في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
القصص القرآني من منظور جديد (8) قصة ابْني آدم بعيدا عن الإسرائيليّات
 القرآن لا يُهدي جواهره إلّا لمن يُحسن الظّنّ بقائله عزّ وجل، ومن مُقتضى ذلك أن يعتقد القارئ لكتاب اللّه كمال البيان الإلهي، بحيث يستغني به عن أيّ نصّ شارح، يقينا منه أنّ اللّه نزّله على النّبي الأمّي﴿‌تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(1)، ألم يقل سبحانه:﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى، وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(2)
انطلاقا من هذه القاعدة الإيمانيّة التي ضيّعها المسلمون، سنقرأ اليوم قوله تعالى:﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا ‌فَتُقُبِّلَ ‌مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ ‌يُتَقَبَّلْ ‌مِنَ الْآخَرِ، قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ! قَالَ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ! لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ، فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ، قَالَ: يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي! فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾(3)
مجمل التّفسير التّراثي لقصّة ابنيّ آدم
افتتاح القصّة بقوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾ إشارةٌ إلى تلاوة سابقة كانت تجافي الحقّ، والمفسّرون للأسف لم يهتمّوا لهذا التّنبيه، فاحتطبوا في ظلمتهم المنهجيّة ما حرّف الكلمَ عن مواضعه.
وقد زعموا أنّ مثار النّزاع بين الأخوين هو الحسد الذي حمل الذي لم يُتقبّل منه قُربانه على قتل الذي تُقبّل قربانُه، لكنّ الجزء الأخير من القصّة يبدو منفصلا تماما عن بقيّة الأجزاء، إذ ادّعوا أنّ القاتل بقي مهموما بجثّة أخيه، لا يدري ما يفعل بها؟ حتّى جاء غراب ليعلّمه الدّفن، فشعر القاتل بالخزي، إذ لم يهتد إلى ما اهتدى إليه الغراب الحكيم، فندم أشدّ النّدم لا لأنّه قتل أخاه، بل لأنّه لم يدفنه! فانظر كيف بدأت القصّة في واد، وانتهت في واد آخر، وكأنّها أضغاث أحلام. 
وزعموا أنّ القاتل لم يكن تقيّا، وكان اسمه (قابيل)، وأنّ المقتول هو (هابيل) رمز التّقوى والورع التام.
أمّا التّوراة المحرّفة، فجعلت أصل القصّة عشقا محرّما، أدّى إلى التّنازع على النّساء.
الإطار المرجعي للقصّة
الزّمن الذي وقعت فيه القصّة هو عهد الأمّة الأولى، وهو الزّمن الذي خلق اللّه إنسانه في أحسن تقويم، وكان العنوان القومي لذلك العهد هو (بنو آدم) كما بيّناه في المقال السّابق، فنعتُ الرّجلين بابني آدم هو لبيان الهويّة القوميّة، كما نسب اللّه هودا إلى قومه فقال: ﴿وَاذْكُرْ ‌أَخَا ‌عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾(4) 
ولفظ (بَني آدم) في القرآن يشمل أجيالا آباؤهم وأمهاتهم شتّى، فليس بلازم أن يكونوا من أبناء آدم الأوّلين، ولا أن يعيشوا في زمنه، ولا أن يكونوا إخوة من بيت واحد.
وممّا حمل صنّاع الأساطير على ادعاء أنّهما من أبناء آدم المباشرين، وأنّ القصّة وقعت في حياته، زعمهم أنّ الدّفن لم يكن معروفا، وأنّ القتيل كان أوّل ميّت في التّاريخ، وهو زعم باطل لأنّ اللّه كان قد علّم آدم الأسماء كلّها، ولأنّ موضوع القصّة ليس هو الدّفن، وإنّما هو مواراة السّوءة.
وبخصوص مفهوم السّوءة، دعنا نراجع الميثاق الذي أخذه اللّه على الأمّة الأولى، وخاصّة في قوله تعالى:﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا ‌يُوَارِي سَوْآتِكُمْ، وَرِيشًا، وَلِبَاسُ التَّقْوَى، ذَلِكَ خَيْرٌ، ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا، إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ، إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾(5)
الإنسان خلافا لباقي الدّواب بَشَرَتُه ظاهرة، ولهذا نعته اللّه في الملأ الأعلى بأنّه بشر(6)، فكان إبليس على علم بذلك، لكنّ الأبوين لم يكونا في البداية قد رأيا ذلك من أنفسهما، إذ كساهما اللّه بالخَلق كما يكسو الطّير ريشا، والأنعام صوفا ووبرا، فكان من أهداف إبليس أن يهينهما بنزع اللّباس التّكريمي، ويفضحهما بكشف سوآتهما: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا﴾(7)
وجمع السّوءات اقتضاه أنّهما اثنان، لكلّ واحد منهما سوءتان: سوءة الظّاهر التي يواريها اللّباس، وسوءة الباطن، وهي التي لا يواريها إلاّ الإيمان والتّقوى، وحقيقتها الافتقار إلى الكمال اللاّئق بالإنسان، وهو كمال يتحقّق بالكسب تحقّقا قابلا للفقد، لهذا سمى اللّه التّخلّف عن الكمال إثما، قال ابن فارس يبيّن معنى الإثم في اللّغة: «هُوَ الْبُطْءُ وَالتَّأَخُّرُ. يُقَالُ: نَاقَةٌ آثِمَةٌ، أَيْ: مُتَأَخِّرَةٌ، وَالْإِثْمُ مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَا ‌الْإِثْمِ بَطِيءٌ عَنِ الْخَيْرِ، مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ»(8). 
وإرشادا إلى الكمال بوجهيه قال تعالى: ﴿وَذَرُوا ‌ظَاهِرَ ‌الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾(9)
وقائع القصّة مُستخرَجةً من القرآن
إذا استبعدنا الإضافات التي لا يدلّ عليها القرآن، يمكننا أن نعيد السّرد كما يلي:
صادف أن قدم رجلان من الأمّة الأولى قربانيهما في وقت واحد دون سابق اتفاق، وكان اللّه قد جعل لهم علامة يعرفون بها القبول وعدم القبول، فإذا بأحدهما قد تُقبّل قربانه، وإذا بالآخر لم يُتقبّل قربانه، فانكشف إثمه أمام أخيه في الملّة. 
اعتبر المُتقبَّل منه إثم أخيه خرقا للملّة، وتهديدا لنظام الأمّة، فتوعده قائلا: لأقتلّنك! فأجابه: إنّما يتقبّل اللّه من المتّقين! ومثل هذه العبارة تقال للتّذكير، وإلاّ كانت فخرا وتزكية للنّفس، والمقصود: لا يليق بالمتّقين أن يقتلوا، بل أن يستروا إخوانهم إذا انكشفت سوءاتهم! 
فلما رأى تصميمه على القتل أضاف: ﴿‌لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾. وزاده زجرا فقال: إني أريد بامتناعي عن مقاومتك أن تبوء بإثمي الذي اطلعتَ عليه، وإثمك المتمثّل في قتلي، فتكون من أصحاب النّار.
ورغم هذه الموعظة اللاّذعة، فقد رأى هذا المعتدّ بنفسه أن يتطوّع لتخليص الأمّة من هذا المُحْدِث الآثم: ﴿‌فَطَوَّعَتْ ‌لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ، فَقَتَلَهُ، فَأَصْبَحَ﴾ بعد أن تقبّل اللّه قربانَه ﴿مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(10) 
لكنّ القاتل المغرور لم يشعر بخسرانه الذي أبطل عمله، ولأجل إشعاره بعث اللّه غرابا يبحث في الأرض عن رزق بحيث يراه القاتل، فإذا بالغراب معه غراب آخر عاجز عن البحث، ينتظر أخاه أن يطعمه، فانتبه القاتل إلى قبيح فعلته، وندم أن لم يكن لأخيه المتعثّر كهذا الغراب الذي لم يخذل أخاه العاجز، بل استنقذه من الموت، وستر عجزه (11).
القصّة بين سِباقها ولِحاقها
هذه القصّة ذكرت في سورة المائدة التي ابتدأت بحثّ المؤمنين على الوفاء بالتّعاقدات السّياسيّة والاجتماعيّة والفرديّة، ثمّ ذكرتهم بميثاق اللّه الذي هو أصل لذلك كلّه، وبنعمته المتمثّلة في التّأييد والتّمهيد لإقامة أمّة كريمة في محيط من العداوة والتّآمر، وحذّرتهم من نقض ميثاق اللّه كما نقضه بنو إسرائيل بعد أن مكّنهم اللّه في الأرض، وهكذا إلى أن ذكرت السّورة قصّة تأسيس أمّة بني إسرائيل، ذلك التّأسيس الذي بدأ متعثّرا، ولم يكتمل إلاّ بعد زمن طويل من مرحلة التّيه.
وهاهنا بالتّحديد ذكرت قصّة ابني آدم، ثمّ جاء لِحاقها لاستخلاص العبرة منها، فقال تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾(12) 
وهذا التّرتيب يشعر بأهمّية القيم الأخلاقيّة المستخلصة من قصّة ابني آدم في بناء الأمّة، وحفظ مكتسباتها، إذ الكمال الإنساني حتّى في مجتمع الفطرة كان كمالا نسبيّا، فلا ينبغي التّطرّف في تقويم النّاس، ولا الاشتغال بإذاعة الفضائح، فليس من حقّ أحد أن يطارد من يعتبرهم آثمين كما تطارِدُ الشّهُب الشّياطين، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى زعزعة السّلم الاجتماعي، وإلى فقدان الأمن النّفسي، وسيدفع المتشدّدين لفتح باب القتل على مصراعيه.
لذا قطعت آية الاعتبار بأنّ قتل النّفس لا يبرّره شيء، ولا يمكن أن يكون له سبب مقبول إلّا أن يكون قصاصا عادلا، أو درءا لفتنة الخروج المسلّح على الأمّة، وهو الذي يسمّيه الفقهاء بالحِرابة، والأولى بالعقلاء في جميع الأحوال هو إحياء النّفوس بإقالة العثرات، ومواراة السّوءات، وإغاثة الملهوفين. 
ولتبشيع القتل وتعظيم شأن الإحياء جعل اللّه مَثل القاتل، الذي كأنّما قتل النّاس جميعا، هو ابن آدم الذي تُقبِّل منه، وجعل مَثل المحيي الذي كأنّما أحيا النّاس جميعا هو الغراب، فالقتل وضع من كان يرى نفسه فاضلا، والإحياء رفع طائرا مستبشعا تشاءمت منه الأمم. 
وهذا المثل كان قد ضربه الله لبني إسرائيل، لكن بُغاتهم خالفوه، ثم حرّفوه، فأفرغوه من الحقّ استهتارا بحرمة النّفوس، لهذا ختم اللّه آية الاعتبار بقوله: ﴿... وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ، ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾(12)
أي رغم التأكيدات المتوالية على هذه المسألة فقد أسرف المترفون وطلاب الرياسات على الخصوص في إرهاب النّاس وإراقة الدّماء لتنحية المنافسين، وردع المعارضين، وإخراس ألسنة المستنكرين، واستعملوا لتزيين جرائمهم نصوصا من كتاب اللّه، تظاهرا منهم بأنّهم حُماة الملّة، وحرّاس العقيدة. 
قال تعالى في قصة بني إسرائيل: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ‌لَا ‌تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾(13)
وتأمّل كيف جعل اللّه حرمة البعض حرمة للجميع، وجعل الجزء في ذلك بمثابة الكلّ، وذلك في قوله: ﴿ ‌لَا ‌تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ والمراد لا يسفك بعضُكم دمَ بعض، ﴿‌وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ أي لا يُخرج بعضُكم بعضا من ديارهم.
وهذا الذي خافه النّبي على أمّته فحذّرها في حجّة الوداع قائلا: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟»، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ! فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»(14).
خاتمة
من العجيب أنّ السّرد الأسطوري لقصّة ابنيْ آدم احتفظ لنا بحقيقة هامّة دلّ عليها اسم «قابيل»، فحتما لم يكن القاتل يحمل هذا الاسم، بل لُقّب به لكونه هو الذي تُقبّل قربانُه، وبدلالة المخالفة يكون «هابيل» هو الذي لم يُتقبل منه، والهَبْل لغة الثّكل، فهو الذي ثكلته أمُّه.
لقد لطّخ «قابيل» الفضيلة إذ جعلها سببا للقتل، وافتتح سبيل النّفي والإلغاء في حقّ من دنّسهم بلسانه، فتجافى عن أخلاق التّعايش التي تقضي بها أخوة الدّين والشّراكة في الإنسانيّة. 
إنّ قصّة «قابيل» و«هابيل» هي قصّة كلّ الأمم حين تفقد براءتها الأولى، فكم من قابيل خاض في دماء النّاس باسم الدّين وباسم المدنيّة والحضارة تحت وابل من تُهَم الخيانة والإلحاد والكفر والزّندقة والبدعة والهرطقة والسّحر الأسود والتّوحش والهمجيّة والإرهاب ... 
فتعسا لقابيل! فما أولاه ثمّ ما أولاه بقول النّبي ﷺ : «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ ‌عَلَى ‌ابْنِ ‌آدَمَ ‌الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»(15).
الهوامش
(1)  سورة النّحل - الآية 89
(2)  سورة يوسف - الآية 111
(3)  سورة المائدة - من الآية 27 إلى الآية 31
(4)  سورة الأحقاف - الآية 21
(5)  سورة الأعراف - الآيتان 26 و 27
(6) قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ ‌بَشَرًا ‌مِنْ طِينٍ﴾ [ص: 71]، وتستعمل (بَشَر) لغة في جمع (بَشَرة)، وهي ظاهر الجلد.
(7)  سورة الأعراف - الآية 20
(8) مقاييس اللغة: 1/ 60
(9)  سورة الأعراف - الأنعام 120
(10)  سورة المائدة - الأنعام 30
(11) لم يعرف في الرّصد العلمي الحديث أنّ الغربان تمارس الدّفن، وبالمقابل لوحظ أنّها تعيش حياة اجتماعيّة مؤسّسة على مبدأ الزّوجيّة، والرّعاية الأسريّة، والتّكافل بين أفراد الجماعة، بل تعرف الغربان مبدأ الصّداقة، وترسخها بتبادل الهدايا.
(12)  سورة المائدة - الأنعام 32 
(12)  سورة المائدة - الآية 32 
(13)  سورة البقرة - من الآية 84 إلى الآية 86 
(14) صحيح البخاري: 2/176 -177، رقم: 1741، ط السّلطانيّة
(15) صحيح البخاري: 4/133، رقم الحديث: 3335، صحيح مسلم: 3/1303، رقم: 1677، ط عيسى الحلبي