نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
في السّيرة الفلسفية ...
    تواردت كلمة السَّيرة الفلسفيّة في الموروث الفلسفي العربي الإسلامي، تحت أسماء منها  « السَّيرة الفاضلة» و«السَّيرة العادلة» و«سيرة الفلاسفة»، و«سيرة المتوحّد» و«السّيرة الأمامية». وقد أشار أبو بكر محمد بن زكريا الرَّازي، في نصّين له هما:«الطّب الرّوحاني» و«كتاب السَّيرة الفلسفيّة»، إلى سمات السَّيرة الفلسفيّة أو الصُّورة النّموذجيّة التي يجب أن يكون عليها الفيلسوف. يقول الرّازي «إنَّ السّيرة التي سار بها وعليها أفاضل الفلاسفة هي بالقول المجمل معاملة النّاس بالعدل والأخذ عليهم من بعد ذلك بالفضل واستشعار العفة والرَّحمة والنُّصح للكل و الاجتهاد في نفع الكل، إلاَّ من بدأ منهم بالجور والظُّلم وسعي في إفساد السياسة»(1)، ويقول كذلك «أقرب عبيد اللّه جلَّ وعزَّ إليه أعلمهم وأعدلهم وأرحمهم وأرأفهم. وكلّ هذا  الكلام مراد قول الفلاسفة جميعا«إنَّ الفلسفة هي التّشبُّه باللّه عزَّ وجلَّ بقدر ما في طاقة الإنسان» وهذه جملة السّيرة الفلسفية»(2)
كما ظهرت كلمة السّيرة أيضا في نصوص أبي الحسن العامري في حديثه عن المُلابس لصناعة الحكمة والمؤثّر لها على غيرها  من أنواع المشتهيات؛ فإنّ هَمُّه أي طالب الحكمة يتَّجه إلى «العناية بتطهير نفسه، واستصفاء أخلاقه، واستغزار علومه، واستكمال آدابه. فيرى إكرام نفسه متعلّقا بتخليتها عن العجب والنّزق، وتبعيدها عن الجهالة والخور، ورياضتها على الانقياد للحقّ، وتشريفها بالهداية للخلق، علما منه بأنّ الإنسان الكامل هو الذي استحكمت دربته على هذه السيّرة، واستولى مرانه على هذه السجيّة. فإنَّ  اللّه جلّ جلاله عدل ولا يحب إلاَّ العدل، وإنّه طاهر لا يحب إلاَّ الطّاهر»(3)
كما نجد  عند «ابن باجة» في تدبير المتوحّد إشارات إلى «سيرة المتوحّد» والوصف السّلوكي الذي يليق به منها قوله:«والمتوحّد الظّاهر من أمره أنّه لا يجب عليه أن لا يصحب الجسماني ولا من غايته الرُّوحانيّة المشوبة بجسميته، بل إنّما يجب عليه أن يصحب أهل العلوم ... يكون المتوحّد واجبا عليه في بعض السّير أن يعتزل عن النَّاس جملة ما أمكنه، فلا يلابسهم إلاَّ في الأمور الضروريّة أو بقدر الضّرورة أو يهاجر إلى السّير التي فيها العلوم إن كانت موجودة ...السَّيرة الأماميّة هي الأمر الطّبيعي للنّفس، وهي واحدة، تضادُّ سائر السّير، وهي كثيرة، والكثرة غير طبيعية للنّفس...»(4).
وعلى الجملة؛ تُحيل السَّيرة الفلسفيّة إلى سؤال الفعل، لكن ليس الفعل كموضوع كُلي، إنَّما أفعال الفيلسوف الذي يجتهد بعقله ويجاهد بإرادته طالبا إحقاق قيم فكريّة أو عمليّة يبصر من منظوره أنَّها لسان الحقيقة وترجمان الفضيلة، لذا فإنّ منهج التّحليل ؛ سيجد وهو يقرأ الفعل شكلين اثنين يكوّنانه، الأوّل، عباري كُلّي مشترك يعكس القيم العالمية بمعزل عن اختلاف مجالات التّداول، والثّاني، إشاري يختلف باختلاف مجالات التَّداول، والكلمة الواصفة للأوّل هي النّموذجيّة، وللثّاني هي، الشُّذوذيّة. وبناء على هذه القسمة الثّنائيّة يمكن التّرقي في البيان قليلا، صارفين القول إلى ذكر مواصفات الجانب النّموذجي في الفعل الفلسفي، الذي مبناه على أمور أربعة « أحدها، موافقة ظاهر الفيلسوف لباطنه؛ والثّاني، موافقة فعله لقوله؛ والثّالث، لزوم هذه الموافقة المزدوجة حتّى يستحقّ أن يؤخذ عنه باعتباره معلّما؛ والرّابع، التَّغلغل في هذه الموافقة المزدوجة حتّى يستحقّ أن يقتدى به باعتباره حكيما»(5). فثمّة إذن فضائل أربع يرتاض الفيلسوف عليها حتّى تكون صادرة عنه من غير فكر ولا تكلُّف: «الصّدق» و«العمل» و«العلم» و«الحكمة». وهنا أخذُ بِيَدِ العمل الفلسفي، إلى التَّحقُّق الأخلاقي في السُّلوك، درءا لسائد التَّصور عن الفلاسفة، من أنهم أهل العقل المجرّد، ومطالب السعادة في منظورهم تنحصر في تعقل الموجودات وتجريدها في مفاهيم نظريّة وعامّة. ويسمي أبو نصر الفارابي هذه الصّنف من التّفلسف المجرّد بـ « الفلسفة البتراء، والفيلسوف الزُّور والفيلسوف البَهْرج والفيلسوف الباطل»(6). والوصف الجامع لهاته الأصناف كما يرسمها الفارابي؛ ابتغاؤهم تَعَلُّم العلوم النّظريّة من غير تعويد النّفس عل الأفعال الفاضلة. بينما الصُّورة الأخْلق تُحاجِجُ على أنّ «الفيلسوف الكامل على الإطلاق هو الذي حصلت له الفضائل النَّظريّة أوّلا، ثمّ العمليّة ببصيرة يقينيّة. ثمّ تكون له قدرة على إيجادها جميعا في الأمم والمدن بالوجه والمقدار الممكنين في كلّ واحد منهم»(7). واللاَّفت في هذا المقطع، ليس مسألة تحصيل العلوم نظريّا، ولا حتّى المواطأة نحوها، إنّما الأخذ بها إلى الاستعمال في الفضاء العمومي، أو إيجادها هناك، وبهذا يكون وضع الفلسفة ليس للنّفع الشَّخصي أو الفائدة الجزئيّة، بل يُقصد بها أبدا المصلحة الكليّة، ومعلوم أنّ ما يَعُمُّ الموجودات جدواه؛ يكون في أمسّ الحاجة إليه أكثر، ممّا يكون مقصور نفعه على شخص واحد.
إلاّ أنّ هذه الصّورة النّموذجيّة للفيلسوف لا تحجب عنّا صورة أخرى مقابلة، هي الشُّذوذيّة كَمُكون إشاري، فالفيلسوف أحيانا قد يأتي أفعالا تخرج عن القواعد المُقرَّرةفي مجاله التَّداولي، ممّا يدعو إلى التّمييز بين نوعين من الشُّذوذيّة الفلسفيّة «الشُّذوذيّة الإيجابيّة وهي التي تحيي أو ترسّخ قيم الصّدق والعمل والعلم والحكمة... وهناك الشُّذوذيّة السّلبيّة، وهي التي تميت هذه القيم أو تضرّ بها في هذا المجال»(8). فالأولى خادمة للنُّموذجيّة الفلسفيّة التي مبناها الفضائل الأربع، والثّانية هادمة لهذه الفضائل. وتقنية السّيرة تأخذ بهذه المقولات لكي تعلّل بها أفعال الفيلسوف، مستندة إلى أدوات علميّة عديدة، فهما لبواعث السّلوك وتفسيرا لها، وهنا تظهر لنا أفعال فلسفيّة موافقة للنّموذجيّة، وأخرى معاندة لها، وأمثلة ذلك من الأسئلة حول سير الفلاسفة ما هو معنى الجنون الذي اشتهر به «نيتشه» وهل من صلة خفيّة به مع فلسفته؟ لماذا أنهى «جيل دولوز» حياته بالانتحار؟ ولماذا قتل «لوي ألتوسير» زوجته خنقا حتىَّ الموت؟ كيف لفيلسوف مثل «مارتن هيدجر» أن يتخلىَّ عن مبدأ الإلتزام الفلسفي وينخرط في سياسة الأنظمة الشُّموليّة؟  لماذا ناصر «جون بول سارتر» الثّورة الجزائريّة رغم أنَّ وطنه فرنسا هي المحتل؟ وفي المقابل: لماذا لا نجد فقيها أو صوفيّا أو متكلّما انتحر في تاريخ الثّقافة الإسلاميّة؟   
إنّ تقنية السّيرة، ليست بعيدة عن تساؤلات العقل المعاصر؛ بل هي وثيقة الصّلة به؛ فـ«تحت عنوان فلسفة الفعل، يطرح المحدثون الأسئلة الكبرى في الفعل: سؤال النَّقد في الفعل، الفعل والسُّلوك، السَّببية في الفعل، سيكولوجيّة الإرادة، كيف أنّ مصير الذّات بيدها، نقد الفعل الإرادي، التَّصور البنيوي للفعل، الفعل والحدث، السّؤال الأنطولوجي الكياني«ما هو الفعل»(9) وهذه الأسئلة تعدّ أدوات ساندة في فهم وتعليل الفعل الفلسفي بخاصّة كما يتعيّن في سلوك الفيلسوف أو سيرة الفلاسفة .
الهوامش
(1)  الطب الروحاني، ص 91
(2) كتاب السّيرة الفلسفية، الرازي، محمد بن زكريا، جمعها وصحّحها، بول كراوس، دمشق:بدايات للطباعة و النّشر و التوزيع، 2005.
(3) الأمد على الأبد.
(4) ابن باجة، تدبير المتوحّد،
(5)عبد الرحمن، طه، من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، مصدر سابق، ص 84.
(6) أبي نصر الفارابي، تحصيل السعادة، تحقيق أحمد فريد المزيدي بيروت: دار الكتب العلمية، 2004) ص 121.
(7) المرجع السابق، ص 118.
(8) من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، سابق، ص 85.
(9)  Vincent Descombesn, L’action,Notion de philosophie, sous la directuin de Denis Kambouchner,Folio essais,Paris p 104i-174أ