نقاط على الحروف

بقلم
د.عماد هميسي
الحكمة قاضية بالتّدرّج في الإصلاح «الجزء الأوّل»
 المسألة الأولى: مراعاة أسلوب التّدرّج في الإصلاح: 
إنّ أساليب القرآن الكريم في الإصلاح تتّسم بالتّنوّع، والتّعدّد. ومن تلك الأساليب نجد أسلوب التّدرّج، لأنّ عمليّة الإصلاح ليست عمليّة تحويل مفاجئ دفعة واحدة، وإنّما هي إنشاء متدرّج لإبلاغ الشّيء إلى مستوى كماله، وينبغي أن تسير عبر خطوات متسلسلة متوافقة مع النّموّ الجسمي، والمعنوي للمتدرّج.
إنّ مقوّمات الإصلاح التّدرّج، وإعطاء الأولويّة للأمور ذات الأهميّة، والتّأثير، والّتي تحدث إصلاحا شاملا مع المجتمع، وفي سلوكيات الأفراد، ذلك أنّه مطلب ضروري يتوافق مع الفطرة الإنسانيّة، ويتعامل مع المجتمع بواقعيّة، ولا يغفل المستجدّات الّتي تطرأ على حياة الإنسان، والعادات الّتي يصعب التّخلّي عنها دفعة واحدة. عادات اعتادت عليها النّفس البشريّة، وألفتها، وتفاعلت معها، وآمنت بها، ممّا يصعّب عمليّة إصلاحها، واقتلاعها من غير تهيئة، وإعداد مقدّمات، مساعدة على ذلك. فأنت عندما تريد إصلاح منظومة سلوكيّة، ونظام حياة بأسره، فإنّ من الحكمة أن يكون الإصلاح مرحليّا، وتدريجيّا، وذلك يحتاج إلى زمن، وعمل إصلاحي متواصل.
فمن الأخطاء الّتي يقع فيها بعض المصلحين، والّتي تؤدّي إلى نتيجة عكسيّة هي محاولة إجبار النّاس على الإصلاح، والرّغبة فيه فوريّا للأوضاع الخاطئة في المجتمع. وهذا في الحقيقة مخالف لسنّة اللّه تعالى الحاكمة في كلّ ميادين الإصلاح سواء كان تقدّما، أو تغييرا، حتّى الجراحات لا تتمّ إلاّ بعد تدرّج المرض وتطوّره، ولا تؤتي ثمارها في الشّفاء إلاّ بعد مدّة في العلاج.
هذه السّنّة الإلهيّة في الإصلاح ينبغي أن تتّبع في إصلاح النّاس في الحياة اليوم، لأنّنا إذا أردنا أن نصلح مجتمعا، فلا نتوهّم أنّ ذلك يتحقّق بجرّة قلم، أو بقرار يصدر من مسؤول أو أي فرد آخر. وإنّما يتحقّق ذلك بالتّدرّج، أي أعني بذلك الإعداد، والتّهيئة الفكريّة، والأخلاقيّة، والاجتماعية، وإيجاد البدائل الشّرعيّة للأوضاع المترديّة الّتي قامت عليها مؤسّسات عدّة، لأزمنة طويلة.
إذن فأسلوب التّدرّج في الإصلاح هو عبارة عن تعيين للهدف، ووضع خطّة للإصلاح، وتحديد المراحل بوعي وصدق، بحيث تسلّم كلّ مرحلة إلى ما بعدها بالتّخطيط والتّنظيم والتّصميم، حتّى تصل المسيرة إلى المرحلة المنشودة الّتي يتمّ فيها إصلاح النّاس، وإصلاح المجتمع. بمعنى أن لا يتمّ القفز على الواقع، بل بالتّدرّج، والانتقال به ممّا هو كائن إلى ماهو ممكن، وإلى ما ينبغي أن يكون استنادا إلى قاعدة التّدرّج الّتي قرّرها القرآن الكريم، فالألف تدرّ إلى الباء، والباء إلى التّاء، والتّاء تدرّ إلى الثّاء، وهكذا...
وبالتّالي فالتّدرّج لا يعني مجرّد التّسويف، وتأجيل التّنفيذ، واتخاذ كلمة التّدرّج تكأة للإبطاء، بل يعني تحديد الأهداف بدقّة، وبصيرة، و تحديد الوسائل الموصلة إليها، بعلم، وتخطيط دقيق، وتحديد المراحل اللاّزمة للوصول إلى الغايات بوعي، وصدق، بحيث تسلّم كلّ مرحلة إلى ما بعدها أي إلى التي هي أعلى منها، وأرفع في الحسّ، أو في المعنى، أو في كليهما. ولهذا قيل لمنازل الجنّة درجات من جهة أنّ بعضها يرتفع فوق بعض أخذ من الدّرجة الّتي تعني الرّفعة، والمنزلة، حتّى تصل عمليّة الإصلاح إلى المرحلة المنشودة، والأخيرة الّتي فيها يتحقّق الإصلاح.
لا بدّ من أسلوب التّدرّج في عمليّة الإصلاح، وعدم استخدام أسلوب الصّدمة المفاجئة لإحداث، وفرض إصلاحات شاملة دفعة واحدة، فالثّقافة الإنسانيّة هي حصيلة تراكم تاريخي، متشبّث في أعماق النّفس. لا يمكن إصلاحه بسهولة، إذ أنّ كلّ الكائنات البشريّة تملك إرثا اجتماعيا، كما تملك إرثا بيولوجيّا، والثّقافة هي راسب التّاريخ، فهي تضمّ تلك الجوانب من الماضي الّتي ظلّت قائمة حتّى عصرنا الحاضر،  والتّاريخ البشري يمثّل أكثر من زاوية، شيئا أشبه ما يكون بالمنخل أو المصفاة.
لا بدّ من التّدرّج الطّبيعي القائم على مبدأ الإقناع، والتّبصير، إذ قد يؤدّي الإصلاح القسري إلى ردود فعل عكسيّة، ويولّد آثارا سلبيّة يمكن أن تخلق مشكلات ثقافيّة، ونفسيّة جديدة.
وقد تعدّدت النّظريّات الّتي تبحث في الأسلوب الأمثل، والأفضل لعمليّة الإصلاح السّليم، فهناك نظريّة الإصلاح المتدرّج الّذي يبدأ بالأمور البسيطة،  ثمّ يتدرّج إلى الأمور الصّعبة، ونظريّة الإصلاح المرحلي، والّتي تقسّم الإصلاح إلى مراحل، بالتّتابع، وبمنطق تراكم الآثار النّاتجة عن الإصلاحات المرحليّة يتحقّق الهدف النّهائي لعمليّة الإصلاح. فالمرء يتعجّل النّتائج، ويستبطئ إحراز الهدف، وإذا فعل المصلح ذلك فسيكون كمثل الزّارع الّذي يحصد الثّمرة قبل نضجها، فيكون بالتّالي قد خسر جهدا بذله في زراعتها، وخسر الثّمرة الّتي قطفها قبل أن تنضج. لأنّ ما انهدم على عدّة سنين لا يمكن أن يتمّ بناؤه خلال أيّام، أو أعوام، ولأنّ ما غاب قرنا من الزّمان لا يمكن إعادته في أسابيع مهما امتلأ المصلح غيرة، وحماسا، إذ لا يفيد الحماس من لا يفقه الإصلاح، ولا يرتكز على التّدرّج(1).
وجملة القول فمنهجيّة التّدرّج في الإصلاح تضع أسسا عمليّة تطبيقيّة بين أيدي المصلحين العاملين على إصلاح المجتمع، وتغييرها من أوضاع مترديّة إلى أوضاع تقوم على أساس الفكر، والثّقافة، والتّشريع، والقيم، والأعراف، والعادات، وإنّ الإصلاح كما في ثقافة القرآن الكريم، ومنهجه يبدأ من أعماق الذّات الإنسانيّة، فما لم تصلح الأفكار، والثّقافة، والأخلاق، والعواطف، لن يصلح الوضع الاجتماعي.
المسألة الثّانية: التّدرّج سنّة كونيّة:
إنّ التّدرّج، سنّة كونيّة في خلق الله تعالى، وقانون من القوانين الطّبيعيّة الّتي لا تبديل لها ولا تحويل، والمتأمّل في هذا الكون وفي هذا العالم بسماواته وأراضيه، والمتفكّر في خلقه، وسيره يجد هذه السنّة واضحة جليّة، لا تخفى إلاّ على من جعل اللّه على بصره غشاوة، أو ختم على قلبه. فاللّه تعالى يعلّمنا كيف نتدرّج في إصلاح النّاس، مع قدرته المطلقة في إيجاد الأشياء والأحياء والخلائق، كيف شاء، وكيف أراد «كُن فَيَكُونُ»(2). ولكنّه مع ذلك يريد تعالى أن ينبّهنا، ويعلّمنا الرّفق في الأفعال، ويلفت أنظارنا وأفكارنا إلى سنّة التّدرّج، حتّى نتقن الإصلاح.
لقد خلق اللّه تعالى السّماوات، و الأرض وما فيهما في ستّة أيّام. يقول الله تعالى:«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش»(3) أي أنّ اللّه تعالى تدرّج في خلق السّماوات والأرض، فخلق الأرض في يومين، ثمّ قدّر أقواتها في يومين آخرين، وبعد ذلك قضى السّماوات السّبع في يومين، آية بالغة لمن أراد أن يتذكّر ويعتبر. يقول اللّه تعالى:«قُلْ أَبنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الْأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَآئِعِينَ. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا...»(4) 
والمتأمّل في تعاقب اللّيل والنّهار يذهبان بالتّدرّج، ويأتيان بالتّدرّج، فلا تكون الشّمس في منتصف السّماء، ثمّ تحتجب فجأة، ويأتي ظلام اللّيل الدّامس، بل تحتجب الشّمس رويدا رويدا، ويدخل اللّيل رويدا رويدا. وكذلك لا يكون اللّيل، ثمّ فجأة تشرق الشّمس، وترسل أشعّتها، وحرارتها، كحرارة منتصف النّهار، بل تطلع الشّمس شيئا فشيئا، وترسل حرارتها رويدا رويدا.
وفي عالم النّبات نرى النّبات لا يخرج ولا يثمر فجأة، ولكن ينمو في أطوار متدرّجة فهو يبدأ بذرة ثمّ نبتة، ثمّ النّبتة تورق، ثمّ الورقة تزدهر، ثمّ الزّهرة تثمر، ثمّ الثّمرة تنضج، وبعدها تسقط.
والتّدرّج كذلك هو سنّة من سنن اللّه تعالى في خلقه للإنسان الأوّل آدم عليه السّلام، فلقد مرّت مراحل خلقه بعدّة مراحل، مرحلة التّراب الّذي أضيف إليه الماء، فصار طينا، ثمّ تحوّل للطّين إلى حمإ (أي أسود منتن) لأنّه تغيّر، والمتغيّر هو المسنون، فلمّا يبس هذا الطّين من غير أن تمسّه النّار سميّ صلصالا، ثمّ أخيرا تأتي مرحلة النّفخ الإلهي في هاته المادّة، فكان أن استوى هذا المخلوق إنسانا هو آدم عيه السّلام. يقول اللّه تعالى:«إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ»(5) .ويقول أيضا:«الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ . ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ»(6).
وبسنّة التّدرّج، وعبر المراحل والأطوار، كان خلق اللّه تعالى وتكوينه لكلّ مخلوق من ذريّة آدم عليه السّلام من نطفة ثمّ يجعله علقة، ثمّ يجعله مضغة ثمّ يدعه في الأرحام ما يشاء حتّى إذا أكمل خلقه، وأتمّ أطرافه وأعضاءه أخرجه طفلاً.وهكذا ليعلم أهل الإصلاح أنّ اللّه الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء يتدرّج في الخلق والإنشاء والتّكوين، وأنّهم أولى به أتباعا وله اتخاذا وعليه ارتكازا.
يقول اللّه تعالى:«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ  ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(7).
حتّى إذا انتقلنا إلى أفعال الإنسان، وممارساته، فإنّنا نلحظ هذه السّنة الكونيّة، فالمخترع مثلاً أو الصّانع إذا أراد أن يصنع آلة ً فإنّه يبدأ بالتّدريج فيركّب جزءا بعد جزء و هكذا...، فمن أراد إذن أن يصلح أو يغيّر من أوضاع النّاس، فيجب عليه أن يتّبع هذه السّنة الكونيّة، ويتدبّر الواقع الذّي يريد إصلاحه.
المسألة الثّالثة : التّدرّج سنّة شرعيّة:  
إنّ ما يغيب عن بال كثير من المصلحين، قليلي الخبرة بالحياة والنّاس، أنّ كثرة التّكاليف ممّا لا يطيقه الأفراد، ولا يتحمّلونه، ممّا يدعو إلى النّفور، والإدبار ولا يجد المصلح الّذي يلقي بكلّ التّكاليف، والتّشريعات جملة واحدة للنّاس إلاّ القليل  النّادر ممّن يستجيب له، لأنّ طبيعة المكلّفين لا تقبل الأخذ بجميع الفرائض، والتّكاليف، فيدعوهم ذلك إلى التّولّي، وعدم الإقبال والامتثال. وهذا ما يؤكّد على أهميّة اتخاذ سبيل التّدرّج وضرورة الارتكاز عليه في الإصلاح إيجاباً، وتحريماً، وسنّاً للقوانين، والأحكام، فظهر التّدرّج جليّاً في فرض العبادات، وتحريم العادات الفاسدة، وسنّ الأحكام التّي تنظّم علاقات النّاس بعضهم ببعض، وتقي المجتمع من الإجرام، والآثام.
لقد أنزل اللّه تعالى القرآن الكريم مفرّقاً على امتداد ثلاث وعشرين سنة ً بدءاً بالعقيدة والقيم الأخلاقيّة، ثمّ تلتها الأحكام العمليّة وتمّ فيها بناء الفرد، ثمّ المجموعة، ثمّ الدّولة، وبهذا فقد سنّ اللّه تعالى سنّة التدرّج في عالم الأمر، كما كان في عالم الخلق، فاكتملت بذلك السّنتان.
 يقول الله تعالى:«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَّاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا»(8). ويقول أيضاً: « وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَّنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا»(9).
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية :«مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدّم أي أنزلناه نجماً بعد نجم، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحدٍ لنفروا»(10) . 
وتقرير تدرّج الإسلام للعبادات وفرضها لا يخفى على أيّ ممّن قرأه بقليل من التّدبّر، واليسر، والفهم، تنبيهاً للمصلحين، وفتحاً لعيونهم، وطرقاً لآذانهم. فالتّدرّج في فرض العبادات كان من وجهين: 
الوجه الأوّل: التّدرّج بين الفرائض فيما بينها، فقد تدرّج الإسلام في فرض العبادات على النّاس عبادةً تلو العبادة أي يوجب عليهم عبادة ً ثمّ يفرض عليهم ثانية ً، ثمّ ثالثة ً، ثمّ يختم لهم برابعةٍ، وهكذا...
فالصّلاة اكتملت فرضيّتها ليلة الإسراء والمعراج في السّنة الثّانية قبل الهجرة، السّنة الحادية عشر من البعثة، والصّوم، شرّع بعد ذلك بخمس سنوات في العامّ الثّاني من الهجرة، والزّكاة عقب الصّوم،  والحجّ بعد ذلك بثلاث سنوات أو أربع أي في السّنة الخامسة، أو السّادسة.
الوجه الثّاني: التّدرّج في فرض كلّ عبادةٍ ، فلقد تدرّج الإسلام في فرض كلّ عبادة على حده، حتّى تكتمل كلّ عبادةٍ بأركانها و شروطها و هيئاتها و أعدادها، فيقيم في كلّ مرحلةٍ ركناً أو يحدّد عدد الفريضة، أو يوضّح شرطاً من شروط صحّتها، و هكذا...
فالصّلاة لم يكتمل تشريعها إلاّ بعد ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: كانت فيها ركعتان في الغداة، و ركعتان في العشيّ كما أخبرنا بذلك الله تعالى في قوله: « وَّاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ...»(11)، وبها أمر نبيّه ﷺ ومن معه في قوله تعالى:«وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىّ وَالْإِبْكَارِ»(12). 
المرحلة الثّانية: وهي مرحلة فرض الصّلاة ثلاث مرّات في اليوم: الفجر والعصر وقيام اللّيل، بإضافة صلاة العصر إلى ما كان قد فرض في المرحلة الأولى، و ذلك بأمر اللّه تعالى نبيّه صلّى الله عليه و سلّم بقوله: « وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ الَّلَيْلِ ...»(13) .
المرحلة الثاّلثة: وهي المرحلة التّي أكتمل فيها التّشريع، وتمّ إيجاب الصّلوات الخمس، وذلك بقوله تعالى:«أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّليْلِ ...»(14).
كما تدرّج الإسلام في تحديد ركعات الصّلاة، إذ كانت أوّل الأمر ركعتين ركعتين، ثمّ أتمّت بركعاتها الكاملة بفعل رسول اللّه ﷺ. قالت عائشة رضي اللّه عنها: « فرض اللّه الصّلاة حين فرضها ركعتين ثمّ أتمّها في الحضر فأقرّت صلاة السّفر على الفريضة الأولى»(15). 
أمّا في ما يخصّ شهر الصّيام، فالشّارع لم يفرضه دفعة واحدة، بل تدرّج في إيجابه، والإلزام به على مرحلتين: 
المرحلة الأولى: وهي المرحلة الّتّي فرض اللّه فيها الصّوم على المجتمع مع التّخيير بين الصّيام أو الإفطار مع الفدية بدليل قوله تعالى: «... وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ»(16).فكان من أطعم كلّ يومٍ مسكيناً ترك الصّوم وهو يطيقه على قول الجمهور. وروي عن قتادة وعطاء ومعاذ بن جبل أنّ فرض الصّيام كان أوّل الأمر ثلاثة أيّامٍ من كلّ شهر مع التّخيير بين الصّوم، والفدية(17).
المرحلة الثّانية: وهي مرحلة الإلزام والتّحتيم، وإكمال الفرض، والإيجاب بصوم شهر رمضان وذلك بنزول قوله تعالى: « شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ...»(18).
وعن حكمة التّدرّج في هذه العبادة واستكمال تشريعها، يقول ابن القيّم:«ولمّا كان فطم النّفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشقّ الأمور وأصعبها، تأخّر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة لمّا توطّنت النّفوس على التّوحيد والصّلاة وألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتّدريج»(19).
وكذلك فرض الزّكاة، فقد استمر تشريعها عدّة سنين حتّى اكتمل في السّنة الثّامنة بعد الهجرة، فقد جاء ذكر الزّكاة، و الأمر بها في السّور المكيّة الأولى، ممّا يؤكّد أنّ بدء تشريعها كان في مكّة. ومن ذلك قوله تعالى:» وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى»(20). 
ثمّ يأتي ذكرها في أوامر السّور التّي نزلت في المدينة بالتّشريع، والتّوجيه مثل ما جاء في البقرة.يقول اللّه تعالى:«وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ»(21) 
وهكذا يستمرّ تشريعها، وفرضها هذه السّنين، لتكمل صورتها في السّنة الثّامنة من الهجرة بقوله تعالى:«إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(22).
لقد سلك القرآن الكريم سنّة التّدرّج أيضاً في تحريم العادات الفاسدة المضرّة وما رسّخ في المجتمع، واستحكم في النّاس، واستوطن في قلوبهم وفي نفوسهم، فمثل هذه العادات، والتّقاليد يصعب خلع الأفراد عنها إلاّ بترويضٍ متدرّج، ومداواةٍ متأنيّة، ونهيٍ متجزّئ. وهذا ما فعله القرآن الكريم، في تحريم الخمر الذي مرّ بأربع مراحل :
المرحلة الأولى:  مرحلة الذّمّ: يقول الله تعالى: « وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَّرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَةً لٍّقَوْمٍ يَّعْقِلُونَ» (23)  
المرحلة الثّانية: مرحلة التّنفير: يقول تعالى:«يَّسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَّمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا»(24) فاللّه تعالى ذكر في الآية مفاسد الخمر، ولم يجزم فيها بالتّحريم، وذلك من أجل التّوطئة، والتّمهيد، والتّهيئة النّفسيّة لتقبّل الحكم التّشريعي الجديد، وفعلاً بعد نزول الآية توقّف البعض عن شرب الخمر خوفاً من الإثم، واستمر الباقون في شربها للمنافع التّي فيها، ولعدم التّصريح بتحريمها (25). 
المرحلة الثّالثة: مرحلة التّحريم الجزئي:يقول تعالى: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ...»(26). لقد حرّم اللّه تعالى شرب الخمر في أوقات الصّلاة، و ذلك من أجل التّخفيف منها، وتضييق أوقات شربها ليسهل اجتنابها، والتّوقّف عنها.
والصّلاة خشوع وفهم وتدبّر لما تقرأ، ووقوف بين يديّ اللّه تعالى، والخمر تذهب الفكر والعقل، فهل يليق بالمسلم أن يقف بين يدي اللّه سبحانه يصلّي، ولا يعرف ما يقول؟ إذن لابدّ من تجنّبها في أوقات الصّلاة، فما عاد راغبها يشربها إلاّ بعد صلاة الفجر، وصلاة العشاء، فهناك متّسع بعد هاتين الصّلاتين وهكذا انحسر تعاطيها، وحين يريد المسلم أن يصلّي صلاة الفجر، أو يقوم اللّيل فعليه أن يبعد الخمر عن تفكيره، فأصبح المسلمون زاهدين فيها، وصاروا جاهزين لقبول تحريمها.
المرحلة الرّابعة: مرحلة التّحريم الكلّي: يقول الله تعالى: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ»(27).
آية تدلّ على تحريم الخمر أتمّ دلالة، وأوضحها، لأنّ اللّه تعالى صرّح بأنّها رجس وأنّها من عمل الشّيطان، وأمر اللّه تعالى باجتنابها أمرا جازما. وفعلا كانت نتيجة هذا النّهي المتدرّج امتثال الطّاعة حيث كسرت الدنّان المملوءة بالخمر حتّى جرت في سكك المدينة، وكان ذلك في السّنّة الثّامنة للهجرة أي عبر واحد وعشرين عاما من عمر الوحي الخاتم(28).
هذا التّدرّج هو نفسه الّذي نهجه القرآن الكريم في تحريم الرّبا.
المرحلة الأولى: قوله تعالى:«فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا»(29) 
المرحلة الثّانية: قوله تعالى:«يَّا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَّاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(30) .
المرحلة الثّالثة: قوله تعالى:«الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ... إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ»(31).
أمّا نظام المواريث فقد طبّق في السّنّة الثّالثة للهجرة، أي بعد ستّة عشر عاما من بدء الوحي، والنّظام الإسلامي للأسرة من الزّواج، والطّلاق، والنّفقة، وسائر أحكامها أكتمل تشريعه، وتطبيقه في السّنة السّابعة للهجرة. أي بعد عشرين عامّا من بدء الوحي،  والقوانين الجنائيّة تدرّج تشريعها، وتطبيقها مادّة مادّة حتّى اكتملت في السّنة الثّامنة للهجرة أي عبر واحد وعشرين عاما. 
وممّا سبق ذكره وجب التّذكير بأنّ أسلوب التّدرّج كان حاكما في كلّ ميادين الإصلاح، والتّغيير، وكلّها من عظائم الأمور، وكبرياتها الّتي لا تمام للدّين إلاّ بتشريعها إيجابا، وتحريما، ولا أتباعا للقرآن الكريم إلاّ باكتمالها، لذلك وجب على المصلحين التّنبيه إلى مقام التّدرّج، كمرتكز إصلاحي.
الهوامش
(1) أنظر إبن منظور: لسان العرب-2/267-مادّة درج./آنظر إبن فارس: معجم مقاييس اللّغة-2/275./آنظر مجمع اللّغة العربيّة: المعجم الوسيط-277./ آنظر إبن تيميّة: مجموع الفتاوى-37/176./آنظر محمّد عمارة –سنّة التّدرّج في الإصلاح-مجلّة حراء-1 إلى 5.
(2) سورة آل عمران- الآية 59.
(3) سورة الأعراف- الآية 54.
(4) سورة فصّلت - من الآية 9 إلى الآية  12.
(5) سورة آل عمران- الآية 59.
(6) سورة السّجدة- من الآية7 إلى الآية 9.
(7) سورة المؤمنون- من الآية12 إلى الآية 14.
(8) سورة الفرقان- الآية 32.
(9)  سورة الإسراء- الآية 106.
(10)  القرطبي: الجامع لأحكام القرآن-17/574.
(11) سورة الكهف- الآية 28.
(12) سورة غافر- الآية 55.
(13) سورة هود- الآية 114.
(14) سورة الإسراء- الآية 78.
(15) البخاري : الصّحيح-كتاب الصّلاة-باب كيف فرضت الصّلاة في الإسراء-1/554-حديث رقم:343.
(16) سورة البقرة- الآية 184.
(17) أبو داود: السّنن-كتاب الصّلاة-باب كيف الآذان-2/149-حديث رقم:507.
(18) سورة البقرة- الآية 185.
(19) إبن القيّم: مفتاح دار السّعادة و منشور ولاية أهل العلم و الإرادة-1/92.
(20) سورة اللّيل- الآيتان 17-18.
(21) سورة البقرة- الآية 43.
(22) سورة التّوبة- الآية 60.
(23) سورة النّحل- الآية 67.
(24) سورة البقرة- الآية 219.
(25) انظرعبد الله الزّبير عبد الرّحمان:من مرتكزات الخطاب الدّعوي في التّبليغ والتّطبيق- التّدرّج في التّبليغ والتّطبيق-وزارة الأوقاف والشّؤون الإسلاميّة- طبعة 1-1417هـ/1997م-قطر-56.  
(26)  سورة النّساء- الآية 43.
(27) سورة المائدة- الآيتان 90-91.
(28) آنظر محمّد الأمين بن محمّد الشّنقيطي: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن- دار الفكر – طبعة 1 – 1415هـ /1995م-2/404.
(29) سورة النّساء- الآيتان 160-161.
(30) سورة آل عمران- الآية 130.
(31) سورة البقرة - من الآية 275 إلى الآية 278.