في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
القصص القرآني من منظور جديد (2) في بدء التكوين كان الله فاطرا
 خلاصة ما ذهب إليه علماء اللّغة أنّ (الفَطْرَ) هو شَقٌّ ابتدائي على سبيل الافتتاح المؤدّي إلى ظهور شيء لم يكن، أو إلى استئناف دورة من الحياة(1). فمثال ظهور ما لم يكن قولُهم: «فَطَر نابُ البعير» أي شقَّ اللّحمَ وطلع، وذلك إذا بلغ البعير السّنة التّاسعة، فيُسمى حينئذ بازلا. ومثال الابتداء الاستئنافي قولهم: «الفَطور» للوَجْبة الافتتاحيّة، و«تفطّر الشّجر» إذا تشقّق بالورق، و«تفطّرت الأرض بالنّبات».
و(الفَطْر) الذي أسنده اللّه إلى نفسه هو من النّوع الأول، فقد وقع مرّة واحدة، وتعلّق في القرآن بشيئين لا ثالث لهما: بمجموع السّماوات والأرض، وبالإنسان. سنكتفي في هذه الحلقة بتحليل «الفَطْر» المتعلّق بمجموع السّماوات والأرض، كيف وقع؟ وكم استغرق؟ ولماذا وقع؟ 
وقائع الخلق قبل ظهور الإنسان
في القرآن مشاهد هائلة يحكيها الخالق عن بداية التّكوين، أوّلها يتعلّق بالأصل الذي أخرج الله منه السّماوات والأرض، حيث قال سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا(2)  فَفَتَقْنَاهُمَا، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾(3).
وهذا التّصوير عبّرت عنه بعض الثّقافات العريقة بخروج العالم من بيضة كونيّة(4)، وهو أيضا قريب من نظريّة الانفجار العظيم التي تفترض ذرّة بدائيّة خرج منها الكون، وهي النّظريّة التي هدّمت نظريّة قدم العالم الفلسفيّة، وكانت نظريّةً رائجة بفعل التّأثير اليوناني، إلى درجة أنّ فلاسفة إسلاميّين حاولوا تفسير القرآن على أساسها، فحرّفوا كلمة (الخلق) عن موضعها، وبقي الكثير من الفيزيائيّين في النّصف الأول من القرن العشرين متشبّثين بها إلى أن تواترت البحوث العلميّة على إبطالها(5).
والآية أيضا فيها إشارة إلى أسبقيّة الماء، لأنّه أصل الحياة، وممّا يعزّز ذلك قوله:﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾(6).
وأوسع تفصيل لخلق السّماوات والأرض هو الذي جاء في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا، ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا، وَبَارَكَ فِيهَا، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا! قَالَتَا: أَتَيْنَا طَائِعِينَ! فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ، وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا، وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾(7)
ومن عجائب هذا النّص أنّ تكوين الأرض استغرق أربعة أيّام، أمّا السّماوات السّبع فقد تمّ خلقها في اليومين المتبقّيين، والأعجب من ذلك أنّ القرآن عبّر بالتّسوية عن خلق السّماوات، لكنّه لم يصف خلق الأرض بذلك، والتّسوية معناها البلوغ بالمخلوق مرحلة الكمال الذي لا مزيد عليه، والذي يؤكّد هذا الفارق أنّ اللّه تعالى تحدّى النّاظرين في السّماء أن يكشفوا فيها عن خلل وتصدّع فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا، مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ؟ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ!﴾(8)
أمّا بالنّسبة للأرض، فقد بارك اللّه فيها وقدّر فيها أقواتها للسّائلين، والسّائل طالب باحث، فهو ليس في وعاء كرحم الأمّ، بل في مجال استثماري يتوقّف على بذل الجهد، إذ ترك اللّه الأرض قابلة لأن تستجيب للسّعي الإنساني، عمرانا وخرابا، صلاحا وفسادا: ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(9)
ومن أهم الحقائق التي أكّدها القرآن بعدّة صيغ أنّ اللّه تعالى هو الذي باشر بذاته خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام، وفي اليوم السّابع انقطع عن الخلق، ولهذا سمّي اليوم السّادس من الأسبوع جمعة، إشارة إلى اجتماع الخلق وتمامه(10)، وسمي اليوم السّابع سبتا، والسّبت هو الانقطاع عن العمل، ولم يذكر القرآن من أيّام الأسبوع إلاّ هذين اليومين اللّذين اشتُق اسمهما من الحال، بخلاف باقي الأيّام التي كانت أسماؤها أعدادا.
وهناك تصوير قرآني مشهور لهذه الحقائق ورد في عدّة آيات منها قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾(11). فاستواؤه على العرش إشارة إلى الانقطاع عن مباشرة الخلق، وإلى مُباينته تعالى للمخلوقات، وبدايةِ الخلق والتّدبير بواسطة الملائكة، ممّا يفيد أنّ الخلق بلا واسطة وقعَ كلُّه زمنَ الفَطْر، ولهذا أثنى اللّه على نفسه بأنّه فاطر السّماوات والأرض في عدّة مواضع منها قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(12) فرسل التّكوين - الذين هم الملائكة - تولّوا بأمر اللّه مهام الزّيادة في الخلق الذي وقع بعد عمليّة الفَطْر.
وممّا له علاقة بمسألة الانقطاع عن مباشرة الخلق أنّ اللّه لن يتدخّل بذاته في المسيرة الكونيّة والتّاريخيّة للخلائق إلى يوم القيامة، ولهذا جعل القرآن مجيء اللّه علامة على النّهاية، كما في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾(13)  وقوله: ﴿كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾(14)
لماذا خلق الله السّماوات والأرض؟
جوابا على هذا السّؤال الخطير قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(15)، فنزه تعالى نفسَه عن العبث، وأثبت حكمة كاملة فاعلة على الدوام، لا حكمة قاصرة ولا عاطلة كما قد يقع في صنائع الإنسان، وعبّر عن ذلك بكلمة {الحق}، وثبّتها بباء الجرّ الدّالة على الالتصاق والملابسة. 
والحقّ الذي خُلقت به السّماوات والأرض مُركّب في القرآن من أربع غايات مُترجِمة عن مقاصد الفاطر سبحانه: غايتان أصليّتان، ومع كلّ واحدة غايةٌ تابعة.
1ـ الغاية الأصليّة الأولى: الانتصاب لامتحان النّاس عبر أدوار استخلافيّة، وهذا يستلزم نهاياتٍ تاريخيّةً صُغرى، ونهايةً كونيّة كبرى يكون بعدها بعثٌ وحساب وجزاء. 
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾(16)،
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ، إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(17).
2ـ الغاية الأصليّة الثّانية: الدّلالة على اللّه، والشّهادة لما جاءت به الرّسل، ومن شواهد ذلك في القرآن الكريم قول اللّه تعالى:﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(18)، وقوله تعالى:﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(19).
3ـ المقاصد التّبعيّة: لكل مقصد من مقاصد الخلق الآنفة الذّكر أثرٌ في بنية السّماوات والأرض: 
فمقصد الابتلاء جعل في هذه البنية قابليّة الارتفاق والتّوسّل: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾(20)، 
ومقصد الدلالة على الحق جعل هذه البنية قابلة للفهم والتعقل: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا، وَقُعُودًا، وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ! فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(21).
خاتمة
من تلكم الرّباعيّة القصديّة يتركّب (الحقّ) الذي فُطرت عليه السّماوات والأرض، ودُعي الإنسان إلى مراعاته وموافقته، لأنّ هذا الحقّ: 
– هو شرط بقائه ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾(22)، 
– وهو شرط لصلاح معاشه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(23)،
– وهو شرط سعادته الدّنيويّة والأخرويّة: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ؟ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ. وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾(24)، 
وفي رحم هذه الفطرة الكونيّة فطر اللّه الإنسان أشرف فطرة، اختصّه بها دون سائر المخلوقات، فما أسرار تلك الفطرة الشّريفة؟
الهوامش
(1) هذا التعريف عبارة عن استخلاص من عدة مصادر أهمها: مقاييس اللغة لأحمد بن فارس، والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري، والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، ولسان العرب لابن منظور.
(2)  رتقا: أي كتلة واحدة
(3)  سورة الأنبياء - الآية 30
(4)  في مادة (Œuf cosmique) في موسوعة ويكيبيديا تجد عرضا لتصورات متقاربة من مختلف الثقافات القديمة، ويمكنك الوقوف على الرؤية الإغريقية قبل أرسطو في الموسوعة نفسها في مادة (البيضة الكونية).
(5) انظر مادة «الانفجار العظيم» في الويكيبيديا للوقوف على تعريف بالنظرية ولمحة من تاريخها
(6)  سورة هود - الآية 7
(7)  سورة فصلت - من الآية 09 إلى الآية12
(8)  سورة الملك - الآيتان 3 و4
(9)  سورة الأعراف - الآيتان 85 و86
(10)  من هنا نفهم أن تشريع الجمعة هو احتفال بخلق السماوات والأرض
(11)  سورة السجدة - الآية 4
(12)  سورة فاطر - الآية 1
(13)  سورة البقرة - الآية 210
(14)  سورة الفجر - الآيتان 21 و22
(15)  سورة الدخان - الآيتان 38 و39
(16)  سورة هود - الآية 7
(17)  سورة الأنعام - الآية 165
(18)  سورة البقرة - الآيتان 163 و164
(19)  سورة فصلت - الآية 53
(20)  سورة لقمان - الآية 20
(21)  سورة آل عمران - الآيتان 190 و191
(22)  سورة المؤمنون - الآية 71
(23)  سورة الروم - الآية 41
(24)  سورة الجاثية - الآيتان 21 و22