في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
القصص القرآني من منظور جديد (6) سرّ الإرادة الإنسانيّة
 

الإرادةُ: طلبٌ قلبيٌّ لاجتلاب ما ينفع واجتناب ما يضر، وهي بهذا المعنى مشتركة بين أنواع الحيوان، لكن اختصاص آدم بالخلافة دال على أن إرادته تتفرد بميزات لا نظير لها عند بقية الأحياء، فما هي يا ترى تلك الميزات؟

مقارنة تطبيقية
من المَشاهد المعبرة في عالم الحيوان صورة الأسود وهي مستلقية في كسل لا تلتفت إلى قطعان البقر والغزلان السائمة بالجوار، فإذا عضها الجوع تعاونت على اصطياد الفرائس، حتى إذا ملأت منها البطون عادت إلى كسلها وزهدها الأول، لا تشغلها حيازة تلك القطعان، ولا الخشية من هجرتها الموسمية.
لو افترضنا بدل تلك الأسود جماعة إنسانية، فكيف سيكون سلوكها؟
الجواب لا يحتاج إلى تأمل، وهو بلا تردد أنهم سيحرصون على حيازة تلك الأبقار والغزلان حيازة كلية، حتى لو كانت مليون رأس! مع بقاء لهفة في القلوب تقول: هل من مزيد؟ ولن يمنعهم من ذلك إلا العجز.
وهذا معناه أن رغبة الإنسان في الامتلاك لا تحكمها الضرورات الحيوية كما هو حال الأسد، لذا تجد من يمتلك وحده ثروة تكفي أمة عظيمة من الناس، ورغم ذلك تراه يجتهد في تنميتها، ومضاعفة أرقامها، ولو سألته: ما هو الرقم المالي الذي ستقف عنده مساعيك؟ لما وجد جوابا حاضرا لهذا السؤال الواضح!
الإرادة المحبطة
مما اتفق على ملاحظته حكماء الأمم أن الإنسان لا يطمئن بعد الكدح مهما نال من متاع الدنيا، ومهما بلغ ملكُه، فهو في طلب متجدد لا نهاية له، تراه ممتلئا نشاطا في بداية المشروع وأواسطه، حتى إذا بلغ النهاية المرجوة التي يتوقع عندها سعادة غامرة فوجئ بفراغ مقلق، وبرود عجيب.
إن شئت أن ترى ذلك عيانا في زمن قصير فانظر إلى الطفل حين يرغب في شيء، فهو يلح في الطلب، ولو حيل بينه وبين ما يشتهي لبكى بحرارة ومرارة، حتى ليخيل إليك أنك لو حققت مراده فسيسكن إليه، وينقطع به عن العالم انقطاع قمة إفرست، لكنه يفاجئك بعد التمكن من لعبته بفتور رغبته، ولا يطول به الوقت حتى يزهد فيها ويأخذ في التطلع إلى شيء آخر، هذا إن لم يحاول تهشيمها كأنه يبحث فيها عما ليس فيها.
شقاء الإنسان بما يريد
ومن أحسن من صور عطش الإرادة الذي لا يرتوي الأديب الناقد والمفكر المصري الشهير عباس محمود العقاد حيث يقول في قصيدة له:
صـغـيـرٌ يطـلـبُ الكِـبرا             وشـيــخٌ  وَدَّ  لـو صَــغُــــرا
وخـالٍ يـشــتـهي عَـمـلا               وذو عَــمــلٍ بــه  ضَـجِــرا
وربُّ الـمـال فـي تـعـبٍ             وفـي تـعــبٍ  مــن افـتــقـرا
وذو الأولادِ  مـهــمــومٌ              وطــالـبُـهـم  قــدِ انْـفـــطـرا
ومن فقـدَ الجمالَ شـكى              وقـد يـشـكــو الــذي بـهــرا
ويشـقى المـرءُ منهـزما              ولا  يـرتــاح  مـنــتــصــرا
ويبـغي المجدَ في لهـفٍ              فـإن  يــظــفــرْ  بـه  فَــتَـرا
شَـكـاةٌ  مـالـهـا  حَـكَــمٌ              سوى الخصمين إن حضرا
       فهـل حاروا مع الأقــدا             رِ أم هُـمْ حَـيّـروا  الـقـدرا؟
وأعظم محبوب دنيوي هو الاستكثار من المال، مع أن العالَم – كما يقول غاندي - فيه ما يكفي حاجات الجميع، لكنه سيضيق دائما عن إشباع جشع الجميع.
والصحيح أنه سيضيق عن إشباع جشع فرد واحد، ذلك أن رغبة إنسان واحد هي أكبر من العالم كله، وقد رُوي أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ أُعْطِيَ وَادِيًا مَلْئًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَالِثًا، وَلَا يَسُدُّ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ[1].
وهذه الرغبة الجنونية هي التي أشعلت الحروب العبثية عبر التاريخ، وجعلت الإنسان يطور من قدرته التدميرية حتى وصل إلى اختراع القنبلة النووية، ثم القنبلة الهيدروجينية القادرة على تدمير الأرض دفعة واحدة.
تقريب لحقيقة الإرادة الإنسانية
أهم ما يستفاد مما سبق تقريره:
ý  أن الإرادة لها تعلقان: تعلق بما يُطلب لذاته، وتعلق بما يراد لغيره.
ý  أنه ليس في أشياء الدنيا مراد لذاته ينتهي عنده طلب الإنسان، إذ كل ما يُدرك من الدنيا لا يطفئ عطش الإرادة، فتتطلع لما هو أكبر، وكأن أشياءها مجعولة للتوسل بها، لا للتوسل إليها.
ý  أن الإنسان يولد وهو لا يعلم حقيقة المراد لذاته الذي ليس وراءه وراء، وليس بعده بعد، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ ‌بُطُونِ ‌أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78]
ý  أن الإنسان يحتاج إلى تعليم يجنبه الإحباط المتكرر، ويطوي له الزمان فيعرفه على المراد الأعظم الذي لا مراد بعده.  
إرادة الإنسان إذن مصممة للتعلق بشيء ليس كمثله شيء، وهو أكبر من كل شيء، تعلقا لا يليق به في العربية إلا اسم العبادة، لذا قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا ‌لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] 
والعبادة كما عرفناها سابقا هي اسم لمحبة تحتل من الإرادة مركزها، تفيض بها قلوبُ الأبرار المطالعين للإحسان الإلهي، فتمنعهم أن يجعلوا لربهم نِدا ونظيرا، أو أن يتخذوا من دونه وليا ونصيرا.
وهذه المحبة المركزية تستبع من قوتها ما سواها من المحبوبات المناسبة، وتمحق في القلوب المحبوبات المضادة، وتحمل الإنسان على تحمل المكاره، وتجرع مرارات الحياة.
وهذا النوع من المحبة إذا صُرف لغير الله أشقى صاحبه، إذ يكون كالذي يريد أن يملأ ما بين السماء والأرض بحبة رمل، أو كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ، أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي ‌مَكَانٍ ‌سَحِيقٍ﴾ [الحج: 31]
ومن الأمثال المروية عن النبيّ الكريم في هذا الشأن: «‌تَعِسَ ‌عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ[2]، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ»[3].
ويا له من افتقار رهيب لا يزول ألمه إلا بأوثق عروة تربط بين الإنسان وخالقه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ‌أَنْتُمُ ‌الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]
فإرادة الإنسان جوفاء تتطلب الامتلاء، ولا يملؤها إلا محبة إلهية شاغلة: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ ‌تَطْمَئِنُّ ‌الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28] 
محل المراد الأعظم من الكسب الإنساني
الكسب لا يصير واقعة نفسية أو اجتماعية إلا بثلاثة أركان هي: العلم، والإرادة، والقدرة، ويمكن تمثيل ذلك بمثلث الإنجاز التالي:
مثلث الإنجاز.pngالعلم وظيفته الفطرية تعيين المراد الأعظم، ثم التعريف بالطريق إليه.
القدرة وظيفتها استثمار الموجود للوصول إلى المقصود، وهو المراد الأعظم.
الإرادة تتخذ العلم دليلا والقدرة مركبا طلبا للمحبوب الأعظم.
المحبوب الأعظم.pngوهذه النمذجة صادقة على كل كسب إنساني، مهما كان محبوب الإنسان الأعظم، والفرق بين الناس إنما يكون بالعلم، فمن لم يقبل البيان الإلهي ضل في تعيين المراد الذي إليه المنتهى، وشقي بمراده في الدنيا والآخرة: ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قَالُوا: ‌ضَلُّوا ‌عَنَّا، بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا! كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾ [غافر: 73-74]، وإليكم تمثيل آخر لنظام الكسب الإنساني:
 
 
 
ثغرات الإرادة الإنسانية
الإرادة الإنسانية لا تضبطها غريزة أولية صلبة كما هو شأن أكثر الأحياء، بل تضبطها التصديقات المعرفية، والقناعات الجماعية والفردية الواعية وغير الواعية، فلهذا يمكن إغواؤها وتضليلها.
والإرادة الإنسانية أيضا هي رغبة مُلوكية لا تجد في الدنيا ما يواتيها، لا قيمة، ولا زمنا، فكأنما هي شوق إلى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مع رغبة في الخلد الأبدي، ولا محل لهذه المطالب في الدنيا.
لهذا يحتاج الإنسان حصانتين: حصانة معرفية ضد التضليل، وحصانة سلوكية ضد الاستعجال.
فالحصانة الأولى موقوفة على هداية ربانية لأن أهم المعارف فيها غيب، والحصانة الثانية تحققها التقوى، والتي هي عبارة عن تماسك في انتظار وعد مؤجل.
الله تعالى كشف عن السر وراء جعله إرادة الإنسان على هذه الشاكلة المتفردة، وذلك حين أخبرنا عن ترشيح آدم لخلافة الله في الأرض، والاستخلاف مطالبة باتحاد إرادتين اتحاد تراض، فلا بد أن يكون نوع من التناسب بين الإرادتين وإلا لم يكن معنى للخلافة.
اختراقات إبليس
سر الإرادة الذي كشفناه أعلاه هو الذي تسلل منه إبليس ليغري آدم وزوجه بالأكل من الشجرة، فصوّر لهما أن الشجرة المنهيَّ عنها لها ظاهر وباطن، فالظاهر أن الأكل منها موجب للخروج من الجنة كما أخبر الله، والباطن على العكس تماما.
بل زعم أن الله أخفى هذه الحقيقة ليمنع عنهما الخلد والملك المُطلقين، فأوهمهما وجود إمكان خيرٍ من الإمكان الذي هما فيه، وأطمعهما في المحال: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا، وَقَالَ: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ ‌تَكُونَا ‌مَلِكَيْنِ[4] أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ، فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا…﴾ [الأعراف: 20-23]
والسوءات التي خفيت على الزوجين هي سوءة الظاهر التي انكشفت بسقوط لباس الجنة، وكان كالريش بالنسبة للطير، وسوءة الباطن هي التي انكشفت بالنسيان الذي أحدثه إبليس عبر إساءة ظنهما بربهما وإغرائهما بما لا وجود له، فتورطا في معصية الله الموجبة للطرد من الجنة.
ولهذا بين الله لنا العبرة المستفاد من هذه الواقعة في قوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا، ‌وَلِبَاسُ ‌التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ، ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 26-27]
فإراءة السوءات تحدث عند اغترار الإنسان بخيارات وهمية بديلة عن التكريم الإلهي الذي يُخرج من الإنسان أحسن ما فيه، فإذا بالمغرور في شباك عدوه المبين، عار من زينته التي كان قد أنعم الله بها عليه.
خاتمة
الإرادة الإنسانية إذا تعلقت بالله تحولت إلى إرادة تعمير، واتسعت الدنيا لكل الناس، لكنها إن تعلقت بالدنيا تحولت إلى إرادة تدمير، فتضيق الأرض على أهلها، لأن كل واحد يبحث في الدنيا عما ليس في الدنيا، إذ يطلب شيئا ليس كمثله شيء، وهو أكبر من كل شيء، ولن يقتنع الناس بالشراكة في الأرض إلا في وجود بديل عن الدنيا يكون أفضل منها، ذلك ما نبه عليه البيان الإلهي: ﴿‌بَلْ ‌تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى: 16-19]         

[1]- صحيح البخاري: 8/93، رقم الحديث: 6438، الطبعة السلطانية

[2]- عبد الخميصة كالمهووس اليوم بالموضة.