بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
المثقّف العربي والإسلام الأصالة لا تعلو على التّاريخ
 في ربيع سنة 1967 وفي لقاء رسميّ نادر اجتمع عدد من المثقّفين البارزين وكبار الفقهاء بأبرز رجال الفكر والأدب والتّوجيه لمناقشة قضيّة «الإسلام ومقتضيات النّهضة الحديثة» ضمن أعمال لجنة الدّراسات والتّفكير المتفرّعة عن اللّجنة المركزيّة للحزب الحاكم بتونس. امتدّت أعمال هذه النّدوة-الحدث إلى نهاية صيفَ ذات السّنة في تسع جلسات دُوِّنـَت محاضرها ثمّ طُبعت في وثيقة وزّعت على أهم لجان الحزب قصد التّعريف بالمشاغل الفكريّة والإيديولوجيّة للنّخب الحاكمة في البلاد التّونسيّة يومئذ. 
بالعودة إلى هذه الوثيقة الكاشفة عن طور ثانٍ من أطوار الخلاف بين المثقف والفقيه، يضاء جانب من الأنموذج التّونسي بخصوصيّاته المثيرة للاستغراب أحيانا وللجدل بل الاستهجان أحيانا أخرى. ليس مقصودنا من صفة الأنموذج أنّها تمثّل حالة مثاليّة ينبغي احتذاؤها أو أنّها أرقى من تجارب شقيقاتها. إنّما فرادتها في نوع الإضافة التي حقّقتها مقارنة بما كانت عليه أوضاعها الذّاتيّة، وبما أمكن أن تحقّقه أقطار عربيّة تشترك معها بقدر من الأقدار في إشكاليّة تحديث المجتمع. من تمايز تلك الخصوصيّة القطريّة ومن تقارب مشاغلها بالمشاغل العربيّة يتولّد توليف الأنموذج التّونسي الذي يبقى بذلك مصدر إغناء للوعي العربي.  
بماذا يمكن أن تفيدنا هذه الوثيقة الموصولة بتجربة النّخب التّونسيّة الحديثة مع الإسلام؟ وماذا يمكن أن نستفيده من قراءتها الآن، وممّا سجلته من أفكار وآراء أدلت بها نخب تنتمي إلى حزب انفرد بالحكم منذ ما يزيد عن عشر سنوات دون أن يسمح بمنازعته قانونيّا أو جماهيريّا أيّ طرف سياسي آخر؟
أشرف على سير اجتماعات تلك النّدوة الفكريّة، وأدار حوارها، ونظّم سيرها«أحمد بن صالح»، المثقّف والمناضل النّقابي الذي أصبح الرّجل الثّاني في الدّولة والحزب. ضمّ اللّقاء أكثر من خمس وعشرين شخصيّة تونسيّة منها ثلاث فقط من أعيان رجال الفقه على رأسهم مفتي الجمهوريّة. مشارك واحد من خارج تونس دُعي ضيفا ليساهم في إحدى حلقات النّدوة هو الدّاعية الإخواني والشّيخ الأزهري «محمد محمود الصوّاف» أصيل بلاد الموصل.
أوّل ما يلفت النّظر في مداولات هذا اللّقاء المتميّز أنّه طرح للحوار العلني قضيّة ما كانت لتُطرح للنّقاش بين نخب منضوية في حزب إعتاد أن يتابع بانضباط «توجيهات» زعيمه الوحيد خاصّة ما تعلّق منها بالقضايا المصيريّة من قبيل الإسلام والتّنمية والعلاقة بالمشرق العربي أو الحضارة الغربيّة. أن يُطرح موضوع «الإسلام والنّهضة الحديثة» لحوار حرّ في أعلى مستويات الحزب الحاكم دليل على أنّ التّوجهات السّابقة المعتمدة في الموضوع أصبحت بحاجة إلى مراجعة علنيّة وأكيدة.
إلى جانب هذا فقد كانت تركيبة الحاضرين ونوع مداخلاتهم بالغة الأهمّية. من ناحية كان ممثلو التّوجه «الفقهي» أقليّة غير أنّ كلماتهم جاءت طويلة، مثيرة للنّقاش ومتّفقة فيما بينها في تصوّرها العام. ما جمع بين هؤلاء هو اعتبار أن تخلّف المسلمين راجع إلى العادات والتّقاليد الطّارئة والعاهات الاجتماعيّة والذّهنيّة المتولّدة من«إهمال حقيقة الإسلام ومبادئه العليا». لذلك وقع رفض القول بأنّ حالة المسلمين المتردّية حجّةٌ على الإسلام بل اعتُبر الإسلام حجةً عليهم لأنّه ظلّ فاعلا ومددا «في المواقف الجهاديّة ومصارعة الاستعمار وتحقيق الأهداف القوميّة». 
مقابل هذا الطّرح جاءت مداخلات عموم المثقّفين قصيرة متنوّعة في أهمّيتها، لكنّها لا تلتقي على رؤية واحدة تجمع بينها. ردّ صنف أوّل بوضوح على رجال الفقه حاملي لواء الهويّة الإسلاميّة منكرا عليهم إعراضهم عن واقع الحضارة والتّقدّم اللّذين لا مراء فيهما ولا صلة لهما «بالإسلام أو ما عرفناه منه كما أُوِّل ودُوِّن في كتب الفقه». 
واقعيّة هذا الصّنف من المثقّفين المختلفين مع خطاب رجال الفقه تجعلهم ينكرون بوضوح إمكانيّة تجدّد الإسلام وقيمه. لذلك لا يتردّدون في القول: إذا كانت في الإسلام هذه المبادئ التي وقع التّنويه بها (العقل والحرّية والتّضامن)«فلماذا تَرك [الإسلام] هذه العادات تتغلغل في النّفوس؟ وإذا كانت هذه المبادئ موجودة فهل هي بارزة للعيان تفرض نفسها؟ ...ولماذا لم يدع إليها رجال الدّين؟». ثمّ يصوغ مثقّفو الواقعيّة ذات الاعتراض بصورة أخرى معتمدين على قيمة التّقدّم التي تتعارض مع مقولة العودة إلى الأصل، ذلك أنّ الرّجوع إلى الماضي قصد استعادة الجوهر الصّافي مُحال لأنّ السّعي إلى التقدّم منافٍ «للنّظر إلى الوراء». 
صنف ثان من المثقّفين ابتعد عن المقولتين السّابقتين المتناقضتين اللّتين تحاولان الإجابة عن سؤال: هل الإسلام معرقل للنموّ أم أنّ هناك عوامل أخرى تفسد البشر والدّيانات في آن؟ يرى هذا الصنف أنّ المشكلة مثنّاة وتتطلّب استعمال منظور آخر. المشكلة في تقدير هذا الصّنف من المثقّفين التّونسيين نتيجة ركود ذهني أفرز مظاهر تخلّف اقتصادي واجتماعي وسياسي لم تزدها معضلة المؤسّسة الدّينية، تلك الحاضرة الغائبة، إلاّ حدّة. يقوم هذا التّشخيص على أنّه لا وجه للحديث عن الإسلام بمعزل عن المسلمين، ذلك أنّ الإسلام بالمسلمين ولا يمكن تصوّر مسلمين دون إسلام. ما يؤكّد هذا التّلازم الجدلي هو أنّ الإسلام في فترة فُتوّته كان متجاوزا للأحداث لأنّ المسلم كان مستوعبا عصره وقضاياه ومتجاوزا لهما. أمّا في حالة الضّعف والتّراجع، فإنّ المسلمين لا يواكبون المدنيّة الحديثة وإنّما يزامنونها عن بُعد، فلا يكون الإسلام بذلك « الدّافع والمحرّك لها». من جهة أخرى فإنّ المعضلة المؤسّساتيّة في الإسلام تجعل أصحاب الحلّ والعقد من المسلمين لا يواجهون القضايا المستجدّة. إنّهم يعتذرون عن الالتزام بإجابات واضحة يقدّمونها، لأنّهم لا يعترفون بوجود « كنيسة في الإسلام وعندما يأتي من يريد أن يلتمس الحلّ لهذه المشاكل ينتصبون متكلّمين باسم الإسلام مدافعين عنه».  
ركّز صنف ثالث من المثقّفين تحليله على خطورة العدوّ الخارجي وفداحة تهديده للهويّة والأصالة اللّذين يتعذر إنشاء فضاء وطني حديث دونهما. لشرح مكوّنات هذه الأصالة التي لا صلة لها بالتّغنّي بالماضي، يتبيّن أنّها تشمل ثلاثة عناصر أساسيّة هي الدّين واللّغة العربيّة وترابط فكر النّخب والقيادة بتصورات الجماهير وعقائدهم.
إذا توقّفا عند هذا الحدّ من القراءة، فإنّ هذا النّوع من اللّقاء على ندرته وبفضل خصوصيّة الأنموذج التّونسي يمكن أن يساعد عربيّا على إيضاح جانب من إشكاليّة المثقف العربي في علاقته بالإسلام.
لقد أثبتت القرائن العديدة الواردة في الوثيقة أنّ تلك العلاقة تظلّ إشكاليّة، أي أنّها لا تحتمل صورة واحدة نهائيّة. ما يدعم هذا أنّ المثقفين المشاركين لم يجتمعوا على رأي واحد. أكثر من ذلك، لقد تأكّد أنّ كلّ واحد منهم قبل أن يكون علمانيّا أو ليبراليّا أو قوميّا هو حامل لذاكرة تاريخيّة لا يمكن أن ينفصل عنها وإن كانت ذاكرته تلك، ككل ذاكرة، انتقائيّة بالضّرورة. من ثمّ فإن أسوأ الحلول هو الحلّ الذي يعتمد الرّؤية الكليانيّة التي تدّعي أنّها قادرة، بمفردها، على بناء النّموذج الأمثل. إنّها بذلك تقصي كلّ فرص الإثراء المتبادل للنّخب النّاتج عن تنسيب الرّؤى وإيقاظ ما تغاضت عنه ذاكرة كلّ طرف عند بناء موقفه من الدّين أو من اللّغة أو من مؤسّسات المجتمع والدّولة.
لقد أورث الانسحاب المبكّر للفقيه في الأنموذج التّونسي استبعادا له في فترة لاحقة عن مشروع الدّولة الحديثة القطريّة لكون بُناتها لم يروا جدوى من البحث عن مشروعيتهم في المصادر الإسلاميّة. محصلة هذا الجانب من أنموذج قطري هو أنّ الاختيارات الكبرى التي لا تعتمد حوارا حقيقيّا أو مشاركة فعليّة تظلّ، أيّا كانت درجة تقدّميتها أو إنسانيتها، مهدّدة باللاّفاعليّة والانتكاس لأنّها لم تنجم عن وفاق فلم تكتسب شرعيّة تاريخيّة. هذا المعنى المستفاد من تجربة استبعدت فيها نخبةٌ مثقّفة حداثيّة رجالَ الفقه وخطاب الهويّة يظلّ قائما حتّى بالنّسبة إلى الذين يصدرون اليوم في مقارباتهم عن الهويّة الثّقافيّة والأصالة الدّينيّة. هؤلاء لا بدّ أن يذكروا أنّهم، كنظرائهم من المثقفين دعاة الوحدة القوميّة أو العدالة الاجتماعيّة أو الدّيمقراطيّة، لا يمكنهم الانفراد بادعاء البديل أو التّملص، إن وصلوا غدا إلى مراكز القرار والسّلطة، من قوانين الاجتماع الإنساني وضوابط الحياة السّياسيّة المدنيّة.