قبسات من الرسول

بقلم
الهادي بريك
من هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ ( قراءة في خلقه وخصائصه وسيرته ) الحلقة السّابعة : لا تكلّف ولا أج
 وما أنا من المتكلّفين
قال سبحانه:« قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ *وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأهُ بَعْدَ حِينٍ»(1). هذا بعض من هويّة صاحب الرّسالة الإسلاميّة الخاتمة. وهي هويّة حرص الشّارع الكريم على نحتها بجلاء وقوّة منذ الأيّام الأولى من البعثة. وضوح أيّ رسالة كما هو وضوح صاحبها شرط مشروط لنجاحها. من لازمات هويّة صاحب الرّسالة ـ محمّد ﷺ ـ أنّه ينبذ التكلّف نبذا إذ جاء ذلك إسما وليس فعلا مع عدم الإنتماء إلى المتكلّفين مجرّد إنتماء. 
التكلّف : من فعل تكلّف يتكلّف تكلّفا. وهو فعل مزيد من المجرّد : كلف (بفاء مفتوحة وعين مكسورة). كلف يكلف كلفا معناها : هام بالشّيء هيمانا. ومن ذا تقول العرب : كلف فلان بفلانة. أي أحبّها حبّا جمّا فهو بها كلف. قال الشّاعر الحصريّ القيروانيّ في قصيدته «يا ليل الصّبّ متى غده» ذائعة الصّيت:«كلفٌ بغزالٍ ذي هيفٍ». أي هائم بفتاة شبّهها بالغزال هيفاء مقبلة. كما قال كعب بن زهير صاحب البردة في حضرة محمّد ﷺ في قصيدته الأشهر بانت سعاد: «هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً». 
الكلف إذن هو شدّة الحبّ والوله والهيام. تكلّف الشّيء فهو به متكلّف تعني : كلف به كلفا مغشوشا فهو لا يحبّه ولكنّه يظهر ذلك. ومن ذا فهو يزيد عليه وينقص منه. 
التكلّف إذن هو التصنّع الذي يرقى مراقي صعبة لا يحسنها. فهو يفعل كما قال الشّاعر :
«يا باريَ القوسَ بريًا ليس يحسنهُ 
لا تظلمَ القوسَ اعطِ القوسَ باريها»
نبذه ﷺ التكلّف هنا ـ نحتا من اللّه لرسالة الإسلام ونبيّه ﷺ ـ يعني أنّه يبلّغ رسالة ربّه كما أنزلت إليه من دون أيّ زيادة أو نقصان. فهو كلف بها غير متكلّف. وما يفسّر ذلك قوله التّالي :«إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ». نبذ التكلّف هنا يعني أنّ أيّ رسول لا يبلّغ النّاس إلاّ ما يأتيه من عند ربّه فهو المشرّع صاحب الشّرعة والمنهاج معا. وليس لذلك الرّسول عدا البلاغ المبين. ولكنّ ذلك لا يقصر على الرّسول. وما أظنّ إلاّ أنّ أتباع ذلك الرّسول نفسه مكلّفين بنبذ التكلّف. إذ أنّ بعضهم من ورثته (العلماء ورثة الأنبياء). ومن هؤلاء من يحسن نبذ التكلّف فلا يتزيّد في الدّين كلمة واحدة لم يأذن بها اللّه أو يقتضيها التّحرير السّديد وتنوير العقل الرّشيد ولا ينتقص منه كذلك كلمة واحدة. تلك هي الآفة التي حذّر منها هو نفسه ﷺ في حديثه: «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين (وهم المنتقصون تارة أو المتزيّدون أخرى. أي أنّهم هم المتكلّفون بالتّعبير القرآنيّ) وإنتحال المبطلين وتأويل الجاهلين». مناسبة هذا النّزول هو أنّ المشركين ـ وغيرهم من أهل الكتاب وأصحاب الأهواء في كلّ زمان ومكان ـ كانوا ينشدونه ﷺ أن يتنازل عن شيء ممّا أنزل إليه ليقع بينهم إلتقاء ما في نقطة ما سيما في المعتقدات العظمى التي لا تقبل ذلك. ذلك أنّه يكبر حقّا على أصحاب الأهواء في كلّ زمان أن يفيؤوا إلى الحقّ فيئة واحدة، سيما إذا كانوا رؤوسا ولهم أتباع، أو أنّهم يجنون من ذلك ريعا ومالا وجاها. 
نبذ التكلّف إذن موجّه إلينا نحن اليوم وقد كثر فينا المتكلّفون الذين يريدون إنتقاص شيء من الإسلام يظنّون أنّه لم يعد يناسب العصر، أو الذين يريدون إستزادة شيء آخر منه يظنّون أنّه أدعى إلى التّديّن والإلتزام. ومن ذلك كان التّأكيد كبيرا على الصّفة الوسطيّة المعتدلة المتوازنة لهذا الدّين الذي جاء مختوما بقوله سبحانه : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»(2). والكامل يشينه كلّ تزيّد ولو جاء من متديّن حريص على النّاس. ولذلك تورّط كثيرون ـ بحسن نيّة ـ في وضع أحاديث نسبوها إليه ﷺ يظنّون أنّها ترغّب النّاس فيه. وليس ذنبهم هذا بأدنى من ذنب المتكلّفين في الإتّجاه المضادّ من الذين ينتقصون من الدّين شيئا بدعوى مناسبة العصر.
ما أسألكم عليه من أجر
ارتباط نبذ الأجر بنبذ التكلّف واضح. ولحمته أنّ من يبتغي من غيره أجرا فهو مرشّح لتكلّف يرضي به غروره. وقديما قال المناطقة : «الغنم بالغرم». غنم الأجر يقابله غرم التكلّف الذي ينتقص شيئا أو يتزيّد شيئا بحسب هوى صاحب العمل. ولذلك تقدم نبذ الأجر على نبذ التكلّف. والمعنى هو : لو كنت أسالكم أجرا لنال طلبكم إليّ التكلّف إلتقاء معكم منيّ منالا. فإذ لا أجر منكم لا تكلّف منّي. ولكنّ نبذ الأجر ـ وهو عامّ لكلّ نبيّ ورسول من قومه ـ تتابع في القرآن الكريم مرّات كثيرات. فهو صبغة ثابتة من صبغات هويّة الرّسالة وهوية صاحبها ﷺ. ومن ذلك قوله سبحانه في سورة الشّعراء المكيّة خمس مرّات متعاقبات «وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ»(3) وكان ذلك بمناسبة قصّة كلّ رسول مع قومه. وسمّى هذا الأجر في سورة المؤمنون المكّية خرجا فقال سبحانه في سؤال إستنكاريّ : «أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ  وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ»(4). وقال في موضع آخر : «قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ»(5). 
نبذ الأجر من أصحاب الرّسالات الإلهيّة إلى أقوامهم حكمته مزدوجة :
- الحكمة الأولى هي ألاّ يظنّ مرضى القلوب منهم أنّ هذا الرّجل إنّما يبتغي مالا وجاها ودنيا، فيسرعون إلى أشباع ذلك فيه. وقد عرض هذا نفسه عليه ﷺ في مكّة فركل كلّ ذلك بكلمة واحدة أيأستهم من شراء نفسه بالمال. وعندما يكون الأمر هديا إلهيّا يحيل إلى الإيمان أو الكفر ثمّ إلى الجنّة أو النّار، فإنّ الأمر جلل على معنى تجريد الدّعوة وصاحبها من كلّ شبهة إرتشاء. وهو الأمر الذي وقع فيه بنو إسرائيل من بعد أنبيائهم كثيرا. إذ ورث هؤلاء رجال دين قال فيهم اللّه سبحانه محذّرا إيّانا نحن خطابا فصلا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ»(6). 
ومن ذا نحتت الرّسالة الإسلامية وفي كلّ العصور ومع كلّ نبيّ بهوية عنوانها ألاّ يغنم الرّسول شيئا من دنيا النّاس الذي يدعوهم إلى اللّه سبحانه أن يظنّ أنّه دعيّ يريد مالا ودنيا ولا يريد هداية. ناهيك أنّه في الحالة الأخيرة وإيغالا في تجريد الإسلام ونبيّه من تلك الشّبه القاتلة لا يأخذ عليه السّلام حتّى مجرّد الصّدقة ولا آله معه كذلك. إنّما الهديّة. كما أنّه لا يرث ولا يورث، وما كلّ ذلك سوى لتكون الرّسالة الخاتمة بصفة خاصّة خالصة للّه وحده سبحانه، لا تخترمها أيّ شبهة من شبهات الهوى والدّنيا. وحتّى يؤمن من يؤمن عن بيّنة ويكفر من يكفر عن بيّنة كذلك. 
- الحكمة الثّانية من ذلك : أن يظلّ ورثة ذلك النّبيّ ﷺ على ذلك المنهج الصّافي الخالص، فلا يأكلون أموال النّاس أجرا لما يدعونهم إليه. عدا أنّ في هذا تفصيلا لا مناص منه. ذلك أنّ الهداية من الضّلال إلى الإسلام ـ سواء لمن كان متمحّضا لها بالكليّة أو إقترفها إتّفاقا غير دائم ـ تخضع لهذا القانون ذاته. أي أنّه لا يأخذ على ذلك أجرا بأيّ صورة كانت. إلاّ إذا كان أجرا ليس إبتدائيّا ولا مشروطا ولا حتّى محلّ طمع منه. ولكن أثيب على ذلك من بعد ذلك ـ وليس من قبله أو في أثنائه ـ فهذا لا يعدّ أجرا ولا شيء فيه. أمّا ما عدا الهداية الأصليّة ـ أي من الكفر إلى الإيمان ـ فلا حرج في أخذ الأجر عنها. ولذلك يتفرّغ النّاس اليوم ومن قبلنا تفرّغا كاملا أو جزئيا لمثل هذا. فمنهم المؤذّن ومنهم الإمام والخطيب والدّاعية والعالم والفقيه والمفتي والكاتب وغير ذلك من الوظائف الدّينية. ولا حرج إن خالطها من حين لآخر مشهد من مشاهد الهداية إلى الإسلام من بعد ضلالة عملا بقانون الأكثريّة والأغلبيّة. ولا عبرة للقليل الشّاذّ. 
ذلك هو البيان الذي لا مناص منه في مسألة نبذ الأجر ذي الأصل النّبويّ ولكن مراعاة للحكمة الأولى ذاتها ينطبق هذا على ورثة الأنبياء عليهم السّلام.
لا إكراه ولا كبر. إنّما تواضع جمّ
ما ورد في بعض المشاهد في القرآن الكريم في هذا الصّدد عجيب أشدّ العجب. ذلك أنّه ينحت هوية الرّسالة الإسلامة وهوية صاحبها ﷺ بطريقة نحن بأشدّ الحاجة إليها كي لا نضلّ طريق النّبوّة. من ذلك قوله سبحانه : «قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي»(7). وقوله سبحانه في موضع آخر: «قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ»(8). وقوله في موضع آخر : «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي»(9). وقال في موضع آخر : «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ»(10). 
كلّ ذلك يساهم في نحت تلك الهوية الإسلامية التي عليها نبيّ الرّحمة محمّد ﷺ. فهو الذي يعلم أنّه على الحقّ المبين. بل يعلم أنّه هو آخر إنسان ينطق بإسم اللّه بإذنه وبإسم الحقّ، ولن يتقمّص هذا أحد بعده حتّى يوم القيامة. ومع ذلك كلّه ترى بنفسك خطابه للنّاس في مكّة إذ يتواضع لهم بقوله أنّ الضّلال لا يصيب إلاّ صاحبه ولا يكرّ على غيره. 
وهو نفسه لو كان ضالاّ ـ وهو يعلم أنّه غير كذلك ـ فلا يحمل عنه أحد منهم مثقال حبّة خردل من مسؤولية. بل إنّه ينسب إلى نفسه ومن معه الإجرام مشاكلة لهم إذ أنّهم يعدّونه كذلك. فلا يصطدم معهم بل يتواضع لهم وهو يعلم أنّه هو على الحقّ اليقين المطلق وهم على الضّلالة المطلقة، وينسب إلى كلّ فريق ما هو به أليق. 
عجب عجاب أن يكون هذا هو خلقه ﷺ مع أولئك المشركين المعتدين العتاة الذين يعيّرونه بما هو فيهم. ورغم كلّ ذلك يتواضع لهم ويشاكلهم في تعبيراتهم إبتغاء أن يحقنهم بأنّ عليه البلاغ وليس الهداية التي هي بإذن اللّه وحده سبحانه. وأنّ الهداية والإضلال بيد اللّه وحده. وأنّه هو نفسه محاسب عمّا حمّل به بمثل ما هم محاسبون على ذلك. وأنّه لا تزر وازرة وزر أخرى. وأنّ الخصومة اليوم حول فكرة وليس حول شخص ما. 
ذلك هو الذي يريد أن يرتفع إليه النّاس. أي أن تكون المعركة حول فكرة. وذلك حتّى يحضر العقل ويغيب التّقليد. 
خلقه لم يقصر على نبذ الإكراه فحسب. لا. بل تجاوزه إلى تواضع عجيب لا يقدر عليه إلاّ من باع نفسه بالكلية إلى الله وحده سبحانه، ومن يقن في بضاعته وفي ما عنده. ذلك أدعــى أن يؤمن النّاس الذين هم في سورة غضب وشره ولهث خلف المتــاع الزّهيــد. فإن إصطدمت معهم نفروا منك ومن بضاعتك. والثّمرة المرّة دون ريب ـ هنا ـ ضلال وكفر وإكراه لغيرهم وقابلات سوداوات حالكات.
ثلاثيّة الهويّة الإسلاميّة :
لا كبر ولا أجر ولا تكلّف
تلك هي الثّلاثية التي إذا إنصبغت بها رسالة فهي منداحة بإذن اللّه سبحانه طال الزّمن أم قصر. وأولئك هم النّاس : إذا تواضعت لهم وهم في غيّ ما بعده غيّ، وإستغنيت عن دنياهم حتّى وأنت تتضوّر جوعا، وأشفعت ذلك ببساطة تلقائيّة لا تكلّف فيها، فإنّك جامعهم بإذن اللّه وحده على مائدة الخير. طال الزّمان أم قصر. ولكن دون ذلك جبال شامخة من الحلم والصّبر والثّقة واليقين وما يلقّاها إلاّ الصّابرون.
الهوامش
(1) سورة ص - الآيات 86-88.
(2) سورة المائدة - الآية 3.
(3) سورة الشعراء - الآية 164.
(4) سورة المؤمنون - الآية 72.
(5) سورة سبأ - الآية 47.
(6) سورة التوبة - الآية 34.
(7) سورة سبأ - الآية 50.
(8) سورة سبأ - الآية 25.
(9) سورة هود - الآية 35.
(10) سورة سبأ - الآية 24.