بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
من التّفسير إلى التّفكير - سورة الفيل أنموذجا الحلقة 2 : قصّة الفيل في الموروث التّاريخي
 إنّ حضور الحيوان في الثّقافة الإنسانيّة ضارب بقَدم في التّاريخ حتّى أضحى هذا الحضور أمرا مأثورا متوارثا. فبالحيوان يضرب المثل وبه تتمّ الكناية والتّورية والتّشبيه. ومن خلاله يتمّ التّقرب إلى الآلهة أو هو يقدّس ويُعبد بقرا كان أو خيولا أو إبلا أو فيلة أو طيورا «والواقع أنّ العرب كما أنطقوا الحيوانات بالحكمة والبلاغة وأجروا على ألسنتها المثل السارية والحكم المتداولة استغلوها كرموز دالة على خط سير القدر، فكأنما وصفت وصنعت في طريق الإنسان لتدله على ما يراد له وما يراد به»(1) . وإذ أنتج الأدباء فنّا رمزيا عماده البهائم فلعلّ من أبرزها الطّيور والفيلة.
(1) الطّير المقدّس
 للطّيور أنواع عديدة ووظائف متنوّعة ومنها ما يُؤكل كطير الماء وما لا يُؤكل كاللّقلق، ومنها القريب من الإنسان ومنها البعيد، ومنها الجالب للسّعادة والفأل الحسن ومنها ما يُتشاءم منه ويُتطيّر كطير العراقيب عند العرب(2). ولقد ظهرت الطّيور منذ وقت مبكر في الأديان والأساطير والثّقافات مجسّدة لتصوّرات عديدة إزاء هذه الكائنات. ولقد تعدّدت المعادلات الرّمزية للطّيور وتنوّعت بتنوّع الثّقافات. ففي الأساطير المصريّة القديمة تمثّل الطّيور الآلهة فأبو منجل المقدّس كان يرمز للإله تاخوت. والطاووس يرمز في الهند إلى أرض الأمّ. وهو عند الفرس رمز السّلطة الإلهيّة. والطّيور بصفة عامّة تمثّل رسلا روحانيّة من الآلهة. وفي الثّقافة الاسكندنافيّة يمثّل الغراب الهامس في أذن الإله. ولتمتّع الطّيور بالقدرة على الطّيران، فهي عند الكثيرين كالفرس والهنود تربط بين العوالم العلويّة والسّفليّة (3) .
وفي الثّقافة السّائدة في بلاد ما بين النهريْن يعتبر الحمام تجسيدا للآلهة «إنانا» الّتي تحوّلت لاحقا إلى عشتار آلهة الحبّ والجنس والحرب. وفي الشّام القديمة كان الحمام رمز الآلهة «عشيره». والحمام حسب الدّميري طائر يهتدي إلى أوطانه من مسافات بعيدة. وهو أشد الطّيور ذكاء، يُمعن في العلوّ حتّى يتسنّى له النّظر إلى علامات بلده، فيعود إليه متأخّرا ، لا يهاب النّسر، وهو يخاف العقاب، ويميّز بين الغراب والصقر، ويرعبه الشّاهين(4). وأمّا أثينا آلهة الحكمة فقد كان يرمز إليها بطائر البومة. وفي بعض الأساطير الخاصّة بشعوب الماوري يمثّل الرّخ طائرا عملاقا متوحّشا يختطف البشر. وعند الفرس يوجد طائر متوحّش يسمّى «السّيمرغ» وهو يستقرّ على شجرة الخلود ويتّخذ منها موئلا. وفي الحضارة الآشوريّة تُثبت بعض الجداريّات أنّ طيورا تشارك في الحروب وتساند الجيش فينتصر بفضلها. ومن ذلك يشير إلى الجدارية الّتي اكتشفت في مدينة كالح ويظهر فيها الجيش الآشوري في أحد الحروب تسانده طيور ضخمة وتسقط الأعداء(5).
وفي الكتاب المقدّس حضور للطّيور مهمّ موظف لغايات تعليميّة، فاللّه قد ذكر إلى أيوب عن النّعامة أنّها تتمتّع بسرعة مذهلة «عندما تخفق بجناحيها إلى العلاء تضحك على الفرس وراكبه»(6). وقد تساءل أيوب مناجيا ربّه «أمِن فهمك يحلّق الصقر أم بأمرك يرتفع العقاب في طيرانه»(7). ولقد تغنّى النّبي سليمان بصوت التّرغلة المبّشر بقدوم الرّبيع (8) . وفي المزمور 84 من الآيتيْن الأولى والثّانية حضور للسّنونوة المشجّع على خدمة اللّه في الهيكل والتّعبير عن معنى الحسد يكون بالعبارة التّالية: «الطّائر أيضا وجد بيْتا والسّنونوة عُشّا لنفسها حين تضع فراخها عند مذبحك العظيم يا يهوه». وأمّا في انجيل متّى في الإصحاح السّادس في الآية 26 قوله: «تأمّلوا طيور السّماء لأنّها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السّماوي يُقوتُها أفلستم أنتم بالحريّ أفضل منها»(9).  
والملاحظ في هذا الصّدد، أنّ الطّيور الّتي خلقها اللّه في اليوم الخامس «ثمّ أمر اللّه: لتزخر المياه بشتّى الحيوانات الحيّة ولتحلّق الطّيور فوق الأرض عبر فضاء السّماء» (10)مستخدمة في توفير الطّعام. وهي أداة للاكتشاف والمعرفة كإرسال نوح الغراب ثمّ الحمامة لمعرفة مدى انخفاض المياه «وبعد أربعين يوما أخرى فتح نوح النّافذة الّتي كان قد عملها في الفُلك. وأطلق غرابا، فخرج يحوم متردّدا إلى الفلك حتّى جفّت المياه عن الأرض. ثمّ أطلق نوح حمامة من الفلك ليرى إن كانت المياه قد تقلّصت عن وجه الأرض»(11). وهي وسائط للوقوف على الحكمة الإلهيّة في دقيق خلقه وتوفير الرّزق لأضعف المخلوقات ومدّها بالقدرة على الطّيران الّتي تساعد على الهجرة والتّحول من مكان إلى آخر.
ولم يعدم القرآن ذكر الطّيور بأجناسها المختلفة. وقد تكرّر ذكرها تسعا وعشرين مرّة. فهي تطير  في السّماء وتسبّح بحمد ربّها. وهي تشكّل أمّة بأسرها ولها نظامها الخاصّ ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ  ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾(12). والقرآن يذكّر النّاس أنّ الطّيور في مجملها نعمة من حيث ألوانها ومن حيث توفيرها للّحم الشّهي والطّيب. ومن الطّيور المذكورة في القرآن نجد السّلوى وهو ضرب من السّمان﴿وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ  كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ  وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(13). كما نجد ذكرا للهدهد الّذي يمتاز على سُليْمان بعلمه ويضطلع بمهامّ جليلة تتمثّل في التّخابر والاستكشاف تقول الآيات: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ  لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ  فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾(14). والقرآن صريح في الدّعوة إلى التّفكّر في خلق اللّه الذي منه الطّير﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ  أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد﴾(15). ويجعل اللّه هذا التّأمل في الخلق علامة دالّة على الإيمان بقدرته ووحدانيّته ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(16). فالطّير رغم ضعفه مسخّر في السّماء وجند من جنود اللّه الّذي يُسلّط ضدّ أعداء اللّه كالطّير الأبابيل. وقد أشار القرآن إلى طائر  الغراب ضمن  قصّة ابنيْ آدم في قوله: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ  قَالَ يَا وَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾(17)، والطّريف في هذا الصّدد أنّ الغراب الواحد في منطوق الآية الصّريح يصبح غرابيْن في التّفسير وهو ما يدل على تصرّف المفسّر في النّصّ المفسّر حتّى يجد مبرّرا كافيا لفهمه الّذي يخرج القصّة مخرجا مقنعا. لقد أورد الطّبري (ت923م- 310ه) في معرض تفسيره لهذه الآية: عن ناس من أصحاب النّبي ﷺ: لما مات الغلام تركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن، فبعث اللّه غُرابيْن أخويْن، فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له، ثمّ حثا عليه، فلما رآه قال:﴿  يَا وَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي﴾، فهو قول اللّه: ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ﴾. وفي رواية أخرى يورد الطّبري أنّ القاتل مكث يحمل أخاه في جراب على رقبته سنة، حتّى بعث اللّه الغرابيْن، فرآهما يبحثان، فقال: أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟ فدفن أخاه. وإذ لا تقتصر زيادة التّفسير لغراب ثان فإنّها تشمل أيضا مسألة الدّفن غير المذكورة أصلا في الآية. وعليه فإنّ هذا التصرّف قد يجعل المفسّر يشعر أحيانا بالحرج فيلجأ إلى التّخفيف من حدّة هذا الحرج الّذي يشعر به. ومن ذلك ما أشار إليه حين أورد عن ابن عباس أنّ اللّه بعث غرابا حيّا إلى غراب ميّت، فجعل الغراب الحيّ يواري سوأة الغراب الميّت، فقال ابن آدم الّذي قتل أخاه: ﴿يَا وَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا الْغُرَابِ﴾(18). وعلى هذه الشّاكلة تتقلّص الهوّة الفاصلة بين الآية وتفسيرها وإن تساوق القولان في مستوى إفراد الغراب الحيّ فإنّ ذكر الغراب الميّت ظلّ إقحاما صريحا وحشوا لا دليل عليهما فيها.
وإزاء هذه الصّورة الّتي رسمها القرآن للغراب، فإنّ الدّارس لا يجد مناصا من التّساؤل: إذا كان اللّه قد بعث الغراب هاديا ودليلا للظّالم  كي يرشده  للفعل الحسن، فما الّذي دعا إلى تكنية هذا الطّائر بأبي الشّؤم. وقد حيكت حوله قصص منها: أنّه كان يمشي مشيته فيما مضى فحسد القطاة ورام يمشي مشيها، فأصابه ضرب من العقال، فأضلّ مشيته وأخطأ مشيها ولذلك سُمّي بأبي المرقال، وبه يتمّ التّشاؤم لأنّه أسود يرمز إلى الحسد والغربة والغرابة(19).   
ولم تعدم الثّقافة العربيّة حضور الطّيور الرّمزي، ففي اليمن القديمة كان يعتقد أنّ الطّيور قد حلّت فيها الأرواح ولاسيّما أرواح الأموات الهادئة والحارسة. وهذه الطّيور ترمز إلى حضور الأولياء الصّالحين الّذين سخّرهم اللّه لخدمة «سيف بن ذي يزن» حتّى يحقّق النّصر على الكفر والطّغيان. «فالطّير حينئذ هي رمز القدرة الإلهيّة الّتي لا يعجزها شيء والّتي تحفظ من تشاء، وهي الّتي تسخر للمؤمن كلّ كائن حي ليكون في عونه»(20). وقد أورد الجاحظ (ت868م- 255ه) في حيوانه أنّ العرب كانوا يزعمون أنّ القنزعة الّتي على رأسه ثواب من اللّه عزّ وجل على ما كان من بره لأمّه لمّا ماتت جعل قبرها في رأسه(21). 
ولمّا تضمّنت صورة الفيل إشارة إلى الفيل بالإضافة إلى الطّير فإنّ ذلك يدعو إلى معالجة حضور الفيل في حياة الإنسان.
(2) الفيل المقدّس 
الملاحظ، هو أنّ علاقة الإنسان بالحيوانات تختلف من بيئة إلى أخرى ومن عصر إلى آخر. وعلاقته بالفيل شبيهة بعلاقته بالحصان والقطّ، من جهة الألفة ومن ناحية الشّبه في الطّبائع. فالفيل لا يعيش إلاّ وسط قطيع وهو يبجلّ الكبار ويقدّرهم. يذكر الدّميري أنّ الفيل ضربان: فيل وزندبيل. وقيل الذّكر هو الفيل والأنثى هي الزّندبيل وهي تحمل لسنتيْن وقيل لسبع. وإذا أرادت الوضع دخلت النّهر حتّى تضع لأنّها لا تلد إلاّ قائمة(22). واليوم يُعبد الفيل في آسيا وهو رمز النّبل في الهند لذلك عظّمه الهنود. وهو يستخدم لديْهم في الاحتفالات الملكيّة وعليه يتنقّلون. وقيل إنّ الفيل  يحمل بنابيْه على الجدار الوثيق فيهدمه، ولذلك دأب ملوك الدّولة الغزنويّة على فتح المدن بالفيلة ولاسيّما في عهد يمين الدّولة محمود بن سُبكتكين وقيل يعمّر الفيل مائتيْ سنة وأكثر(23). ويبدو أنّ النّوع الآسيوي هو الأوّل الّذي بدأ ترويضه لأغراض فلاحيّة. وفي حضارة وادي السّند تشير الأدلّة الأثريّة إلى وجود الفيلة في عهد مملكة «شانغا» 1600 و1100 ق م. وفي الصين رُوّض الفيل لغايات حربيّة. وفي التّراتيل الفيديّة، توجد إشارات إلى استخدام الفيلة في النّقل. وفي وقت متأخّر ظهرت الحاجة إلى اقحامه في الحروب. ومن الهند انتشرت فكرة المحاربة بالفيل. وفي سنة 331 ق م استخدم الفرس فيلة ضدّ الإسكندر المقدوني. وفي أوروبا كان أوّل استخدام للفيلة سنة 318 ق م من أحد رجال الإسكندر عندما حاصر مدينة «بيلوبونيز» وقد استعمل ستّين فيلا. ولمّا انهزم هذا القائد عمد خصمه «كاساندر» إلى نقل هذه الفيلة عبر البحر إلى اليونان لخوض معارك أخرى، ولكن بعض الفيلة ماتت جوعا سنة 316 ق م بمقدونيا لأنّ الفيل الواحد يستهلك ما يزيد عن خمسين ومائة كيلوغرام من العلف وما يقارب هذا العدد من ليترات الماء. 
ولم تعدم الحضارة المصريّة والإفريقيّة حضور الفيل في المعارك. وقد عُثر عن عُملة «جوبا الثّاني» في سنة 46 ق م تحمل صورة فيل إفريقي. ويروي «بوليبيوس»(24) أنّه في معركة رفح سنة 217 ق م استخدم بطليموس السّادس الفيلة. وقد سجّل الفيل حضوره في الحروب البونيّة ضدّ روما ولم يسجّل غيابه إلاّ بظهور البارود. والمهمّ أنّ الفرس والسّلوقيين هم الّذين اشتهروا باستخدام الفيل ولاسيّما في معركة «ذي قار» سنة 624م. ومدينة «بابل» كانت تعرف بطيورها الّتي تعرف باللّغة الأكادية وهي «باب ايلو» ومعناه بوابة الإله. وقد وردت عبارة «سجّيل» في النقوش الخاصّة بمملكة «عربايا» وهي تعني المذبحة أو المعبد الخاصّ بالإله «مردوك» ببابل ويعرف «بالأساجيل» ومعناه البيت الّذي تُرفع فيه الرّؤوس.
إنّ الفيل يمثّل معنى محدّدا في كلّ ثقافة فهو عند الإغريق دابة مصارعة ومساعدة على الحروب، وهو اسم عاصمة لدى الفراعنة. وهو إله النبل والتّضحيّة «غانيشا» عند الهندوس وهو عند العرب رمز تاريخي مقترن بميلاد نبي الإسلام. 
إنّ ضخامة الجسم الّتي يتمتّع بها هذا الحيوان جعلته شديد الارتباط بالرّموز الدّينية،  وبقيم الآلهة لدى بعض الشّعوب. ومن هذه القيّم نُلفي النّبل  والصّبر والتّضحية بالنّفس والحلم والعرفان بالجميل. وفي الهندوسيّة يتشكّل الإله «غانيشا» من نصف حيواني ومن رأس شبيه برأس الفيل وتمثاله يوجد في أكثر المعابد المقدّسة في الهندوسيّة. وهو يلقّب بمزيل الحواجز وإليه يُتقرّب بالذّبائح في بداية الإقبال على كلّ أمر جديد(25). 
لقد انتبه الإنسان منذ وقت مبكر إلى قدرة الفيل على خوض المعارك. ويبدو أنّ حنبعل القرطاجني هو أوّل من انتبه إلى هذه الخاصّية(26). ولقد استخدمت الإمبراطوريّة السّاسانيّة الأفيال في الحروب. وكان هذا الحيوان محدّدا في المعارك الّتي خاضها تيمورلنك ضدّ العثمانيين سنة 1402م. وبواسطة الفيل حقّق الجيش المقدوني بقيادة إسكندر الأكبر سنة 331 ق م انتصارا على جيش الفرس رغم استخدامهم للفيلة. وقد ولع الرّومان بإذكاء المصارعة بين الفيلة والنّمور. وقد ورد في كتاب «موسوعة أقاليم مصر الفرعونيّة» أنّ جزيرة كان يطلق عليها اسم الفيل ولربّما كانت هذه التّسميّة سبب رواج تجارة العاج المستخلص من أنياب الفيلة. يقول المؤلف في هذا المجال: «وقد أطلق اليونانيون والرومان على هذا الإقليم اسم «إليفانتين» ربّما لأنّ اسمه يعني الفيل، وربّما لأنّ الأفيال وجدت في هذا المكان مكانا ملائما لاستقرارها قبل هجرتها النهائية صوب الجنوب»(27).
وقد أُشير إلى أنّ الفيلة نوعان: نوع أوّل هندي «Elephas maximus indicus» وهو قابل للتدّرب على المهام المتنوّعة والمتعدّدة في شتى المجالات وهذا النّوع هو الّذي كان يُستخدم في الحروب. وقد اشتهرت الإمبراطورية السّلوقية باستعماله. ونوع ثان إفريقي يختلف في الطّبيعة عن النّوع الهندي ويسمّى «loxodonta» وهو صعب التّدريب وطاقته على خوض الحروب محدودة. وقد استخدمت الفيلة الإفريقيّة بأعداد كبيرة في مصر البطلميّة وعند القرطاجيين والرّومان. وآخر معركة استعملت فيها الفيلة الإفريقية هي معركة «ثابسوس» وهي «رأس ديماس» سنة 46 قبل الميلاد. وإذا كان الأحباش قد استخدموا حقيقة أفيال الحرب في اليمن في القرن السّادس ميلادي، فإنّ ذلك يكون أوّل استخدام موثّق تاريخيّا للفيل الإفريقي في الحرب منذ ستّة قرون، ولعلّه آخر استخدام من هذا النّوع على الإطلاق. وقد قيل أنّ العربات الملكيّة لملوك أكسوم كانت تجرّها الفِيَلة، الشّيء الّذي يدلّ بكلّ وضوح على أنّ الفيلة الإفريقيّة كانت قد سُخِّرت في أثيوبيا في ذلك الوقت لهذه المهامّ الّتي لم تكن نسبيّا شاقّة(28).
وقد ذكر ابن الأثير (ت1233م-630ه) فيما يتعلّق بحوادث سنة تسعين وخمسمائة  للهجرة من أنّ  نيارس الّذي صار أكبر ملوك الهند، قصد بلاد الإسلام فطلبه الأمير شهاب الدّين الغوري صاحب غزنة، فالتقى الجمعان على نهر ماجون. وقال: كان مع الهندي سبعمائة فيل ومن العسكر ألف ألف نفس، فصبر الفريقان، وكان النصر لشهاب الدّين الغوري، وكثر القتل في الهنود حتى جافت منهم الأرض، وأخذ شهاب الدّين تسعين فيلا، وقتله ملكهم نيارس، وكان قد شد أسنانه بالذهب، فما عرف إلا بذلك. ودخل شهاب الدّين بلاد نيارس، وأخذ من خزائنه ألفاً وأربعمائة حمل من المال، وعاد إلى غزنة. قال: وكان من جملة الفيلة الّتي أخذها شهاب الدّين الغوري فيل أبيض، حدثني بذلك من رآه»(29). والملاحظ، ممّا ذكره ابن الأثير، أنّ الفيلة جزء متأصل في العتاد الحربي لدى الهنود، وأنّ هزيمة هذه الجيوش المستخدمة للفيلة عمل ممكن غير مستحيل. 
ولمّا توقفت كتابة التّاريخ لدى ابن جرير الطّبري عند سنة 302 للهجرة، فإنّه لا يتضمن لهذه الحوادث ذكرا، وإنّما اقتصر  على ذكر هذا الحيوان عند حوادث هجوم أبرهة بفيله. وفي هذا المصنف إشارة إلى عهد كسرى أنوشروان الّذي يندرج فيه قدوم  أبي يكسوم أبرهة الأشرم مع الحبشة إلى مكة ومعه فيل يريد هدم الكعبة (30) . ويورد الطّبري رواية عن إبراهيم بن المنذر قال: عن العزيز بن ثابت عن الزبير بن موسى عن أبي الحويرث، قال عبد الملك بن مروان: لقباث بن أشيم الكناني الليثي، يا قباث أنت أكبر من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: رسول الله أكبر مني وأنا أسنّ منه، وُلد رسول الله عام الفيل ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعْقله (31) .
الهوامش
(1) فاروق خورشيد، أدب الأسطورة عند العرب: جذور التّفكير وأصالة الإبداع، عالم المعرفة، عدد284، الكويت، 2002، وبالتّحديد الفصل 5: الحيوان في الأسطورة العربية، ص 115.
(2) كمال الدّين محمّد بن موسى الدّميري، حياة الحيوان الكبرى، دار الكتب العلمية، ط2، 1424 هج، ص ص111-112.
(3) انظر عبد الله بن محمّد، حكايات الطّيور بين الشعوب، مقال بالمجلة العربية، المملكة العربية السعودية، ع537، بتاريخ 29/04/2021.
(4) الدّميري، م ن، ص180.
(5) يعود زمن  هذه الجدارية  إلى سنة 728 ق م. وقد اكتشفها عالم الآثار أوستن هنري لايارد سنة 1849م. وهي موجودة الآن في المتحف البريطاني. انظر صفحة سورية الحضارة والعلوم، الطّيور تساند الجيش الآشوري. مجتمع@SENHAREEB  
(6)سفر أيوب، الإصحاح 39، الآيتان 18،13.
(7) سفر أيوب 39، 27،26.
(8) نشيد الأناشيد، الإصحاح 2، الآية12.
(9) أنطيوس فكري، شرح الكتاب المقدّس: تفسير إنجيل متى، مشروع الكنوز القيطية، 2020.
(10) كتاب التّكوين، اليوم الخامس: الطّيور والأسماك، الآية 20.
(11)كتاب التّكوين،  تناقص المياه، إرسال الغراب والحمامة، الآيات8،6. 
(12) سورة الأنعام 6، الآية 38.
(13) سورة الأعراف 7، الآية 160.
(14) سورة النمل 27، الآيات 22،20. 
(15) سورة فصّلت 41، الآية 53.
(16) سورة النحل 16، الآية 79.
(17) سورة المائدة 5، الآية 31.
(18) ابن جرير الطّبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، مج4، تحقيق أحمد عبد الرازق البكري ومن معه، إشراف وتقديم عبد الحميد عبد المنعم مدكور، دار السّلام للطّباعة والنّشر والتّوزيع والتّرجمة، مصر، ط2، 2007، ص ص2831،2832.
(19) الدّميري، حياة الحيوان الكبرى، م ن، ص127.
(20) فاروق خورشيد، أدب الأسطورة عند العرب، م ن، ص 124.
(21) الجاحظ، الحيوان، ج 3، تحقيق عبد السلام هارون، ط2، القاهرة، 1965، ص511.
(22) الدّميري، حياة الحيوان الكبرى،  م ن، ص309.
(23) شهاب الدّين أحمد بن عبد الوهاب النّويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، ج 5، تحقيق محمّد رضا مروّة ومن معه، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، د ت، ص185.
(24) بوليبيوس هو مؤرّخ يوناني ولد سنة 208 قبل الميلاد بمدينة أركاديا. عاش في وسط سياسي وعسكري وشارك في حروب الرّومان. زار مصر في بعثة سياسيّة. وانضم إلى الدّائرة السّبيونيّة المشكّلة من الفلاسفة والمتعلّمين. تفرّغ في آخر حياته للتّأليف ومن أهمّ هذه التّآليف: رسالة في الفنون العسكريّة، وحياة فيلوبيمين، وكتاب التّواريخ الضّخم. كان متقنا للاتينيّة واليونانيّة، واختص في التّاريخ الرّوماني وجغرافية ايطاليا، وتوفي سنة 122 ق م.                             
(25) أحمد الخطيب ويوسف خير الله، الموسوعة العلمية الشاملة: تاريخ دول وأحداث، مكتبة لبنان، ط1، 1998، ص260 وما بعدها.
(26) موقع «الباحثون» السوريون، مقال بعنوان: تاريخ الفيلة كما لم تشاهده من قبل، ترجمة فاهد الكردي، بتاريخ 03/07/2014.
(27) محمّد علي، موسوعة أقاليم مصر الفرعونية: أسوان، إعداد منى سعد المشكلط، مكتبة جزيرة الورد، القاهرة، ط1، 2016، ص22.
(28) ناصر بن رجب، مكّابيّون وليس مكّة: الخلفيّة التوراتيّة لسورة الفيل،ج1، مقال منشور بمركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي، بتاريخ 05/10/2018. http://www.ssrcaw.org .
(29) عز الدّين بن الحسن ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق أبي صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدّولية، الأردن، السعودية، د ت، ص1831 وما بعدها.
(30) الطّبري، تاريخ الرّسل والملوك، ج1، ص570.
(31) الطّبري، م ن، ص571.