نقاط على الحروف

بقلم
د.عماد هميسي
الحكمة قاضية بالتّدرّج في الإصلاح «الجزء الثاني: أسلوب التّدرّج في إصلاح المجتمع»
 إنّ من الأخطاء الجسيمة الّتي يرتكبها بعض المصلحين أن يتجاهلوا سنّة التّدرّج في إصلاح المجتمع وتهذيبه، لأنّ الحماس المتدفّق، والرّغبة العارمة لا تكفي لإحداث إصلاح حقيقي يبقى أثره، ويستمرّ نفعه. إذن لا بدّ أن يعلم المصلح أنّ للإصلاح سلّما يجب أن يرتقيه درجة درجة، وإلاّ سقط.
المسألة الأولى: التّدرّج في عصر النّبوّة:
كلّ إصلاح في الأرض، يحتاج إلى إعداد كبير، و تهيئته لعمليّة الإصلاح الّتي يريد أن يغرس بذورها، لتنبت خيرا، و توفيقا، كما أنّه يحتاج إلى إعداد النّاس لتقبّل هذه العمليّة الجديدة، حتّى تنمو في أذهانهم، وتسمو، وترسخ آعتقادا، وممارسة. ذلك كلّه لا يتمّ إلاّ عن طريق تدرّج يمتدّ سنين طويلة، وذلك شأن الرّسول ﷺ عندما بنى دولته، وأعدّ رجاله ليحملوا المشعل من بعده، ولو أراد أن ينبني ذلك كلّه في يوم واحد، أو عام واحد لما آستطاع إلى ذلك سبيلا، ولآنهارت دولته، ولضعفت شوكته، ولقضي عليها في مهدها قبل أن تطرق آذان الآفاق، تدعو إلى الحقّ وإلى الصّراط المستقيم.
من هذا المنطلق نرى الرّسول ﷺ يبدأ بإصلاح محيطه القريب، فيبدأ بإصلاح زوجته خديجة وصاحبه أبو بكر وابن عمّه علي بن أبي طالب وغلامه زيد بن حارثة رضي اللّه عنهم جميعا، ثمّ اتّسعت الدّائرة لتشمل محيطا من أقاربه أوسع من ذي قبل عملا بقوله تعالى:﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾(1).وهكذا تدرّج ﷺ في إصلاحه حتّى بلغت إصلاحاته الآفاق.
لقد أمضى الرّسول ﷺ ثلاث عشرة سنة في إعادة صياغة الإنسان المؤمن، والجيل الفريد، وفق معالم القرآن الكريم وقيمه، أي بدأ بالدّرجة الأولى في سلّم التّغيير الكبير والجذري والشّامل والعميق، تغيير الأنفس الإنسانيّة كي تصبح قادرة على تغيير الواقع وفق المنظومة القيميّة، الإيمانيّة.
يقول الله تعالى:﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(2) . 
وهذا الصّحابي جندب بن عبد اللّه(3)رضي اللّه عنه يقول: «كنّا مع النّبيّ ﷺ ونحن فتيان حزاورة(4)، فتعلّمنا الإيمان ثمّ تعلّمنا القرآن، فآزددنا إيمانا»(5).
إنّها مرحلة تكوين الرّجال، حيث يكون فيها التّركيز على خطاب القلوب وتربية الوجدان وإعداد المصلحين إعدادا يضمن به الاستمرار والبقاء لإكمال المسار في التّطبيق والتّنزيل، ولا يخفى عن دارس السّيرة كيف أدار الرّسولﷺ برشاد وحكمة معركة بناء الرّجال وإعدادهم وتنشئتهم وتربيتهم وتعليمهم، سنوات متتابعة حتّى أخرج للعالمين جيلا فذّا لم يتثنّ بعد.
إنّ الأهداف الّتي يراد الوصول إليها في إصلاح الأفراد لا يمكن تحقيقها من خلال مواقف متسرّعة، بل لا بدّ من خطوات متدرّجة تبدأ بالمهمّ فالأهمّ، ومن العام إلى الخاصّ، ومن السّهل المبسّط إلى الصّعب المعقّد تبعا للقدرات، وبحسب الرّغبة في الآرتقاء حتّى نصل إلى هدفنا بالتّحديد، وهذا من شأنه أن يهيّء النّفوس لتقبّل الأوامر، والنّواهي، ويعمل على توطيدها للآستجابة لحكم اللّه تعالى، وعدم التّسخّط والتّذمّر.
من هذا المنطلق سعى النّبيّ ﷺ  إلى إقناع النّاس بالتخلّي عن المظالم، وعن العادات الفاسدة الّتي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي من عبادة للأوثان، والأصنام، وقتل للأولاد خشية للفقر، وأكل الأموال بالباطل، وآرتكاب للفواحش كالزّنى، وشرب الخمر. دون أن يثقل عليهم، أو ينفّرهم حتّى يبلغ بهم المنزلة الّتي يريدها لهم، ومن ثمّ يسهّل عليهم التّخلّص من تلك العادات السّيّئة المستحكمة فيهم، ويتعلّموا قيما جديدة بدلا منها.
لأنّه كما لا يخفى على كلّ دارس أنّ نزول التّشريعات، والأحكام جملة، ينفّر المجتمع، وتجعلهم في عنت، ومشقّة، لأنّ الإنسان إذا كان في حياة منحلّة على التّديّن، واعتادت نفسه عليها، لا يستطيع أن يكلّفها الخروج عن هذه الحياة إلى حياة أخرى تماما، ويمتثل مشاريع أخرى بين يوم وليلة.  
فالرّسول ﷺ صبر في مكّة على الأصنام وعبادتها، فكان يصلّي بالمسجد الحرام ويطوف بالكعبة وفيها وحولها، ثلاثمائة وستّون صنما، بل وطاف في السّنة السّابعة للهجرة مع أصحابه في عمرة القضاء، وهو يراها، ولا يمسّها حتّى حان الأجل وأتى الوقت المناسب يوم الفتح حيث تيقّن في سقوط شأنها من قلوب النّاس فحطّمها، وخلّص بيت اللّه من رجسها.
عن السيّدة عائشة رضي اللّه عنها أنّ النّبيّ ﷺ قال: «يا عائشة لو أنّ قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين بابا شرقيّا وبابا غربيّا وزدتّ فيه ستّة أذرع من الحجر، فإنّ قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة»(6).
ولعلّ رعاية الرّسول ﷺ لأسلوب التّدرّج في الإصلاح جعلته يبقى أنذاك على نظام الرّق الّذي كان سائدا في العالم كلّه عند ظهور الإسلام، وكان إلغاؤه يمكن أن يؤدّي إلى زلزال في الحياة الاجتماعية والاقتصاديّة. لذلك كانت الحكمة في تضييق روافده إلى حين ردمها كلّها ما وجد لذلك سبيلا، وتوسيع مصاريفه إلى أقصى حدّ، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرقّ بطريق التّدرّج. 
يقول الله تعالى:﴿وَّلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ. حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾(7) .
كما أنّ الرّسول ﷺ لم يلتجئ للقتال، وللعنف في مكّة على الرّغم من شدّة الإيذاء الّذي تعرّض له وصحابته رضوان اللّه عنهم، وهذا فيه درس للمصلحين المتحمّسين لإصلاح المجتمع وتغيير الأوضاع السّائدة فيه.
فالأمر يتطلّب صبرا، وحكمة في التّعامل مع سلبيات المجتمع، ويتطلّب وضع أولويّات لكلّ مرحلة من مراحل الإصلاح، وفيه أيضا إشارة إلى ضرورة مراعاة موازين القوى في المجتمع وعدم خوض معارك غير متكافئة لا تُحمد عقباها.
لقد كانت من نتائج تربية الرّسول ﷺ لأصحابه في الفترة المكيّة أن تهيّأ المسلمون في المدينة لتقبّل الأحكام الّتي جاءت بها الشّريعة الإسلاميّة والالتزام بها، فدخل النّاس في دين اللّه أفواجا، وتخلّوا عن الشّهوات والملذّات، وابتعدوا عن الرّبا، وسكبوا الخمور حتّى سالت أنهارا في شوارع المدينة، وبذلوا من النّفوس والأموال الكثير من أجل أن تصل رسالة الإسلام إلى كافّة النّاس، فاستطاعوا بذلك في غضون سنوات قليلة من بناء حضارة عظيمة ملأت الأرض عدلا ورحمة.
و قد نبّه الرّسول ﷺ صحابته رضوان الله عنهم إلى ضرورة آتّباع أسلوب التّدرّج في إصلاحهم للنّاس، فعندما بعث معاذا إلى اليمن قال له: «إنّك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة لا إلاه إلاّ اللّه وأنّي رسول اللّه، فإن أطاعوا لذلك فأعلمهم أنّ اللّه إفترض عليهم خمس صلوات في كلّ يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أنّ اللّه افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإيّاك وكرائم أموالهم، واتّق دعوة المظلوم فإنّه ليس بينها وبين اللّه حجاب»(8). 
ولقد اهتمّ العلماء والمربّون بالتّدرّج في التّعليم، وذلك لأنّ العلوم جميعها مرتّبة ولا ينبغي دراسة العلم إلاّ بالتدرّج فيه، فالتّراكم صفة من صفات المعرفة، والذّهن مخلوق لإدراك العلم بالتّدرّج، واستيعاب مرحلة بعد مرحلة لذا يرى الغزالي:«أنّ الوظيفة السّادسة من وظائف المتعلّم، وعلى المعلّم أن لا يخوض في فنّ من فنون العلم دفعة واحدة بل يراعي التّرتيب، ويبتدئ بالأهمّ»(9). ويقول ابن خلدون: «إعلم أنّ تلقين العلوم للمتعلّمين يكون حفيدا إذا كان على التّدرّج شيئا فشيئا وقليلا قليلا يلقي عليه أوّلا مسائل من كلّ باب من الفنّ هي أصول ذلك الباب، ويقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك قوّة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتّى ينتهي إلى آخر الفنّ،  وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلاّ أنّها جزئيّة وضعيفة، وغايتها أنّها هيّأته لفهم الفنّ، وتحصيل مسائله، ثمّ يرجع به إلى الفنّ ثانية، فيرفعه في التّلقين عن تلك الرّتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشّرح  والبيان»(10).
المسألة الثّانية: التّدرّج عند الأنبياء والرّسل عليهم السّلام:
لقد اقتضت سنّة اللّه تعالى في إصلاح المجتمعات اعتبار سنّة التّدرّج، وسنّة الأجل المسمّى، لأنّ ما تراكم من الخطإ والآنحراف في سنوات لا يمكن إصلاحه بين عشيّة وضحاها. ولذلك نجد جلّ الأنبياء والرّسل عليهم السّلام اتّبعوا هذا الأسلوب الحكيم في إصلاح النّاس، فحاربوا السّلبيّة بكلّ مظاهرها، وسحبوا عنها كلّ مبرّرات الشّرعيّة، وبذلك سهّلوا على أنفسهم مهمّتهم الإصلاحيّة، واقتصروا الطّريق في الوصول إلى الحقّ.
والقرآن الكريم سجّل لنا كثيرا من وقائع هذا الأسلوب الحكيم، فقد كانت أوّل قضيّة وأكبر غاية تناولها الأنبياء والرّسل عليهم السّلام هي الدّعوة إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له. يقول الله تعالى:﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرهُ إِنِّىَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾(11). ولنبدأ بقصّة سيّدنا إبراهيم عليه السّلام، والأسلوب الّذي اتّبعه مع قومه ليصل بهم إلى التّوحيد، وإبطال الشّرك حيث قال:﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّىَ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ. وَّكَذَٰلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الّْيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ .فَلَمَّا رَأءأ الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّى هَٰذَا أَكْبَر فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّى بَرِئٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَّمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(12).
إذن نلاحظ أنّ إبراهيم عليه السّلام أراد أن يزيل الغموض، والغشاوة عن عيون قومه ليعبدوا اللّه تعالى وحده، وينبذوا آلهتهم المزعومة، فلمّا رآهم يعبدون الكوكب استدرجهم إلى سماع حجّته على بطلان عبوديتهم لهذا الكوكب. فأوهمهم أنّه موافق لهم على زعمهم، فلمّا غاب هذا الكوكب نقض ربوبيّته، فما ينبغي لإلاه أن يغيب عن عبيده، لأنّ ذلك فيه نقص وضعف شديد، وبالتّالي نبّه إبراهيم عليه السّلام قومه إلى ما غاب عنهم من تفكير صحيح وتقدير سليم دون أن يحرّك مشاعر العداء نحوه فقال:﴿لا أحبّ الآفلين﴾. ثمّ انتقل في اللّيلة الموالية إلى القمر الذّي يمتاز بحجمه الكبير، وبضوئه السّاطع، ممّا يمكّنه من استحقاق العبادة، ولكنّه لمّا أفل، صرّح إبراهيم عليه السّلام مسمعاً من حوله من قومه: ﴿لئن لم يهدنى ربّي﴾ ويوفقني لإصابة الحقّ في توحيده فسوف يكون كبقيّة النّاس ضّالاً بعيداً عن عبادة اللّه تعالى. وفي هذا تصريح بضلال قومه الّذين ازدادت بذرة الشكّ نمّواً في نفوسهم، فالإله الغائب لا يدري حقّاً بما يحلّ بعباده، بل إنّه أصلاً ليس إلهاً.
وحين طلعت الشّمس من الغد وملأ ضوءها المكان، وخرج النّاس لأعمالهم، وامتلأت الطّرقات بالنّاس والحقول بالمزارعين، أشار إبراهيم عليه السّلام إليها كإله جديد، أكبر من الكوكب والقمر وأشدّ تأثيراً، ولمّا غابت كعادتها قال كلمته التّي يردّدها دون أن يخاف ردّة فعلهم الشّديدة، فغياب الشّمس أشدّ وطأة ووحشة من غياب الكوكب والقمر، لأنّ الظّلمة بعد النّور السّاطع أشدّ وأقسى من الظّلمة بعد الضّوء الخفيف، قال ﴿ يا قوم إنّى برىء ممّا تشركون﴾.
لقد حاور إبراهيم عليه السّلام قومه وداورهم، وتلطّف بهم في القول وأرخى لخصمه العنان حتّى وصل إلى ما أراد بأحسن طريقةٍ وألطف وجه، من خلال زرع بذرة الشّكّ في نفوسهم، متبرّئاً من تلك المعبودات التّي جعلها قومه أرباباً وآلهةً من دون اللّه معلناً في نفس الوقت اتّجاهه إلى اللّه تعالى وحده لا شريك له (13) .
ويظهر مثل موقف إبراهيم عليه السّلام، موقف يوسف عليه السّلام، فقد بدأ حواره مع السّجناء بالدّعوة إلى عبادة اللّه وتوحيده، حيث تدرّج بقضيّته  خطوة ً بخطوة فسألهم قائلاً:﴿ .. يَا صَاحِبَىَ السِّجْنِ أَاَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾(14). سؤال يحمل في طيّاته إجابة. فلا شكّ أنّ الواحد القهّار خير،  وهو أولى بالعبادة وحده، ثمّ يخطو يوسف عليه السّلام خطوة ً أخرى في تفنيد عقائدهم البالية وأوهامهم الواهية  فيقول : ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ...﴾(15). أي أنّ ما يعبدونه من دون اللّه لا حجّة ولا دليل ولا برهان عليه وعلى عبادته. ثمّ يبيّن لهم يوسف عليه السّلام في الأخير من هو الأجدر بالحكم والسّلطان والعبادة، وأنّ الدّين الصّحيح هو الّذي يعبد فيه اللّه تعالى وحده لا شريك له، فيقول:﴿ ... إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ  ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(16) (17) . 
المسألة الثّالثة : التّدرّج في التّاريخ الإسلامي
شهد المجتمع الإسلامي بعد عصر النّبوّة تغيّرات إيجابيّة نحو الأفضل ونحو الإصلاح في مختلف المجالات، والتّي مثّلت ملحمة ً من ملاحم الإصلاح والتّغيير والتّجديد. وفي الحقيقة يرجع كلّ ذلك إلى سنّة التّدرّج التّي اعتمدها جلّ المصلحين آنذاك.
ومن المواقف المشرّفة التّي لها معنى ومغزى في هذا المضمار، ما رواه المؤرّخون عن عمرٍ بن عبد العزيز الّذي يعده العلماء خامس الخلفاء وثاني العمرين، والذي انتقل بالمجتمع الإسلامي من الجور والظّلم إلى العدل والمساواة ومن الفساد إلى الإصلاح، وذلك انطلاقا ً من سنّة التّدرّج.
لقد عبّر عمرٌ بن عبد العزيز في عديد المرّات عن وعيه بضرورة التّدرّج في الإصلاح الاجتماعي، بل ولقد دافع عن ذلك المنهج الإصلاحي رغم شوقه للعدل، وحماسه الشّديد للإصلاح، واستعداده لأن يبذل روحه في سبيله، وبالتّالي ضرورة التّعايش مع الفساد إلى حين أن يحلّ مكانه الإصلاح.
دخل عبد الملك على أبيه عمرٍ بن عبد العزيز فقال:«يا أمير المؤمنين إنّ لي إليك حاجة ٌ فأخلني، وعنده مسلمة بن عبد الملك(18). فقال له عمر أسرّ دون عمّك فقال نعم. فقام مسلمة وخرج، وجلس بين يديه. فقال له : يا أمير المؤمنين ما أنت قائلٌ لربّك غدًا إذا سألك فقال:رأيت بدعةً لم تمتّها أو سنّةً لم تحييها؟ فقال له : يا بنيّ أشيءٌ حملتكه الرّعيّة إليّ أم رأيٌ رأيته من قبل نفسك؟ قال : لا واللّه ولكن رأي رأيته من قبل نفسي، وعرفت أنّك مسؤولٌ فما أنت قائل؟  فقال عمرٌ رحمه اللّه: رحمك اللّه وجزاك من ولدٍ خيرًا، فو اللّه إنّي لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير، يا بنيّ إنّ قومك قد شدّوا هذا الأمر عقدةً عقدة وعروةً عروة ومتى ما أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدّعاء. واللّه إنّ زوال الدّنيا أهون عليّ من أن يراق في سبيلي محجمةٍ من دمٍ، أو ما ترضى أن لا تأتي على أبيك يوم من أيّام الدّنيا إلاّ وهو يميت فيه بدعة، ويحيي فيه سنّةً حتّى يحكم اللّه بيننا وبين قومنا بالحقّ وهو أحكم الحاكمين»(19).    
ويستفاد من هذه القصّة أنّ على المصلح أن يكون دأبه الدّؤوب حسن الفقه، وجودة النّظر في إصلاح النّاس، فإنّ الأمر إذا جرى في النّاس وصار عادةً، وألفته قلوبهم وأحكمت عقدًا على حبّه والرّضا به، أصبح من الصّعب على المصلح حلّه في ليلةٍ وضحاها، بل لابدّ عليه بالصّبر والعزم والثّبات، فيأخذ برقاب النّاس بعضهم ببعض، ولا يزال يحاورهم ويذكّرهم بالحسنى، ويخاطبهم بمراتب الإصلاح حتّى تنفكّ كلّ العقد وتنحلّ جميعها.
إنّ عمر رحمه اللّه لم يكن بأشدّ منازعةً لأمر العدل، وإنكار البدعة وإقامة الحقّ من ابنه، ولكنّه أكثر منه صبرًا ورويّةً، وتدرّجاً في الإصلاح حتّى يصل إلى مراده وبالتّالي تحقيق مبتغاه، فلا تعند الأنفس وتتكبّر، فتكون فتنةً شعواء لا رأب لصدعها. إنّها الحكمة في سياسة المجتمع، والحنكة في إنفاذ الإصلاح، وهو الحاكم والسّلطان، فما بال من يكون ليس في علمه، ولا في سلطانه، ولا في مقام تقواه وإيمانه ؟
فلا بدّ إذن من أن نلتمس الأعذار لمن لم يتمكّن من أهل الخير من الإصلاح السّريع، فالمصلح الحقيقي الّذي يرغب في الإصلاح ونشر الخير لم يعدم أجرًا ما دام الصّدق والإخلاص حليفه وعونه ووسيلته لإحياء القيم والمبادئ الأخلاقيّة وإبطال المنكر.
روي عن عمر بن عبد العزيز كذلك قوله:«لو أقمت فيكم خمسين عاماً ما استكملت فيكم العدل»(20).
 وفي هذا الإطار يقول ابن تيميّة:«فالواجب على المسلم أن يجتهد وسعه، فمن ولي ولايةً يقصد بها طاعة اللّه وأقام فيها ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرّمات لم يؤاخذ بما يعجز عنه، فإنّ تولية الأبرار خير للأمّة من تولية الفجّار»(21).
وسُئل الإمام مالكٍ رحمه اللّه عن الرّقيق العجم يشترون في رمضان، وهم لا يعرفون الإسلام، ويرغبون فيه، لكن لا يفقهون ما يراد منهم فهل يجبرون على الصّيام؟فقال:«أرى أن يطعموا ولا يمنعوا الطّعام، ويرفق بهم حتّى يتعلّموا الإسلام ويعرفوا واجباته وأحكامه»(22).
الهوامش
(1) سورة الشعراء - الآية 214
(2) سورة الأنفال - الآية 53.
(3) جندب بن عبد الله: البجلي صاحب رسول الله ﷺ، نزل الكوفة و البصرة، وله عدّة أحاديث روى عنه الحسن و ابن سيرين، بقي إلى حدود سبعين سنة-اُنظر الذّهبي: سير أعلام النّبلاء-3ص.ص 176-177.
(4)حزاورة: غلمان قاربوا البلوغ. اُنظر ابن منظور-لسان العرب-4 ص130، مادّة حزر واُنظر الزّبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس5 ص 520.
(5) ابن ماجه: السّنن-كتاب السّنّة-باب في الإيمان-1ص23 حديث رقم:61.
(6) مسلم: الصّحيح-كتاب الحجّ-باب نقض الكعبة وبنائها -2ص970، حديث رقم:2370.
(7) سورة القمر- الآيتان 4و5.
(8) مسلم: الصّحيح-كتاب الإيمان-باب الدّعاء إلى الشّهادتين و شرائع الإسلام1، ص.ص161-162حديث رقم 19.
(9) الغزالي:إحياء علوم الدّين، ص52.
(10) ابن خلدون: المقدّمة- دار القلم- طبعة1- تونس227/533.
(11) سورة الأعراف- الآية 59.
(12) سورة الأنعام- من الآية 74 إلى الآية 79.
(13) اُنظر الزّمخشري: الكشّاف، ج 11 ، ص31. /واُنظر محمّد رشيد رضا: تفسير المنار، ج 2 ، ص414.
(14) سورة يوسف - الآية 39.
(15) سورة يوسف - الآية 40
(16) سورة يوسف - الآية 40
(17) اُنظر ابن كثير: تفسير القرآن العظيم ج2، ص460.
(18) مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، قائد الجيوش، له حديث في سنن أبي داود، له مواقف مع الرّوم، و هو الّذي غزا قسطنطينيّة، ولي العراق وأرمينيّة مات سنة عشرين ومائة . اُنظر الذّهبي: سير أعلام النّبلاء، ج5،  ص.ص241-242.
(19) أحمد بن عبد الله الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، دار السّعادة، طبعة1، 1394هـ/1974م، مصر، ج5ص282/ عبد الرّحمان بن علي بن الجوزي: صفوة الصّفوة، دار الحديث،طبعة 1، 1421هـ/2000م، مصر، ج2ص281./الشّاطبي: الموافقات ج2ص94.
(20) اُنظر محمّد بن أحمد الذّهبي: تاريخ الإسلام و وفيات المشاهير  و الأعلام، المحقّق بشّار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، طبعة 1،  1424هـ/ 2003 م، ج7، ص197.
(21) ابن تيميّة: السّياسة الشّرعيّة، ص133. 
(22) ابن كثير:البداية و النّهاية ج7 ، ص25.