في العمق

بقلم
أ.د.احميده النيفر
«رسالة التوحيد» المعلَّقة
يقف قارئ اليوم عند عودته إلى نصوص رواد النّهضة العربيّة الأولى على الجهد الفكري المبذول من قِـبَلهم لمواجهة الأوضاع الحضاريّة السّائدة عندئذ، وعلى اتساع أثر ذلك الجهد في التّحوّلات التي أمكن تحقيقها عربيّا في وقت وجيز نسبيّا. لكن أكثر ما يلفت النّظر عند مراجعة تلك النّصوص هو احتفاظها براهنيّة لافتة للنّظر بل وأحيانا بريادة يعزّ العثور عليها اليوم. 
هذا ما يحصل بالعودة إلى الطّهطاوي (1) في «تخليص الإبريز» المحرَّر منذ أكثر من قرن ونصف. كتب الرحّالة بعينه الفاحصة وذهنه الثّاقب المستحضر مشاغلَ مصر المتوثّبة، ونخبها السّاعية إلى النّهوض، وأزهرها المحافظ والقلق. كتب يقول عن أحوال فرنسا العلميّة:«لا تتوهّم أنّ علماء الفرنسيس هم القسوس لأنّ القسوس إنّما هم علماء في الدّين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضا، وأمّا من يطلق عليه اسم العالم فهو من له معرفة في العلوم العقليّة ...بذلك تعرف خلوّ  بلادنا عن كثير منها...والعلوم في مدينة باريس تتقدّم كلّ يوم فهي دائما في الزّيادة»(2). بعد أكثر من قرن ونصف تلتقي التّساؤلات الفكريّة والسّياسيّة العربيّة المعاصرة التي يفرضها تسارع التّحديات الحضاريّة  مع صاحب الإبريز في معضلة عربيّة لم نتمكّن بعدُ من حلّها هي : كيف نتجاوز مرحلة استهلاك المعرفة ونتحوّل إلى منتجين لها؟ 
عند البحث عمّا أتاح لجهود رجال النّهضة العربيّة الفاعليّة والاستمرار نجد جملة عوامل أوّلها اللّغة. لقد أدركوا أنّها ليست مجرد أداة للتّعبير بل هي رَحِم التّفكير الجمعي وبؤرة الإبصار والإبداع وأنّها لذلك تتطلّب عملا تقويميّا لا غنى عنه. من ثمّ طوّعوها حتّى تتمثّل روحَ العصر ومقتضياته ولقوا في ذلك عنتا واضحا خاصّة في المراحل الأولى نتيجة ما ران عليها من تخشّب اللّفظ وركاكة التّركيب وهزال المضمون. لعل أفضل نموذج عن هذه اليقظة اللّغويّة- الفكريّة نستمده من كتاب « أقوم المسالك»(3) حيث نقرأ: «إنّ الأمر إذا كان صادرا عن غيرنا وكان صوابا موافقا للأدلّة لا سيّما إذا كنّا عليه وأُخِذ من أيدينا فلا وجه لإنكاره وإهماله بل الواجب الحرص على استرجاعه واستعماله. وكلّ مستمسك بديانة وإن كان يرى غيره ضالاّ في ديانته فذلك لا يمنعه من الاقتداء به فيما يستحسن في نفسه من أعماله المتعلّقة بالمصالح الدّنيويّة ...وشأن النّاقد البصير تمييّز الحقّ بمسبار النّظر في الشّيء المعروض عليه، فإن وجده صوابا قبله واتبعه سواء كان صاحبه من أهل الحقّ أو من غيرهم، فليس بالرّجال يُعرف الحقّ بل بالحقّ تُعرف الرّجال»(4). 
نلمس في هذه الفقرة ذلك الجدل المبدع بين اللّفظ الذي ما يزال عصيّا وبين المعنى الجديد ومنهما ترشح أهمّية تقويم اللّغة- الفكر حتّى تستوي على عودها مجسّدةً قيمة من قيم الحداثة وهي التّعدديّة التي تقتضي تفاعلا بين الإقرار بتحوّل الذّات والإقبال على فهم الآخر المختلِف. حصل ذلك منتصفَ القرن التّاسع عشر في حين أنّ ذاتَ الرّهان يقضّ اليوم مضاجع الكثير من النّخب العربيّة بمشاربها التّحديثيّة والإحيائيّة. 
العامل الثّاني الذي مكّن لنصوص الإصلاح من الاحتفاظ بنسغ معاصر حتّى اليوم هو أنّها كانت ناقدة لواقعها ومؤسّساتها وفكرها من الدّاخل الثّقافي. كانت، رغم تحدّيات الصّراع الحضاري ومخاطر الاستلاب الثّقافي، لا تتردّد في إعادة النّظر في القيم والمفاهيم الإسلاميّة من زاوية حاجات العصر بما يواجه القصور الذّاتي الذي أفقد الهويّة الدّينيّة مصداقيتها. قد لا يعير البعض أهمّية للفرق بين ما وقع ويقع من نقد للتّراث والفكر الدّيني من خارجهما  وبين خطاب ناقد لا يقطع مع الخصوصّيات التّي تميّز المجتمع ثقافيّا في تمثّله للحياة وكيفيّة تفهّمه لما يجري في المجتمعات المعاصرة. النّقد من الخارج يرى في التّراث تركة ثقيلة وإرثا عائقا عن التّحديث، لذلك فهو يظلّ نقدا هامشيّا ودون فاعليّة مهما حاول الاستفادة من علوم العصر ومناهج تحليله. هذا في حين أنّ النّقد من الدّاخل ينطلق من اعتبار التّراث لازمة من لوازم الانتقال النّهضوي ومدخلا يفتح أمام النّخب والمجتمع طرقا مبتكرة في التّفكير والاتصال بالتّاريخ، لذلك فإنّ فاعليته تكون أوثق لكون التّراث المعتمَد عليه يظلّ كيانا فاعلا في الواقع وطاقة يمكن أن تتولّد منها المعاصرة.    
من بين الأمثلة التي يمكن استحضارها في هذا المستوى ما كتبه محمد عبده (5) في « حكم الشّريعة في تعدّد الزّوجات» حيث حمل على الذين اتخذوا التّعدد«طريقا لصرف الشّهوة واستحصال اللّذة لا غير، وهذا لا تجيزه الشّريعة ولا يقبله العقل»(6) داعيا إلى الاقتصار على زوجة واحدة لصعوبة العدل الذي «اشترطته الآية: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾»(7).
ما نقرأه اليوم بعد أكثر من قرن يستعيد جوهر تلك النّصوص في مقاربتها للتّراث بالتّأكيد على أنّ التّجديد لا بدّ أن يأتي من داخل الفكر العربي، حتّى لا تفتقد المجتمعات العربيّة الإسلاميّة  السّمات والخصوصيّات المميّزة. بدون ذلك ينقلب التّراث إلى صور باهتة لا تنطوي إلاّ على التّقاليد ممّا يُعجِز الثّقافة الخاصّة عن التّحكّم في واقع النّاس وسلوكهم، فاتحا سبل تشكّل المجتمع بثقافة أخرى. 
يبقى بعد هذا عامل ثالث تجرّأت عليه نصوص النّهضة العربيّة خاصّة مع محمد عبده فاكتسبت ريادة لا يبدو أنّ المفكرين العرب المعاصرين تمكّنوا من تحقيقها. ما نقصده هو الشّروع في تجديد علم الكلام من خلال «رسالة التّوحيد»الصّادرة سنة 1897. في تلك الوثيقة التي لحقتها على يد رشيد رضا بعد وفاة المؤلّف تحويرات غيّرت جملة من أهم مضامينها نجد تحوّلا فكريّا هامّا استأنف به المؤلّف بحثا توقّف منذ قرون. لقد تناول فيه قضايا العقيدة الدّينيّة بعيدا عن الرّوح السّجاليّة التي ميّزت أعمال عموم المتكلّمين والتي كانت مسكونة بهاجس حماية العقيدة الدّينية من « أهواء أهل البدع والزّيغ».
أمّا «رسالة التّوحيد» فقد اتجهت إلى اعتبار أنّه لا معنى للإصلاح الدّيني بدون إعادة بناء العقائد الدّينية بصورة تحدّد المعاني الحيّة المترتّبة عن وحدانيّة اللّه ووجوده بالنّسبة إلى المؤمن في حياته المعاصرة. كانت الرّسالة في ذلك متجاوزة للنّزعة التّجريديّة التي ميّزت عموم المراجع الكلاميّة وما اعتمده من جدل صوري غدا عقيما بما جعل الفكر الدّيني يبدو بناء منخورا. 
مع أنّ المسعى الحقيقي لــ «رسالة التّوحيد» لم يتّضح على الصّورة التي أرادها مؤلّفها، فإنّ ما بقي من تلك الرّسالة يؤكّد على العلاقة بين الدّين والفلسفة وعلى الحاجة إليهما معا لتفعيل واقع المسلمين، وأنّ ذلك لا يتمّ إلاّ بإعادة النّظر في المأثور من الفلاسفة المسلمين وباعتبار ما جرى على المعرفة الإنسانيّة من تطوّر.
تلك هي الدّلالة الرّياديّة لــ «رسالة التوحيد»: تأسيس « علم كلام جديد» يجعل معاناة الوحي في ضوء مساءلات الحداثة المعرفيّة والوجوديّة. هي مساءلة فكريّة كبرى تسعى لإنهاء الحرج المكتوم في العالم الإسلامي المُنجَرّ عن المسألة الإيمانيّة. إنّه الحرج الكبير الذي يتطلّب معالجة جريئة تُخرج عالم المسلمين من الأزمة العقديّة التي عبّر عنها أحد المفكرين العرب المعاصرين(8) حين قال: «كلما حصلـت مواجهـة بين الإسـلام والعقـل تقـع الفضيحـة وينهـزم العقـل أمام الإســـلام» .
الهوامش
(1)   رفاعة رافع الطهطاوي (1216 هـ/1801 - 1290 هـ/1873) مترجم مصرى كبير من عصر محمد على باشا و من رموز النهضة المصريه الحديثه و التّنوير المصرى.
(2)   رفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز - مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة -مصر - 2012 - ص. 180
(3)   خير الدين التونسي أو خير الدين باشا (1820-1890) هو أحد رموز الإصلاح بالبلاد التونسية
(4)   خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك - ص. 12
(5) محمد عبده حسن خير الله، (1849 - 1905). فقيه مصرى، من مؤسّسى النهضة المصرية الحديثة، ومن كبار الدّعاه للتّجديد والاصلاح والتّنوير.
(6) محمد عبده، الأعمال الكاملة تحقيق د.محمد عمارة ، ج:2 ، ص 87.
(7) سورة النّساء - الآية 3
(8) الكلمة للأستاذ المرحوم هشام جعيط أدلى بها ثمانينات القرن الماضي.