم الكوني (لمّا كانت السّماء دخانا: وليس الدّخان هنا هباءات الكربون المحترق بل ما ذكرناه من غازات وطاقة وإشعاعات ومواد) وجد- بطريقة عجيبة- كائنان عاقلان (ليسا بالبشر)، أحدهما أخبر الآخر بأنّه تلقّى وحيا يقول له أنّه بعد كذا مليار سنة سيتخلّق من هذا الغبار الكوني مخلوق حيّ، مدرك، مفكّر، معبّر، صانع ومخترع ومبدع، سيسمّى الإنسان وله كذا وكذا من الصّفات والقدرات، فكيف سيقدر المخلوق العاقل الثّاني على تصديقه إن لم يكن مشتركا معه في الإيمان بمصداقيّة ذلك الوحي؟! 
ملخّص هذا الدّليل هو أنّ ما حدث ولو مرّة واحدة (خلق الإنسان بعد أن كان سديما فترابا) من تراب، فإنّه يمكن أن يتكرّر إذا وجدت ظروف مناسبة لتخلّقه من جديد. وأنّ القدرة التي تفعّلت في الكون لتخليق هذا الإنسان لا يعجزها أن تعيد خلقه مرّة أخرى كما فعلت أوّل مرّة. وأنّ هذه القدرة من المستحيل أن تكون مجرّد عماء وجودي ولخبطة كونيّة عشوائيّة. إنّها ما يسمّيه الوجدان المؤمن القدرة الإلهيّة: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدهُ، وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾(7)
ثانيا- أدلة مستقاة من النظر العقلي ومن النظر في الوجود:
6. ملاحظة وفاة الإنسان وبقاء آثاره الرّوحيّة: كتاباته- أفكاره- أشعاره- أغانيه- أقواله مسجّلة...ويمكن افتراض الكون آلة تسجيل ضخمة لكلّ ما يجري فيه من أحداث واحتفاظ الكون بالطّاقة الرّوحيّة للإنسان التي تحوّلت عن طاقاته البدنيّة والعقليّة والوجدانيّة والرّوحيّة اليوميّة (في الصّلاة مثلا) إلى نوايا ومساع وأشواق وحالات روحيّة من خوف ورجاء وحبّ إلهي وغيره، أو على العكس من ذلك إلى نوايا سيّئة ومشاعر خبيثة وإرادات ومقاصد ومساع شرّيرة، فتفضي إلى طاقة ضدّ روحيّة، طاقة سلبيّة تُخلد صاحبها في الشّقاء، لا في النّعيم.
7. الدّليل الفلسفي: بقاء ما هو خالد في الإنسان: الرّوح. يقول «سبينوزا» في كتابه «علم الأخلاق»: «لا يوجد أيّ شيء حقيقي (جوهر) في هذا الوجود كما لن يوجد أي شيء في المستقبل خارجا عن ماهية اللّه، وأنّ ما يوجد من الحوادث لا وجود حقيقي له، بما في ذلك الجزء الفاني من الإنسان ومن النّفس البشريّة كالانفعالات المورثة للحزن، هذه النّفس التي ليست شيئا آخر غير الجسم منظور إليه كموضوع لفكرتها، أي حال من أحوال الامتداد لا غير(8). وهذه النّفس «لا تفنى تماما مع الجسم، وإنّما يبقى منها شيء أزلي»(9)، وهذا الشّيء الأزلي الباقي الذي هو «فكرة تعبّر عن ماهية الجسم البشري من منظور الأزل» يوجد في اللّه ضرورة(10). 
وحتّى وإن كنّا لا نقول بنظريّة الحلول التي يتبنّاها «سبينوزا» بكيفيّة ما لقوله: « لا يمكن أن يوجد جوهر خارج اللّه ولا أن يتصوّر»، وقوله أنّ «اللّه علّة محايِثة، لا متعدّية، لجميع الأشياء»(11)، فإنّنا لا نستطيع ألاّ نستحضر هنا الآيتين القرآنيتين: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾(12). طبعا الفناء يُتأول إسلاميّا بالتّفكّك لا بالعدم، ولكن هنالك وجه تأويل للآية يمكن أن ينطبق مع رأي «سبينوزا». 
8. الدّليل الأخلاقي: يتعرّض كثير من النّاس على مرّ الدّهور إلى مظالم كثيرة وبعضها في غاية القسوة والبشاعة ولكن الكثير منهم لا يتسنّى له الاقتصاص من ظالميه بسبب الموت: موته هو أو موت ظالمه قبل نيل حقّه منه. كما أنّ كثيرا من النّاس يقومون بأعمال تستحقّ الجزاء عليها في الدّنيا ولكنّهم لا ينالون ذلك الجزاء. 
في الحالتين يذهب تفكير الإنسان إلى فكرة العدالة الإلهيّة التي ستوفّي كلّ واحد من الخلق حسابه. ولن يكون الموت حائلا دون تطبيق العدالة الإلهيّة، لذلك يحتّم هذا التّصوّر النّاموسي الأخلاقي وجود بعث للأموات في يوم قيامة لتأخذ العدالة الإلهيّة مجراها. لهذا جعل الفيلسوف «امانويل كانط» خلود الرّوح واحدة من مصادرات العقل العملي الأخلاقي. 
9. الدّليل الوجداني: الأمل في ملاقاة الأحبّة والشّوق إليهم وأوّلهم الحبيب الخالق عزّ وجلّ والحبيب محمد (ﷺ) والأنبياء والرّسل الكرام والأهل والأحباب وفي مقدّمتهم الآباء والأمّهات.
10. الدّليل النّفسي التّأمّلي: عندما ينظر الإنسان في نفسه يدرك أنّ هنالك مكوّنا فيه فانٍ وآخر يأبى الفناء: فهو يرى جسمه كيف ينمو ثمّ تنحط قواه لدى الكبر، وبين هذا وذاك تعتريه حالات مرض وضعف. والأكثر من ذلك أنّه يرى أجساما كثيرة تتحلّل في التّراب. ومع ذلك يدرك الإنسان وجود ماهية له مطردة النّمو وتزداد نماء واتساعا وغنى بمرور الأيام. ولا يقدر على تصوّر اندثارها حتّى بفناء جسده. وهي غير النّفس المنفعلة بالحوادث والعوارض التي هي الجسم ذاته ولكن في غير مورفولوجيّته وإنّما في سيرورات معقّدة من فيزيولوجيّته. ولبيان الفرق بين الهيأتين المشار إليهما في ماهية الإنسان نذكر مثال الصّوم. 
بالصّوم يتعب جسم الإنسان ويجوع ويعطش ويتوتّر، ولكنّه يشعر مع ذلك أنّه بمقدوره السّيطرة على انفعالاته النّفسيّة الجسمانيّة بحالة روحيّة متسامية عن انفعالات الحواس. إنّنا ببساطة نتحدث عن وجود الرّوح وهذا الوجود يمكن للإنسان أن يدركه ويميّزه عن النّفس التي بها الغرائز والشّهوات والانفعالات. 
الهوامش
(1) سورة التغابن - الآية 7 
(2) سورة الحج - الآية 5 
(3) سورة المؤمنون - الآية 115
(4) سورة النجم - الآية 39
(5) سورة الجاثية - الآية 28
(6) سورة الزمر - الآية 42
(7) سورة الأنبياء - الآية 104
(8) سبينوزا ، علم الأخلاق ، القضية 13 من الجزء الثاني
(9) المصدر نفسه، القضية 23 من الجزء الخامس
(10)  المصدر نفسه، القضية 22 من الجزء الخامس
(11) الجزء الأول، القضية 18
(12) سورة الرحمان - الآيتان 26 و27